مؤمن سحنون

يجد الإنسان في نفسه تعلق وحنين للبلد الذي نشأ فيه، ويمثل ذلك عنصرًا من مكونات هويته، وإن كان هذا الأمر فطري.

إلا أننا نعيش في واقعنا المعاصر تحريفًا لهذا الشعور وخلقًا لانتماءات على مقاييس وغايات أخرى رسمها لنا صانعو الأنظمة القومية الحديثة التي أنتجتها اتفاقيات التجزئة الوطنية مثل سايكس بيكو التي كانت بين فرنسا وبريطانيا سنة 1916.

ومع سايكس بيكو وقع توجيه الهوية في مسارات مخالفة لطبيعتها ولترتيبها الذي جاءت به الرسالة الخاتمة، ما يمكن اعتباره صياغة جديدة لولائنا ومن ينبغي أن نحبه وما يترتب على هذا الحب وصياغة جديدة لمن ينبغي أن نعاديه وأن لا نواليه وما يترتب عليه، ووقع هذا على حساب القيم الأصلية التي تأسس عليها هذا الشعور منذ قيام أمة الإسلام.

إننا نستهلك أشكال مختلفة من التوجيهات في مجتمعنا المعاصر حتى ترسخ هذه الصيغة الجديدة من ولاء، وعبر مراحل الانخراط في مجتمعاتنا بداية بالتعليم والثقافة والقراءة التاريخية التي تقدم لنا، بل ستجد أن مختلف النشاطات العامة تغذي الوطنية مثلًا أو قومية الدولة وقدسية الحدود بين الدول العربية .

سنحاول في هذا المقال التطرق إلى مفهوم الوطنية، وتاريخ نشأته، ثم إلى انتقاله إلى عالمنا الإسلامي، والفرق بين الوطنية في الدولة القومية والأممية في الإسلام.

تعريف الوطنية وتاريخ نشأتها

كانت الحروب الدينية في أوروبا خلال القرون الوسطى قد بلغت مبلغًا عظيمًا في الإيغال في الدماء والعداء بين المذاهب المسيحية وانعدام الاستقرار والأمان.

وقد طالت هذه الحروب وأنهكت تلك الشعوب حتى ولدت رغبة في البحث عن طريقة لوقفها، ولم يكن الشعور بالعداء بين المذاهب المسيحية فقط، بل كان موجهًا كذلك للأقليات اليهودية في أوروبا إذ كانت مكروهة داخل المجتمعات المسيحية.

وعندما جاءت حركة الإلحاد ثُم غذّتها الثورة الصناعية صعدت التيارات المادية بعد صراع مع الكنيسة، وأسقطت الدين كقيمة في المجتمع وأسقطت معه الفوارق بين الأفراد على اعتبار العقيدة.

ثم نشأت الدولة القومية ذات الحدود، وأُلغيت مركزية الدّين لتحل محلها مركزية الوطن، بالتالي وقع إعادة تعريف انتماء الفرد داخل المجموعة بولاء لعقيدة جديدة اسمها المواطنة، يتساوى معها جميع أفراد الوطن أمام القانون الوضعي، ولا تعتبر فوارقهم الدينية عنصر في هذا الانتماء.

بل لكل فرد الحرية المطلقة في عبادة ما شاء من حجر أو بقر وإن شاء اتخذ الإلحاد دينًا والشهوة قبلة والاستهلاك سلوكًا وطريقة، على أن يلتزم الأفراد بقانون الوطن، بتقديس راية الوطن والتضحية من أجل الوطن.

كانت الوطنية في أوروبا ابتكارًا لوقف الحروب الدينية بين مذاهبهم، وفي سياق صعود تيارات مادية بعد صراع بينها وبين الكنيسة أُلغيت على أثرها قيمة الدين في المجتمع وروابطه الحاكمة لعلاقات الأفراد الوطنية، إذًا هي رابطة تجمع فئة من البشر على مساحة ترابية هي الوطن، بحيث يكون الولاء لأبناء الوطن داخل حدود الوطن في إطار سيادة القانون الوضعي.

الوطنية في العالم العربي

يعتبر مفهوم الوطنية من أخطر ما ثَبّته الاستعمار أثناء مكوثه في بلادنا الإسلامية وعمل على بقائه بعد خروجه عسكريًا خاصة بعد سقوط الخلافة العثمانية.

ثم عملت أنظمة ما بعد الاستعمار على تجذير مفهوم الوطنية في المجتمعات وتأصيله لا كإجراء قانوني مناقض للشريعة ومعلن لعلمانية الدولة فحسب، بل كهوية جديدة حلت محل الهوية الأصلية وأعادت تعريف ولاء الفرد، وأعادت تعريف علاقة الفرد مع المجتمع والمجتمع مع الدولة وما يترتب من جملة هذه العلاقات من واجبات وحقوق حسب منظومة قيمية تعتمد المواطنة كمعيار.

فأنظمة ما بعد الاستعمار هي أنظمة وطنية تعمل على تكريس ثقافة المواطنة وإسقاط التمايز على أي أساس آخر خاصة على أساس الدين.

يمكن ملاحظة هذا في حياتنا اليومية، وفي كل ما تنتجه الدول القومية، كما يمكن أن نلاحظه في تأليه وتقديس الراية الوطنية والنشيد الوطني والجيش الوطني والفريق الوطني.

وككل بلد نزل فيه جنود الاحتلال إبان فترة الاستعمار المباشر، هب المقاومون لدفعه ومحاربته، فبرزت البطولات والتضحيات التي خطّها المجاهدون بدمائهم، وأُلقيت الأشعار وكُتبت المقالات المعادية والمحرّضة على الاحتلال.

لكن ما حدث بعد خروج الاستعمار أنه وقع توظيف هذه البطولات توظيف قومي ووطني ووقع تصويرها كتضحيات في سبيل الوطنية والرقعة الترابية التي خلّفتها معاهدات المحتلين، ولا زالت الدول القومية تتغنى بهذه البطولات لتعطي خلفية تاريخية لهذا النموذج الجديد وتضفي عليه قيمة بطولية.

يتبع

______________

مقالات