سالم الكبتي
كان هذا الأسلوب هو السائد في المجلس، “واحد يغني والآخر بجناحه يرد عليه“، رغم فخره بإنجاز مشاريع المدارس والتعليم ومشروع الجمعيات والاجتماعات وقانون الصحافة ومشروع الترتيب القضائي ونظام البلديات، وهي كانت أنجزت أوبوشر في مناقشتها، قبل إنقضاء المجلس، في فترته الأولى.
وحاول المجلس في فترته الثانية الأقتراب من الخطوط الحمراء بمناقشة موضوع من طالهم النفي والأبعاد لأسباب سياسية، وكان الرد من مومبيلي واضحاً لا لبس فيه عبر رسالته المؤرخة في 2 يوليو 1925 إلى المجلس بقوله:
(.. إنني معتقد بأن الوقت المرهون لم يحن للآن للأعادة إلى الوطن عناصر كانوا باعثاً على الفتن والاضطرابات والعبث بالأمن العام).. وهكذا لم يكن بمستطاع المجلس (الأبداع بما ليس بالأمكان) !.
الشعـر.. والمجلس:
تميزت الفترة الثانية للمجلس بإندلاع (معركة شعرية ضارية) بين أحد نوابه، حسين شهاوي، ومجموعة من الشعراء: السنوسي بوصفحة، مفتاح الحقّ، مجاور عجبه، ودامت أياماً طويلة وظلت تمثل مواقف الطرفين والدفاع عن وجهة نظر كل منهما تجاه المجلس ورؤيته له، وهي بالتالي (موقف ورؤية) للآخرين من بعيد.
إن هذه المعركة أو المساجلة توثق للأحاسيس المعلنة أو الدفينة في الصدور تجاه المجلس والسخرية منه لدى جانب، والفخر والأشادة به والأعتراف بالموقف دون خجل لدى آخر، وتدلنا دلالة كبيرة بأن الكلمة أمضى سلاحاً في أحيان كثيرة.
كان شهاوي فارساً، وسيماً، وميسور الحال، فهو صاحب (نخل شهاوي) وما فيه من أراض وأملاك قرب قمينس، وقد شارك في معارك الجهاد الأولى ضد القوات الإيطالية في ساحل بنغازي وانتمى مع أفراد من عائلته إلى دور بنينا وأجاد، وفقاً للروايات، استخدام القنابل اليدوية المعروفة ذلك الوقت.
وكان شاعراً يجيد قصائد الغزل في المناسبات والأفراح، وقد حز في نفوس رفاقه استمراره في عضوية المجلس خلال الفترة الفاشية التي قوضت كل الأشياء وطاردت المجاهدين، وأعتقل في دور أجدابيا لثنيه عن موقفه، ثم عاد إلى مقر إقامته بعد أن غافل الحراس، وأنتهت الأمور بمقتله عام 1925.
في فترة جهاده، له قصيدة مشهورة يخاطب فيها المجاهد أحمد الشريف عقب سفره إلى تركيا عام 1918 مطلعها:
(على الله يا سيدي تاتينا
ما تعطينا..
للي حكمه جار علينا..)
لكن التبدلات في المواقف والتغيرات قادت شعره إلى محيط آخر وجعلت منه صوتاً إعلامياً قوياً لمرحلة المجلس وعضويته به، وحتّمت عليه مواجهة أولئك الشعراء الكبار مثله.. ولكن بمفرده في وجه العاصفة الشعرية !
بدأ المساجلة، في سخرية من المجلس، السنوسي بوصفحة قائلاً:
(مبعوثان وشيخ مشايخ
حلماً كايخ..
يفرغ غير أوكال طبايخ)
ورد بوشهاوي مفتخراً:
مبعوثان وشيخ وعمده
والطلياني جرّي بنده..
وأنتوا يا اللي باراكنده
ناس طفايخ..
تشقوا بالموال الكايخ
مبعوثان وشيخ مجنس
في كل قرانات يونّس..
ماني كيفك غير تكنس
باطل م الدوران ونايخ
ويرد الحقّ، وهو من أقارب شهاوي، مفتخراً بقوة المجاهدين:
(كان بقولك جرّي بنده
باراكنده
تهلب ع الكافر لاعنده
وينوضن زندات بزنده..
منهن جيشك راح ملايخ
كم قطع غرده في غرده
ليلة تعييطه بصرايخ
كم شيخ مسمّي له عنده
ماي شوخة وحدين زلايخ
مكسور الواحد بالقنده..
دشش عظمه راح شلايخ
لا يعرف ربي لا حمده..
باع الدين بشوط طبايخ
م الكافر جت عينه رمده
قدر الشايخ..
دفل وفوق الخد لبايخ)
ويواصل شهاوي اعتداده بنفسه في جزء من دفاعه عن موقفه:
(مبعوثان وشيخ معنّى
مترتب صاحب رسميه
لحكام الثلثين شهنه
له نيشان وله حيثيه
يفهم في القانون وفنه
والشرع وحكم العدليه
وعارف حقا فرض السنه
وامور الدنيا جمليه..
ومتغطي بلباس الجنه
والكاطات المحروقيه
وبرنوس الزقزة يثنى
فوق كنادر فرنيزيه
ولباسه يفوحن بالبنه
عطر ولاونطا مسكيه
وانتوا كيف شبوهة فنه
ما فكيتوا يوم لويه
ما عشتوا في وسط مدنّه
في لرض الصحرا وحشيه
لو كان تجيبه قسميه
له راسه بالسيف نرنه
يطيح شلايخ.. يقعد نايخ
نوريه التحسين كشايخ).
والملحمة طويلة.. قد تتاح فرصة قادمة لدراستها وعرضها وبحثها وفقاً لظروفها وزمنها، وهي في مجملها إنعكاس لمواقف ورؤى واتجاهات متقاطعة، ويلاحظ أن مفتاح الحق، رثى قريبه حسين شهاوي عقب مقتله، رغم تلك التقاطعات !
…
يتبع
_______________