سالم الكبتي

أنتهت تجربة مجلس نواب برقه، وكادت أن تنجح لو واتتها فرصة صادقة من الأيطاليين، وظلت محدودة الأجل، فكانت في نصفها محاولة وطنية.. وجلّها خديعة إيطالية لم يحصد منها الليبيون سوى رجع الصدى الذي تكسر في النهاية على صخور الجبال، ثم قذفت به الشواطئ إلى البعيد !”

التفاصيل

ـ إرهاصات لكنها لم تستمر!

ـ مجلس ضم في تركيبته أعيان وشيوخ .. وطليان ويهود!

ـ فترتان للمجلس .. انتهتا بإخفاق

ـ حاول الأعضاء .. ولكن!

***

مدخـل ضـروري:

لا تزال بعض الموضوعات والقضايا التي تشكّل أبعاد وتفاصيل تاريخنا الليبي الحديث والمعاصر تتطلع إلى مزيد من البحث والدراسة والنقاش وتوجيه العناية بها على الدوام.

إن جوانب عديدة، في هذا التاريخ، مازالت بكراً لم تشق أرضها أي محاريث ولم يلتفت إليها الباحثون والدارسون بالصورة المطلوبة، رغم كل الجهود الطيبة التي بذلت من بعضهم في إطار دراساتهم التاريخية، وأعني هنا أن هذه الموضوعات وتلك القضايا لم تدرس بعد دراسة وافية ولم يطو عنها اللثام.. أو ثمة نواقص بشأنها لم تستدرك بعد.. ليس عن سوء نية بالطبع أو بقصد التجاهل.

ولكن لأسباب كثيرة تظل تتكرر حين الأشـارة إليها لعل في مقدمتها عـدم توفر المصـادر بشكـل كـاف وميـسر خاصة المحلية ، ولأعتقاد ظل سائداً بيننا، ولا يزال، يتعلق بتحاشي الموضوعات والشؤون التاريخية المتصلة بالأشخاص وبعض الرموز مؤدّاه ؛

أن ذلك ليس ملكاً للتاريخ وذمته حتى الآن، وأن هذه الموضوعات، تبعاً لتلك الرؤية، ستظل قيد الخصوصية (القاتلة) والحق الأُسري والعائلي وميراثاً من مواريث (القبيلة) لا يمسّه إلا المقربون !

ورغم هذا وذاك، لابد من المواجهة العلمية والدراسة المنطقية لإجلاء الغامض واكتشاف المجهول من تاريخنا أو (الغائب) عنه واستدعائه، وفي اعتقادي أن من بين هذه الموضوعات المهمة التي لم تبحث ويتم قراءة مسائلها بصورة علمية ويشار إليها بالتحليل والنقد مع مراعاة (زمنها وظورفها) دون مجاملة، هو الفترة السلمية أو فترة الاتفاقات والمفاوضات مع الجانبين الإنجليزي ثم الإيطالي التي شهدتها ليبيا ونشأت في سنوات الحرب العالمية الأولى (1914- 1918).

وكانت من أصدائها، بطريقة أو بأخرى، داخل بعض مناطق الوطن وتداعت ضمن :

  • (زلزال) ما بعد معركة القرضابية عام 1915،

  • وإعلان الجمهورية الطرابلسية عام 1918،

  • وظهور القانون الأساسي في طرابلس عام 1919،

  • ثم إعلان القانون نفسه ودستور برقة،

  • وصولا إلى تكوين مجلس النواب في برقة عام 1921 (الذي سأعرض لتاريخه من خلال بعض من وثائقه)، وغيرها من قضايا ذات أهمية تاريخية بالغة.

تجربـــة أولى:

لم يعرف الليبيون التنظيمات البرلمانية أو الحزبية، أو العمل السياسي إجمـالاً وخبايا دهاليزه وأسراره بالكيفية التي أنتشرت وبدأت في الظهور في أغلب بلاد العالم (فترة الحكم العثماني)، وانما كان النظام الأجتماعي وتقاليده وأعرافه هو السائد من خلال العائلة في المدينة أو القبيلة في الدواخل.

كانت هناك مجموعة بارزة من الشخصيات في المدن، وثمة من يمثل تلك العائلات في المجالس البلدية من الأعيان والتجار وبعض الفقهاء، أئمة المحلات ومختاريها، وكانت القبيلة في خط آخر – تقوم بأدوار فاعلة في محيطها الذي تعيشه وتدافع عن حقوقها ومصالحها المتعلقة في الغالب بالحرث والزراعة ومصادر المياه وأماكن الرعي وظروف التنقل، بالقـوة وأحياناً بالشعر الشعبي الذي (يمجّد تاريخها ويفخر ببطولاتها دائماً ويهجو غيرها !).

كان ذلك يقع في إطار حدود (وطنْها) عبر مجلس القبيلة أو شيخها أو وجوه القبيلة برمتها أو التحالفات و (المخاواة) مع القبائل المجاورة.. وحتى البعيدة.

كان لكل قبيلة (وطنْ) هو (معقد آمالها ورجائها)، وكان هذا (الوطن) بمفهومه المحدد لديها معروفـاً وواضحاً يتمحور في منطقتها وما جاورها.

وظلت مسألة الأمن، من حوله، إقتصادياً وإجتماعياً استراتيجية دونها الموت فيما كان بعض أعيان المدن يعينون من قبل السلطة مدراء أو رؤساء لهذه المناطق والتجمعات القبلية لألمامهم بالقـراءة والكتابة وحصولهم على نوع من الثقافة والدراسة في المدارس الرشدية أو العشيرة.

إلى عام 1908 – منذ قرن من الآن – ظل الليبيون يعتمدون هذا النظام الأجتماعي الخاص وبرضا السلطات التركية حتى الأعلان في الآستانة عن العمل بالدستور الذي كـان قد عطّله السلطـان عبد الحميد الثاني وصار إعـلان الحريـة ذلك العام – أو ما عرف (بالحرية والمشروطية) في أرجاء الدولة العثمانية، وكانت تلك خطوة أولى لأزاحة السلطان نفسه التي تمت مع بداية السنة الموالية (1909) وفرصة لبعض أبناء ورعايا الدولة في الداخل والخارج للمشاركة والتعبير.

وقد ورد في باب (المجلس العمومي) من الدستور المشار إليه مواد تقول بأنه: (يركّب من هيئتين تسمى إحداهما هيئة الأعيان والأخرى هيئة المبعوثين، وأن عدد أعضاء هيئة المبعوثين يكون باعتبار شخص واحد من كل خمسين ألف من ذكور التبعة العثمانية، ويتم إنتخاب المبعوثين العمومي مرة واحدة في كل أربع سنين، ويعطي لكل من المبعوثين عشرون ألف قرش من خزينة الدولة عن مدة الأجتماع في كل سنة وتعطي له أيضاً مصاريف الطريق ذهاباً وإياباً باعتبار كـون المعاش الشهري خمسة آلاف قرش وفقـاً لنظام المأمورين الملكيين، وأن كلاً من أعضاء هيئة المبعوثين يعتبر كنائب عن عموم العثمانيين وليس عن الدائرة التي إنتخبته فقط، ومن الواجب على المنتخبين أن ينتخبوا المبعوثين من أهالي دائرة الولاية التي هم منها).

نشأ أو ترتب، إذاً، عن إعادة العمل بالدستور ترشيح وإختيار ممثلين لعضوية مجلس المبعوثان كما كان يسمى، من مختلف ولايات الدولة، وتم ذلك في الولاية (الليبية) وفقـاً للنفوذ المحلي والعائلي والنظر للاعتبارات والمقاييس الجهوية، دون سواها، ولم يخضع إطلاقاً لرؤية سياسية أو تيارات سياسية موالية أو مضادة، وإنما وقع الأختيار المباشر لتلك الاعتبارات العائلية أكثر منها أي شئ آخر، كما أشرنا.

وظهر هنا: عمر الكيخيا ويوسف بن شتوان عن بنغازي، وسليمان الباروني ومحمد فرحات الزاوي ومصطفى بن قدارة ومحمد الصادق بالحاج ومحمود ناجي الأرناؤوطي عن طرابلس ومناطقها، فيما أختير عبد القادر جامي(9).. الضابط التركي وقائد منطقة غات تلك الفترة نائباً عن فزان.

ويلاحظ هنا أن هذه (النخبة المختارة)، معظمها كان متعلماً ومثقفاً، ونال قسطاً وافراً من التعليم العربي والتركي، ونظم الشعر وكتب عن التاريخ وتولى مسؤوليات إدارية، إضافة إلى إستناده على (خلفية عائلية) لها تأثيرها وتراثها أيضاً.

وربما كان السعي لأختيارها لعضوية المبعوثين بهدف الأمل في القيام بدور في الأصلاح المنشود وعلاج الرجل الذي بدأ (يمرض) !، أو الدفاع – بالقدر المتاح – عن مصالح (أصحاب الأختيار) في طرابلس وبنغازي وفزان البعيدة، وهؤلاء النواب – في كل الأحوال – عرفوا ما يدور في أروقة البرلمان، وكواليس القصور الفخمة على ضفاف البسفور.

وإلتقوا – بالتأكيد هناك – مع نخب عربية أخـرى وصلت من الشـام واليمن والعـراق وغيرهما تمثل (ديار العروبة) من بينهم: الأميران فيصل وعبد الله بن الحسين، وعبد الحميد الزهراوي، وسليمان البستاني، وروحي الخالدي، وعبد المحسن السعدون، وجميل صدقي الزهاوي، ومعروف الرصافي، وطالب النقيب، وشكيب أرسلان، ونافع الجابري، وأحمد الكبسي (من أشراف اليمن).. وغيرهم.

يتبع

_______________

مقالات