ابراهيم عبدالعزيز صهد
موقف الجامعة العربية وأمينها العام
كانت القضية الليبية مثارة يوم إنشاء الجامعة العربية، وقد رأينا كيف أن السيد إدريس قد حاول مبكرا انضمام الشعب الليبي إلى الجامعة العربية أثناء انعقاد المؤتمر التأسيسي لوزراء الخارجية العرب.
وقد كان لوجود السيد عبد الرحمن عزام أمينا عاما للجامعة أثره في أن تتشكل علاقة الجامعة بالقضية الليبية بالكيفية التي حدثت، ذلك لأن السيد عزام كان يرى في الجامعة رئاسة للدول العربية وليست منظمة إقليمية، كما أن ارتباطاته السابقة بالقضية الليبية قد دفعت بالسيد عزام إلى تبني القضية الليبية بأفكاره وآرائه الخاصة وبخلفياته عن ليبيا.
وقد قدم الأمين العام للجامعة مذكرات إلى مؤتمر وزراء خارجية الدول الكبرى تتمشى مع نفس المعايير الواردة في المذكرات المصرية، فطالب باستقلال ليبيا أو السماح لها بالانضمام إلى مصر، أو وضعها تحت الوصاية المصرية أو وصاية الجامعة نفسها.
وفي الواقع فإن الجهود التي بذلتها الجامعة وأمينها قد شابتها سقطات غير قليلة ارتكبها الأمين العام، أدت إلى حرمان ليبيا من موقف مؤازر واضح من الجامعة، بل كان للجامعة بعض المواقف التي تحسب على أنها معرقلة لإنجاز استقلال ليبيا.
ويقول الدكتور مجيد خدوري في كتابه ” ليبيا الحديثة”: “كانت آراء عزام الشخصية حول القضية الليبية قد أصبحت معروفة في المحافل العربية، وقد أثارت جهوده في المجالس الدولية لتأييد مطالب مصر في الوصاية على ليبيا انتقاد الكثيرين من الوطنيين الليبيين . وكان قد أصر على أن أفضل الحلول هو أن توضع ليبيا تحت وصاية جامعة الدول العربية على أن تتحمل مصر العبء الأكبر بسبب قربها الجغرافي من ليبيا ولأن مصر تعرف مشكلات تلك البلاد، وقد عبر عزام أيضا عن موافقته على توحيد برقة وطرابلس ولكنه قال إذا استحال وحدة المنطقتين واستقلالهما فإنه من المناسب ضم برقة إلى مصر”.
وقد لوحظ أن موقف السيد عزام قد تبلور حول تعمد تجاهل السيد إدريس بالرغم من أن عزام يعرف موقعه القيادي وزعامته التي لا يمكن تخطيها.
وقد سبق للسيد إدريس أن قدم إلى عزام مذكرة بطلب عرض القضية الليبية على مجلس الجامعة، وهي المذكرة التي أشار إليها عزام نفسه في مذكراته بعد تنحيته عن أمانة الجامعة العربية.
وفي الواقع فإن عزام– وهو الأمين العام– بدلا من أن يكون طرفا محايدا بين الليبيين رأيناه دائما يأخذ موقفا مضادا لموقف السيد إدريس. وقد سبق للسيد عزام أن تدخل في مسألة تأسيس الجيش السنوسي، ونصح بعض الزعماء وخذّلهم عن الانضمام إلى ذلك المسعى بحجة أن بريطانيا لم تقدم وعودا كافية بالمقابل، وقد اعترف عزام بذلك أمام وفد الجمعية الوطنية التأسيسية الذي زاره في بيته في القاهرة بتاريخ 2 فبراير 1951، ولكن عزام أوعز السبب في قيامه بالتخذيل إلى قناعته –آنذاك– بأن المحور سوف ينتصر في النهاية.
وقد بلغت تجاوزات الأمين العام مداها عندما تدخل في امور ليبية داخلية صرفة، عندما شارك في الطعن في شرعية الجمعية الوطنية التأسيسية وأدلى بتصريح إلى صحيفة “تيمبو” الإيطالية أعلن فيه أن الجامعة لن تعترف بمقررات هذه الجمعية، وأن الجامعة لن تقبل في عضويتها دولة لم تؤسس بطريقة مشروعة.
ثم أتبع هذا التصريح بأن طلب إلى اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية أن ترفض الاعتراف بدولة ليبيا، ودفع عزام بمجلس الجامعة نحو اتخاذ هذا القرار الخطير بتاريخ 17 مارس 1951 بالرغم من احتجاج بعض الوفود العربية خاصة –العراق ولبنان– بأن المشكلة الدستورية الليبية هي مسألة داخلية لا يحق لجامعة الدول العربية أن تتدخل فيها.
ومع ذلك استمر السيد عزام في الإدلاء بتصريحاته المناهضة للإجراءات والقرارات التي ابتدأت تشكل أسس بناء الدولة الليبية، كذلك استمر عزام في حرصه على توجيه النداءات إلى الشعب الليبي مباشرة دون مخاطبة قيادات هذا الشعب. كذلك فيوم استقلال ليبيا، فشل الأمين العام في القيام بواجب تهنئة الشعب الليبي بالمناسبة.
ولقد حالت مواقف الأمين العام دون انضمام ليبيا إلى جامعة الدول العربية إلى أن أُجبر السيد عزام على تقديم استقالته من الأمانة العامة للجامعة تنفيذا لتعليمات من مجلس قيادة الثورة المصري في صراع ليس له علاقة بالشأن الليبي.
كذلك فقد أدت مواقف الأمين العام هذه إلى إسقاط ظلال من الشكوك على ما قامت به الجامعة من مساع أثناء نظر القضية الليبية. وقد وصف الدكتور نيقولا زيادة في كتابه القيم “ليبيا في العصور الحديثة” هذه المواقف بقوله:”إن موقف جامعة الدول العربية –ممثلا بأمينها العام يومئذ– لم يكن دوما موقفا عادلا بعيدا عن الهوى كما يبدو في القرار الذي اتخذ بتاريخ 17 آذار (مارس) 1951 بخصوص لجنة الستين”
في مؤتمر الصلح
جاءت نقطة التحول في القضية الليبية عند وضع معاهدة الصلح مع إيطاليا في مؤتمر باريس عام 1947. ونصت تلك المعاهدة على تخلي إيطاليا عن جميع حقوقها في مستعمراتها الإفريقية السابقة (ليبيا – أريتريا – الصومال الإيطالي)، على أن تستمر الإدارات القائمة في تلك البلدان إلى أن يتم الاتفاق النهائي بشأن حل المشكلة بقرار مشترك تصدره حكومات الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا في مدى سنة من بدء سريان مفعول المعاهدة الذي حدد بتاريخ 15 سبتمبر 1947.
وأصدرت الدول الأربع تصريحا أُلحق بالمعاهدة المذكورة تضمن أربعة بنود كالتالي:
اتفاق الدول الأربع على أن تقرر مشتركة حلا نهائيا لمشكلة المستعمرات الإيطالية السابقة وذلك في غضون عام من سريان معاهدة الصلح مع إيطاليا. إن الحل يجب أن يكون في ضوء رغبات السكان ومصلحتهم. (هذه أول إشارة إلى ضرورة مشاركة شعوب هذه البلدان).
إذا لم تتمكن الدول الأربع من الوصول إلى اتفاق خلال المدة المحددة ، تحال المشكلة إلى الأمم المتحدة، وتتعهد الدول الأربع بقبول توصياتها، واتخاذ ما يلزم تنفيذها.إحالة المسألة إلى وكلاء وزارات خارجية الدول الأربع بتعليمات محددة بإيفاد لجان تحقيق إلى المستعمرات الإيطالية السابقة للاطلاع على رأي السكان، وتقديم تقارير بالخصوص.
وتنفيذا لهذا التصريح فقد قرر الوكلاء إيفاد لجنة تحقيق إلى المستعمرات الإيطالية السابقة, للتعرف على رغبات السكان ووضع تقرير عن أحوال تلك المستعمرات.
مساعي توحيد الكلمة
كانت الأوساط الشعبية في ليبيا في حالة غليان نظرا لتأخر البت في مصير البلاد كل هذه السنوات، علاوة على الإخفاق في توحيد الجهود في مسعى مستمر لإبراز رغبات أهل البلاد.
وكانت مساع حثيثة قد بدأت لتوحيد المواقف غير أن هذه المساعي قد باءت بالفشل. وكانت قصة هذه المساعي قد بدأت في يونيو 1946 عندما وصل إلى القاهرة وفد يمثل الجبهة الوطنية المتحدة يتكون من السادة محمود المنتصر وطاهر المريض للاتصال بالسيد محمد إدريس السنوسي وتقديم منهاج للعمل الموحد يتكون من ثلاث نقاط:
-
رفض أي استقلال أو وصاية تتقدم بها الدول الكبرى لأي من المنطقتين (برقة وطرابلس) دون اعتبار وجهة نظر سكان المنطقة الأخرى.
-
اقتصار الإمارة السنوسية على شخص السيد إدريس لا أن تكون وراثية في أسرته.
-
شكل الحكومة يجب أن يكون برلمانيا دستوريا.
وقد رد السيد إدريس برسالة بتاريخ 14 يونيو 1946 موجهة إلى الجبهة موافقا على هذه المقترحات من حيث المبدأ، ومؤكدا على أن الحكم يجب أن يكون دستوريا، وأن تتفق الأمة على هيئة تأسيسية تسن الدستور، وأن موضوع ولاية العهد واختيار العاصمة هو من اختصاص المجلس النيابي الذي تختاره الأمة، وحث على تنفيذ الاقتراح الخاص بتكوين هيئة مشتركة لتوحيد الجهود.
على أثر ذلك جرت مباحثات في بنغازي بين وفدين، أحدهما يمثل الجبهة الوطنية (الطرابلسية)، والآخر يمثل الجبهة الوطنية (البرقاوية).
وقد خيم على ذلك الاجتماع كل الإسقاطات والتراكمات الماضية والتي زعزعت ثقة كل جانب في الطرف الآخر. ولم يتمكن المتفاوضون من الوصول إلى اتفاق بالرغم من أن وجه الخلاف كان ضئيلا ولكنه بدأ في الاتساع، ولم تفلح مساعي التوفيق التي بذلت.
وكانت تلك فرصة ذهبية ضاعت للاتفاق، وكان توحيد الكلمة هاما في هذه المرحلة بالذات خاصة وأن الخلافات بين الأحزاب والتيارات قائمة على أشدها في منطقة طرابلس.
عند انعقاد مؤتمر وزراء خارجية الدول الكبرى، أرسل السيد إدريس السنوسي مذكرة إلى أمين عام جامعة الدول العربية يحثه فيها على عرض قضية ليبيا على مجلس الجامعة “لاتخاذ قرار حاسم لمساعدة ليبيا ماديا وأدبيا…. لتتمكن البلاد من شرح قضيتها في مؤتمر وزراء خارجية الدول الأربع العظمى المنعقد الآن بموسكو وأمام اللجنة الدولية المراد إرسالها إلى ليبيا”.
كانت هذه المذكرة امتدادا للمحاولة التي بذلها السيد إدريس كي تقبل الجامعة بممثلين عن الشعب الليبي، وكان يريد من ذلك أن يعبّر الليبيون أنفسهم عن مطالبهم بدلا من أن يقوم بذلك طرف آخر.
وقد كان إدراك السيد إدريس للأوضاع في ليبيا وللحالة الدولية محفزا له كي يوحد الأمة خلف رأي واحد يمكن به مواجهة لجان التحقيق. وقد سبق للسيد إدريس أن وحد الأحزاب السياسية والجمعيات في برقة في هيئة واحدة هي “المؤتمر الوطني” الذي تم تشكيله في يناير 1948، ولكنه كان – شأنه في ذلك شأن كل الليبيين – قلقا من الخلاف القائم بين الأحزاب والجمعيات في منطقة طرابلس، وكذلك من عدم الوصول إلى اتفاق شامل بين مناطق ليبيا الثلاث حول مستقبل البلاد.
ولقد شارك السيد إدريس في هذا التوجه عدد من زعماء طرابلس اجتمعوا في القاهرة وشكلوا “هيئة تحرير ليبيا” مؤلفة من السادة بشير السعداوي، وطاهر المريض، ومنصور بن قدارة، وأحمد السويحلي ومحمود المنتصر، وجواد بن زكري.
وقد أذاع الأمين العام للجامعة العربية بيانا قال فيه: “إن الغرض الأصيل من تأسيس هذه الهيئة أن تستطيع إزالة أسباب الخلاف بين الأحزاب السياسية في طرابلس الغرب، وأن تجمع كلمة الطرابلسيين أمام لجان التحقيق المنتظرة حول مطلبي الوحدة والاستقلال”.
أما في فزان، فبالرغم من تشديد الخناق على الأهالي من قبل السلطات الفرنسية، إلا أن عددا من النشطاء السياسيين ألفوا جمعية سرية ترأسها الشيخ عبد الرحمن البركولي، وكانت على صلة وثيقة مع السيد أحمد سيف النصر. وقد أقام هؤلاء الزعماء صلات وثيقة مع السيد إدريس من ناحية ومع بعض زعماء منطقة طرابلس.
وهكذا أصبحت البلاد مستعدة لاستقبال لجنة التحقيق بوضعية أفضل مما كانت عليه في السابق، وإن لم تبلغ درجة التوحيد الكاملة.
ففي برقة، كان المؤتمر الوطني قد عمل على توحيد الجماهير وحشدها حول المطالب الثلاث التي أجمعت عليها برقة وهي الاستقلال والوحدة والإمارة السنوسية.
وفي طرابلس، قامت هيئة التحرير بتوجيه الأحزاب السياسية إلى المطالبة بالاستقلال والوحدة، وبالرغم مما كان بين زعماء الأحزاب من منافسة إلا أنها ظهرت وكأنها جبهة موحدة.
وفي فزان تمكنت الشخصيات القيادية في المنطقة –لا سيما آل سيف النصر– من توجيه الجماهير وجهة المطالبة بالاستقلال والوحدة وإمارة السيد إدريس السنوسي.
وقد كانت ليبيا في ذلك الوقت تمور بالتوقعات والاستعدادات لإظهار الرأي الوطني أمام لجنة التحقيق الرباعية التي كان قد تقرر إيفادها إلى البلاد.
…
يتبع
***
إبراهيم عبدالعزيز صهد – مفوض العلاقات الخارجية بحزب الجبهة الوطنية
____________
المصدر: مجلة الإنقاذ 1990