مؤمن سحنون

بين وطنية الدولة القومية وأممية الإسلام

توجه الدولة القومية ولاء الأفراد إلى الوطن، ثم تسبغ على هذا الولاء سبغة من القدسية، ثم تدعي تسوية المواطنين في الحقوق والواجبات أمام القانون الوضعي، وإذا كان التمايز بين الأفراد داخل الحدود يتم على أساس المواطنة فإن هذه المواطنة لا تأثير لها في ما يجري خارج الحدود.

هذه الحدود التي رسمها مارك سايكس وبيكو والتي تم بموجبها تقسيم الأرض الإسلامية إلى الخريطة المعروفة حديثًا، هي فواصل بين جماهير من المواطنين في بلد ما وجماهير من بلد أخرى، وقد يعتدي الأمريكان على سكان بلد ما ويوغلون في دمائهم وفي أعراض نسائهم بينما سكان البلد الآخر يترقبون نتيجة تصفيات الفريق الوطني.

وقد يتمتع سكان بلد بثروات تلك البلد بينما وراء حدود الوطن بلاد أخرى يعيش فيها المسلمون ضنك العيش والمجاعة.

أنت مطالب أن تقاتل في سبيل الوطن حين يستنفرك أصحاب الكراسي الذين يحددون من يعادي الوطن ومن يصالح، فقد تقاتل أخ لك يسكن في الجهة المقابلة من حدود الوطن، أخ يجمعك به الدين ووحدة التاريخ والمصير، وإذا ما كان الحكام عملاء للصهاينة أو الأمريكيين فأنت مطالب بالسير وراءهم فهم المتحدثون باسم الوطن.

أما الإسلام فقد بُني على أخوة العقيدة، قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، المؤمنون كل المؤمنين، وقوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، وقال صلى الله عليه وسلم-: “أوثق عُرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله عز وجل-“، ويبلغ الإسلام بهذا الحب أن حرّم حتى مجرد تخويف المؤمن، قال صلى الله عليه وسلم-: “لا يحل لمؤمن أن يروع مؤمنًا”، وأصبحت هذه الرابطة هي وثاق الولاء بين المؤمنين قال تعالى: ( لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).

وترتبت على هذه الأخوة كل الروابط بعدها، فالإسلام هو هوية المسلم، لا لغته ولا عرقه ولا نسبه ولا قوميته ولا جنسيته، وقد جمع هذا الدين في فجر النبوة كل من بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وأبي بكر العربي رضي الله عنهم وأرضاهم.

وصنع هذا الدين رابطة وثيقة هي وحدة جماعة المؤمنين، رابطة تتجاوز كل ما سواها من روابط، وجعل ما دونها من روابط خادمة لها، وألغى اعتبارها إذا عارضت رابطة الأخوة في الدين.

وتأسست على هذه الرابطة حياة متكاملة وفق منهج يستوعب كامل النشاط البشري، فالإسلام نظّم علاقة المسلم بربه وعلاقته بالجماعة المسلمة وعلاقة المسلمين بغيرهم من أفراد وجماعات، وبنى حضارة كاملة على مبدأ وحدة جماعة المسلمين، فلا حدود تفصلهم ولا فوارق اجتماعية ولا لون ولا عرق.

عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى”.

يتداعى كامل الجسد المسلم إذا اشتكى عضو، أي عضو من أعضائه، فيؤازره في حزنه ويشاركه في فرحه، فالمسلمون كل المسلمين يتألمون لتألم إخوتهم في أي مكان على هذه الأرض، وعليهم واجب نصرة بعضهم البعض وإن تباعدت المسافات.

مآلات الخطاب الوطني

إذا كانت الفكرة الوطنية قد تسللت لعالم أفكار المسلمين عن طريق الاستعمار ثم تم ترسيخها عبر الأنظمة العلمانية ما بعد الاحتلال، وأعيد صياغة هوية الأفراد ودول التجزئة من خلالها، إلا أن الأخطر من ذلك هو تسللها للخطاب الديني، وبناء أطروحات من العمل الإسلامي على مفهوم المواطنة.

بمعن أن تمهد هذه الأطروحات لإسقاط التمايز على أساس الدين ما يعطي شرعية للمنظومة العلمانية وممارساتها التغريبية كما تضفي على الإسلام الصبغة القومية.

وتنتشر دعوة المواطنة داخل المجتمعات من خلال المؤسسات الدينية الرسمية، التي تمرر الدولة القومية من خلالها المفاهيم المراد نشرها في المجتمع، بما يوافق حربها المتواصلة على الإسلام، وتقف المواطنة على رأس هذه المفاهيم، لِتُغلّف بها بقية السموم التي تخدّر الجماهير وتصرفهم عن أممية الإسلام التي تجعل من هذه الأمة قوة ممتدة الأفاق.

إن دعوة المواطنة ومحاولة دمجها مع مفاهيم الإسلام تنتج اليوم تصورات شاذة، فبما أن دول التجزئة أوطان منفصلة، تصبح أرض الحرمين أرض للسعوديين ومصر للمصريين حرام على غيرهم وفلسطين للفلسطينيين وتونس للتونسيين.

وبما أنها أوطان خاصة لأصحاب الجنسية داخل الحدود، تصبح مكة المكرمة والمدينة المشرفة حكر على المملكة والصحابة الكرام سعوديي الجنسية، وقضية احتلال بيت المقدس قضية الوطن الفلسطيني.

والفلسطينيون تحت الاحتلال الصهيوني مواطنون يتساوون في الحقوق والواجبات مع الصهاينة الغاصبين ويتقيدون بالنظام العام ولا مانع من التنسيق الأمني وملاحقة من يهدد أمن الصهاينة.

وقد يفتي مفتي بدخول المسيحي الجنة بما أنه لا فرق في الوطنية على أساس الدين بين معتنقي الأديان المختلفة بل يُحكمون عليه بالشهادة في بعض المواطن.

وإذا كانت المؤسسات الدينية الرسمية تعمل اليوم على أسلمة مفهوم الوطنية، فإنهم سيكونون مطالبين في المستقبل بالتقيد باللوازم التي تلزم من اعتبار الوطنية هي المعيار بين الناس، ومنها اعتبار غير المسلم بل وحتى الملحد أو عابد البقر له الحق في طلب الولاية.

وإذا حكم فهو وَلي أَمر واجب طاعته ﻷن المواطنة تفرض ذلك، هذا بعد أن رأيناهم شرعنوا لأعتى الطغاة من العملاء والمبدلين لشرع الله.

إن المواطنة اليوم تُوظّف لضرب الوحدة الإسلامية، وشق صفوف الجماهير في لحظة تاريخية هي أحوج ما تكون فيها للاتحاد، فهي مطية يمتطيها كل دعاة التيارات العلمانية الهدامة وأصحاب المصالح، وحتى الأقليات واللوبيات التي تعمل لصالح الخارج، والتي تملي سياساتها على الحكومات لمزيد الضغط على حقوق المسلمين.

جاء في مؤتمر الأقباط سنة 1911-: “ فلنجعل الوطنية دينًا عامًا للمصريين، يشترك المصريون في أداء واجباته المقدسة، فيلتفون حوله خاشعين”.

إن مشاكل شعوبنا المسلمة لا يمكنها أن تُحلّ عن طريق واقع صنعه أعداؤها، ومن خلال التحزّبات حول الوطنية، التي تفصل الشعوب عن بعضها حتى إذا وقع الاعتداء على بلد حصروا قضيته في الشأن الوطني.

تمثل الوحدة الإسلامية الوقود المحرك لجماهير المسلمين في طريق استرداد المقدسات والكرامة ودفع الاحتلال، وإذا كنا نحن نرى بلداننا كتقسيمات وأوطان، فإن المحتل الأمريكي والغربي يراها منطقة واحدة ويسمونها بمنطقة الشرق الأوسط، لهذا علينا أن نسقط من قلوبنا وعقولنا أصنامًا كصنم الشرعية الدولية التي ترعى بقاء هذه الفرقة وتحميها وتدعم من يقوم على حراستها.

_____________

مقالات