سالم الكبتي

إن عام 1908، سيلقي بظلاله في العموم على (ولاية طرابلس الغرب): ستصدر صحف العصر الجديد، والكشاف، وتعميم حريّت، وأبوقشه ، والأسد الأسلامي، ثم سيتوقف نشاط هؤلاء المبعوثين الليبيين عندما سمعت أصوات المدافع الإيطالية وهي تدوي بشراسة في الهاني وجليانة أواخر عام 1911.

تلك تجربة أولى دامت ثلاث أعوام.. لا غير !

مخاض آخر.. لكنه عسير:

شكلت أعوام الحرب العالمية الأولى، وتداعيات معركة القرضابية التي وحّدت الليبيين وحدة حقيقية في مواجهة القوات الأيطالية يوم 28 أبريل 1915، مخاضاً طويلاً وعسيراً للواقع الليبي في منظوره العام فعُقد مؤتمر مسلاته في 16 نوفمبر 1918 ووُلدت منه الجمهورية الطرابلسية بزعمائها الأربعة: سليمان الباروني، رمضان السويحلي، عبد النبي بالخير، أحمد المريّض، وبنظامهـا وبمجلسهـا الأستشـاري وبـ (الأمير عثمان فؤاد) و (عبد الرحمن عزام) – من بعيد ! – وبصحيفتها (اللواء الطرابلسي) لاحقاً، ثم عقد صلح سواني بنيادم في أبريل 1919، الذي إنهار في فترة قصيرة ولم يصمد أمام سياسة (التفريق) و (اللعب على الحبال) التي أجادها الأيطاليون بقصد زرع الفخاخ والأنشقاقات بين الزعماء.

وفي برقة (التي إلتزمت قيادة واحدة) كانت سلسلة من المفاوضات والاتفاقات قد بدأت منذ عام 1916 في الزويتينه (التي يستوي العنب فيها صيفاً) بين الأمير إدريس والجانبين الأنجليزي والأيطالي، وتشكلت حكومة إجدابيا عام 1917 عقب إتفاقية عكرمة، ثم أعلنت الحكومة الأيطالية دستوراً لبرقة في 13 اكتوبر 1919 منحت بموجبه الجنسية الإيطالية لليبيين وأقيم بمناسبته إحتفال مهيب في شارع الكورنيش في بنغازي الذي أصبح (شارع الدستور) تلى فيه دي مارتينو، عضو مجلس الشيوخ ووالي برقة نصوص الدستور بالكامل أمـام الحاضرين، فيما صدر من بعدُ القانـون الأساسي لبرقة أو (قانون التنظيم) الذي ترتب عنه تأسيس البرلمان (مجلس النواب) في برقة، ولم يحدث ذلك في أختها طرابلس.

القانون الاساسي

وحسب وجهة النظر الأيطالية، يقول برتشارد: (إن أفضل ما يمكن قوله بخصوص الدستور في برقة الشبيه بدستور إقليم طرابلس، أنه تضمن قبولاً ضمنياً بالسيادة، وأن البرلمان قد يَسَّر للموظفين إتصالاً شخصياً مع زعماء القبائل)، فيما إنتقد – على حدّ قوله – كتّاب الفترة الفاشية – فيما بعد – حكومة ذلك الوقت (الإيطالية) بشدة على منحها هذين الدستورين إذ (إعتبرت عواطف الرئيس ولسن – صاحب المبادئ الشهيرة – هي التي أوحت بهما ولم تحظ بالقبول، وتطرّف أحـد هؤلاء الكتّاب في قوله: (ذينك الدستورين كان مكتوباً عليهما أن يحملا بذرة الشر).

تواصلت هذه الخطوات (السلمية) بتوقيع إتفاقية الرجمة في 25 أكتوبر 1920، وبعدها بشهر عُقد مؤتمر غريان الشهير، وكان من بين أهم بنود الأتفاقية تكوين مجلس نيابي في برقة يشمل في عضويته ممثلين عن المدن والقرى والواحات وبحيث يُصار إلى إختيار وترشيح النواب في مدة قريبة، وهو يكاد يكون أول (عمل سياسي) في منظوره المحلي، يحدث في ليبيا بعد إعلان الجمهورية الطرابلسية، ويعرفه الليبيون في برقة بمعناه الصريح والواضح، إلى جانب كونه أول (برلمان عربي) في المنطقة بأسرها، ولأن ذكرى (المبعوثان التركي) القديم ظلت أصداؤه تتردد في أعماقهم فقد تعارفوا أيضاً على تسميته شعبياً بالمبعوثان.

وتلك تجربة ثانية.. بدأت في النمو وسط أرض صلدة.. جامدة متراكمة الصخور!

وخطوات موازيــة:

إنسجاماً مع مراحل هذا (النشاط السلمي) الجديد، التي أحياناً تتقدم ثم تتأخر لتتواصل ثانية، خصوصاً بعد عام 1915 (تداعيات القرضابية) وهدوء القتال نسبياً، وحدوث بعض الظروف الأجتماعية الخانقة والمجاعات والأمراض الفتاكه (أيام الحرب العالمية الأولى)، شرعت إيطاليا في نسج خيوط مكملة لمشروع (عباءتها) متمثلة في محاولات الأستمالة لبعض الأعيان والوجهاء وشيوخ القبائل في المدن والدواخل بعدة طرق كان في مقدمتها إنتهاج سياسة التفريق، وضرب القوى ببعضها، وإغداق الأموال، وإهداء (البرانيس) فعلى سبيـل المثـال وقّـع بعض من العمد والشيوخ في (المارمريكاالبطنان) على جملة من التعهدات والمضابط وقوبل ذلك بسخرية من (بلحوق القطعاني) في نماذج من شعره، وانتقد الشاعر (بورويله المعداني) بعض الشيوخ في المنطقة الوسطى وما جاورها الذين ركنوا إلى الطليان بقوله:

(مبروك عليكم ما درتوا

بعد إخترتوا..

خاطيتوا لديان كفرتوا )

وسيسجل الشعر الشعبي في حافظته القوية موقفه إزاء مثل هذه الحالات، شرق البلاد وغربها، وربما سيكون في مرحلة مجلس نواب برقة الثانية أكثر قرباً ً في ملامستها وتوثيقها كما سنرى، والشواهد كثيرة في هذا السياق على أي حال.

المشهد في بنغــازي:

قبـل تكوين المجلس بمـدة قصيرة، شهدت بنغـازي، في إطـار الفترة السلمية، إنتعاشاً سببه المباشر إرهاصات ومحاولات إستفادت، ولو بقدر متواضع، من ترتيبات هذه الفترة، حيث صدرت صحيفة (الوطن) عام 1920 في بضعة أعداد لمحررها عوض بونخيله، وهو أحد شباب بنغازي الذي إنضوى سراً في مرحلة ماضية ضمن عمل وطني جمعه مع أصدقائه: أحمد مخلوف، وأبوبكر جعودة، وساسي بن شتوان، وعمر فخري المحيشي.

كما جرت في العام ذاته إنتخابات لأختيار عميد لبلدية بنغازي تنافس فيها عميدها السابق صالح باشا المهدوي، وحسين باشا بسيكري، ومحمد طاهر المحيشي الذي فاز عليهما بتوليه المنصب المذكور (سيصبحون نواباً في المجلس بعدئذ)، وتأسس أيضـاً في بنغـازي حزبان: (الحزب الدستوري) و (الحزب الديمقراطي).. (كانا في مبـدأ أمرهما حزبين محليين ثم أصبحا سياسيين تابعين للحكومة)، وقد هجا أحمد رفيق الأول بقصيدة منها:

الحزب الدستوري العربي

ينبوع الباطـل والكذب

قد لفق أحقر شرذمـة

ما ينقصهم غيـر الذنب

ما أنتم للطليـان سوى

بقر للخدمـة لا للحلب

وأنشئت عام 1921 مكتبة بوقعيقيص في ميدان الحدادة من قبل الشقيقين عمر ومحمد بوقعيقيص التي ساهمت بدور ممتاز في نشر الوعي الثقافي والمعرفي بما هو متاح بين سكان المدينة وبتوزيعها بعض الصحف والمجلات العربية القادمة من مصر.

إن هذا المشهد الذي تبدّى في بنغازي، سياسياً وإجتماعياً وثقافياً، كان بداية لأنطلاق إرهاصات أو محاولات ظلت تنتظر الفرصة تلو الأخرى لتعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم، ربما بالتحايل واستغلال المتاح، وقد يكون وراءه مجاراة لنظم لم يألفها المجتمع في بنغازي بل ليبيا عموماً.

المجتمع الذي كان أغلبه أمياً، ويعاني من الأمراض المتفشية بقوة صاعقة ومظاهر التخلف والفقر كانت تلوح واضحة خلف بوابات بنغازي الموصدة التي أقامها الأحتلال وظلت من سمات تلك الأعوام الصعبة التي نهض من رمادها مثل العنقاء: مجلس نواب برقة.

يتبع

_______________

مقالات