ابراهيم عبدالعزيز صهد
التطور الدستوري
بعد مداولات عديدة، أقر مجلس الأمم المتحدة الخاص بليبيا خطة تقدم بها السيد أدريان بلت لتنفيذ قرار الأمم المتحدة، وتتضمن الخطة ما يلي:
انتخاب المجالس المحلية في برقة وطرابلس وفزان في يونيو 1950.
اختيار اللجنة التحضيرية لأعمال الجمعية الوطنية التأسيسية في وقت لا يتجاوز يوليو 1950. (وهي اللجنة التي عُرفت بلجنة الواحد والعشرين).
انتخاب الجمعية الوطنية التأسيسية ودعوتها إلى الاجتماع في خريف 1950. (لجنة الستين).
تؤلف الجمعية الوطنية التأسيسية حكومة مؤقتة في أوائل عام 1951.
إقرار الجمعية الوطنية التأسيسية للدستور خلال عام 1951.
إعلان الاستقلال وإنشاء حكومة وطنية قبل 1 يناير 1952، وهو الموعد الذي حدده قرار الأمم المتحدة كموعد أقصى للاستقلال.
وبصدور قرار الأمم المتحدة، وبتشكيل المجلس الدولي، وبتعيين مندوب الأمم المتحدة، بدأت مرحلة جديدة عرفها المؤرخون بمرحلة بناء دولة ليبيا الحديثة أو مرحلة التطور الدستوري.
لم تكن مرحلة سهلة ميسرة، إنما كانت محفوفة بالمصاعب والتحديات والعقبات. كان على رجال ليبيا أن يثبتوا أنفسهم في ميدان لم يألفوه ولم يتدربوا عليه. كانوا يحسبون أن المرحلة ستكون مرحلة صراع داخلي سلمي من أجل بناء ليبيا الدستورية المستقلة.
وهكذا كانت المرحلة، غير أن محاولات عديدة بدأت من أطراف غير ليبية لعرقلة تلك الجهود المضنية التي كان أبناء ليبيا يبذلونها للتوفيق والتسديد، ولقيادة سفينة الاستقلال في هذا البحر المتلاطم من الأطماع الدولية التي وجدت لها مكانا حتى داخل مجلس الأمم المتحدة الخاص بليبيا.
كانت الخلافات سرعان ما تسوى، وكان تجاوز نقاط الإشكال هي السمة الغالبة، وكانت حلول الوسط تُغلّب على كل محاولات التشدد و التشنج، وكان تعاون السيد أدريان بلت غير محدود، فلقد أبدى تفهما لأوضاع البلاد وقام بتكييف إجراءاته بما يتناسب مع تلك الأوضاع، واتصفت إدارته بالحكمة وبالرغبة الأكيدة في الوصول بليبيا إلى موعدها مع الاستقلال في التاريخ الذي حددته الأمم المتحدة دون أي تأخير.
اللجنة التحضيرية (لجنة الواحد والعشرين)
تم – في الموعد المحدد– تشكيل اللجنة التحضيرية المعنية بالأعداد للجمعية الوطنية التأسيسية. وقد تألفت اللجنة مـن (21) عضوا، وأصبحت تعرف بلجنة (الواحد والعشرين). وانعقدت اللجنة في طرايلس، واتخذت قرارا بالإجماع يحدد الأسس والمبادئ التي تقوم عليها الجمعية الوطنية التأسيسية .
وفي الواقع فإن اللجنة التحضيرية قد استبقت الأحداث، وكانت بإجراءاتها التي اتخذتها في موقع مكنها من تجاوز كافة العوائق والعقبات، وأمكنها في وقت قياسي من أن تتفق على تكوين الجمعية الوطنية التأسيسية. .
الجمعية الوطنية التأسيسية (لجنة الستين)
وبتاريخ 25 نوفمبر 1950 عقدت الجمعية الوطنية التأسيسية أول اجتماعاتها بحضور أعضائها الستين وعدد كبير من الشخصيات الوطنية، وحضر الاجتماع كذلك مندوبون عن الإدارات البريطانية والفرنسية، وأعضاء السلك القنصلي، وممثل عن مندوب الأمم المتحدة (كان السيد أدريان بلت في نيويورك يحضر اجتماع الدورة الخامسة للأمم المتحدة)، كما حضر الجلسة الافتتاحية للجمعية جميع أعضاء مجلس الأمم المتحدة الخاص بليبيا فيما عدا مندوبي مصر والباكستان.
وقد تحركت الجمعية الوطنية التأسيسية بسرعة ـ رغم محاولات العرقلة التي واجهتها ـ وقامت بمهامها وأنجزتها، فشكلت لجنة فرعية لصياغة الدستور، وأقرت شكل الدولة والعلم، وكان من أول ما قامت به الجمعية – بعد إقرارها لشكل الدولة – إصدارها قرار مبايعة الأمير محمد إدريس السنوسي ملكا على المملكة الليبية المتحدة.
وفي السابع من أكتوبر 1951 أقرت الجمعية التأسيسية الدستور الليبي الذي يعده فقهاء القانون الدستوري وثيقة دستورية متزنة ومتكاملة.
كانت مناقشات الجمعية لمواد الدستور تسير بطريقة هادئة، وكانت تعمل على تسوية ما يعترضها من عقبات، وكان دور الأمير إدريس بارزا في تسوية أهم نقاط الخلاف سواء فيما يتعلق بالعاصمة أو ما يتعلق باختصاصات الملك.
عيد وحسبك أنه استقلال
كان موعد ليبيا مع الاستقلال في يوم الرابع والعشرين من ديسمبر 1951. في ذلك اليوم احتشدت الجماهير في ميدان 9 أغسطس بمدينة بنغازي .. ومن شرفة قصر المنار أطل الملك إدريس يعلن على العالم وعلى الشعب الليبي أن ليبيا منذ اليوم أصبحت دولة مستقلة ذات سيادة، وقال بأنه ” لَمِن أعز أمانيه أن تحي البلاد حياة دستورية صحيحة، وحث على الاحتفاظ بما اكتسبناه بثمن غال وأن ننقله إلى أجيالنا، وذكر الملك إدريس أبطال ليبيا ودعى بالرحمة لشهدائها، وحيا العلم رمز الجهاد والاتحاد وتراث الأجداد” .
كانت كلمات الملك ينقلها مكبر الصوت غلى الجماهير التي غص بها ميدان 9 أغسطس, وازدحم المواطنون على جانبي شارع الاستقلال الطويل، وامتلأت بهم الشرفات وأسطح المباتي … كانت المشاعر جياشة، والفرحة غامرة عارمة، والحماس متفجر، والأعلام الوطنية في كل مكان … وكان طلاب مدرسة الأمير ينشدون نشيدهم المشهور:
نحن يا ليبيا الفدى فاسعدى طول المدى
نحن لا نخشى الردى نحن كالأمس غدا
في الندى والشمام
وكانت الهتافات تشق عنان السماء، يرددها أبناء ليبيا، شيبا وشبابا، محيين الاستقلال، وكان الهتاف الغالب الذي طبع ذلك اليوم، هتاف مهيب فيه وفاء للشهداء ، وفيه ربط للماضي بالحاضر …. كان الهتاف قويا معبرا:
( عمر المختار أهاب بنا، باسم الشهداء نحييك ………. إدريس الأمة قاطبة جاءت بالتاج تهنيك)
كانت فرقة موسيقى القِرب التابعة لـ (قوة دفاع برقة) تعزف أنغاما شجية من معزوفة “البيت الأخضر” …. كان الاحتفال في مجمله احتفالا بسيطا، عفويا، معبرا. وكان يوما من أيام التاريخ.
خاتمة… وقفة وفاء وعهد
كانت تلك لمحات خاطفة من معركة الاستقلال .. إنها معركة لن تستطيع مقالة كهذه أن تحيط بها، وأنى للكلمات أن تحيط بالدماء والدموع والعرق.
أنى لي اليوم أن أحيط بمعركة مجيدة بكلمات قليلة. إنها قصة مشوار طويل حفرته سنابك خيل المجاهدين فوق هضاب الجبل الأخضر وفوق رمال القرضابية، وهي قصة عرس أمة مهرت استقلالها بالدماء الزكية الطاهرة فداء وتضحية، وهي قصة مجهود نضالي رائع اختلطت فيه الدموع والدماء والعرق.
إن استقلال ليبيا قد تحقق بفضل الله، ثم بعزيمة أبناء الوطن، لم تكن منة من أحد، وإنما كان تتويجا لجهود مخلصة محنكة ذكية، انتزعت الاستقلال انتزاعا من بين مخالب ذئاب الشرق والغرب.
وكان يوم الاستقلال بداية مشوار طال ثمانية عشر عاما، حفلت بإنجازات عملاقة لم نعرها أي اهتمام، وشهدت استقرارا وأمنا وطمأنينة لم نقدرها حق قدرها، وعرفت ليبيا خلالها تطورا مستمرا راسخا، كما شهدت أيضا بعض الإخفاقات والكبوات التي ركزنا عليها وسلطنا عليها الأضواء فتضخمت أمام أنظارنا وحجبت عنا الرؤية الواضحة.
أما أكبر إخفاقاتنا فقد تمثل في سماحنا للدعايات الواردة من وراء الحدود وعبر الأثير أن تشق صفوفنا، وأن تهيئنا لأن نفقد استقلالنا، ولقد صدق الملك إدريس وأصاب الحكمة حين حذرنا بأن “المحافظة على الاستقلال أصعب من نيله”.
واليوم .. نقف وقفة وفاء، ووقفة إكبار، ووقفة ترحم، ووقفة عهد ..
وفاء .. لأولئك الرجال الذين صنعوا الاستقلال.
وإكبار .. لجهادهم .. لجهدهم .. ووعيهم .. وإخلاصهم .. وكفاحهم.
ونترحم .. على أرواح الشهداء الأبرار الميامين.
ونترحم .. على أرواح الرجال الذين غادروا دنيانا بعد أن صنعوا ملحمة الاستقلال.
وعهد .. على خوض معركة الإنقاذ .. إنقاذا لبلادنا ليبيا .. وإنقاذا لشعبنا .. و إنقاذا للاستقلال .. من أجل يوم جديد ترتفع فيه رايات العزة بالله .. وتخفق في سماء ليبيانا بنود السيادة والوحدة الوطنية .. وترفرف فيه أعلام الاستقلال.
***
إبراهيم عبدالعزيز صهد – مفوض العلاقات الخارجية بحزب الجبهة الوطنية
____________
المصدر: مجلة الإنقاذ 1990