سالم الكبتي
المنشور بسطوره كان فريداً في نوعه من بين كافة المنشورات السياسية التي شهدتها ليبيا سواء على مستوى الحراك المدني أو النشاط العسكري السري.
لقد حمل إهانة غير متوقعة للملك في شخصه ذماً وقدحاً ورأى المنشور في تفاصيله المختصرة أن إبليس سيكون أفضل للبلاد من إدريس.
لم يجرؤ أي منشور على التصريح أو التلميح بذلك في السابق واللاحق وكذا كل ما اعترى المظاهرات أو المسيرات من هتافات أو صيحات.
والمدهش أن المنشور أيضاً الذي ذاع صيته وانتشر في يوليو وأغسطس 1969 لم يقابل بأي تصرف أو إجراء داخل الجيش أو الجوازات ومن كل جهة مسؤولة في الدولة.
لم يسمع أحد بالقبض مثلا على أصحاب المنشور أو التحقيق معهم أو توجيه إنذار لهم أو محاكمتهم وسجنهم أو إخراجهم من الخدمة باعتبار أن ما وقع منهم يعتبر محظوراً قانونياً ويعد عيباً ومساً (بالذات الملكية)!
والعجيب، من جهة أخرى، أن تنظيم الرواد ربما تحمّل تبعات المنشور عبر انتشاره ولم يكن بتوقيع التنظيم فيما لم تصدر عنه أي إشارة تتعلق بمسؤوليته التضامنية أمام التاريخ عن ذلك المنشور.
لم يشر إليه رئيس التنظيم. لم يتحدث عنه. لكنه، في كل الأحوال، ظل محسوباً بعباراته وكلماته على التنظيم وأعضائه رغم أنهم لم يشاركوا جميعاً في إعداده وكتابته.
لعل التصرف الفردي الذي وقع من أحد أعضاء التنظيم اعتبر إشارة، بطريقة أو بأخرى، لأهداف التنظيم وأغراضه.
وفي كل مستوى ظل هذا المنشور، وهو آخر منشور سياسي وعسكري شهده العهد الملكي مندداً به ومشيراً، على حد رأيه، إلى أسباب الفساد وضعف الدولة سياسياً وعسكرياً واجتماعياً.. وعربياً بتخاذله في التقدم نحو تحرير الأراضي السليبة.. ظل من الأسباب التي أدت لانهيار ذلك العهد وسط ظروف غياب الملك والفراغ الأمني الذي تمر به البلاد منذ يونيو 1969.
وكانت بموجبه وتداعيات زلزاله في البيضاء وبنغازي وطرابلس والزاوية وغيرها وصولا إلى الخارج ودوائر السفارات داخل البلاد..
كانت الاستقالة
الملك في الأصل، كما تردد، كان ينوي الغياب الطويل وربما الانسحاب من الحياة السياسية بعد فترة من الانشغال بها استمرت أكثر من نصف قرن.
لعله تريث في الطريقة التي سيبتعد بها عن مداولة شؤون البلاد وسرت الهمسات خلال تلك الفترة بأنه لا ينوي العودة وأنه بصدد تخليه عن مسؤولياته ولم يحدث إزاء ذلك أي نفي من أية جهة دستورية في الدولة ووضع الناس في الصورة التي تحيط الأمور.. الغياب والفراغ ونية الملك في التخلي عن المسؤولية بالكامل.
هذا الغياب، وربما البحث والتفكير من الملك في الاهتداء الى وسيلة تتيح له إبلاغ شعبه بما انتهى إليه ذلك التفكير وجده الملك في الواقع، مواتياً وسهلاً ومن أيسر الطرق في الوقت نفسه في هذا المنشور الذي استل شيئاً ما في أعماق الملك ولم يفصح عنه صراحة فيما سبق من أيام غيابه ودعاه إلى كتابة استقالته.. بمعنى (جت منك يا جامع)!
وكما سبق القول فإن الملك في إحدى جلساته مع مرافقيه في رحلته في تركيا من رجال الحاشية وبحضور الملكة وبعض وصيفاتها ومرافقاتها استمع بهدوء إلى المنشور.
وفي اليوم التالي قرر تحديد مصيره مباشرة وإنهاء علاقته بالسياسة. وكانت الاستقالة.
ووفقاً لما يتردد من روايات صادقة ومؤكدة من شهود عيان تلك الجلسات عقب وصول المنشور الذي نال من الملك ونفسيته وأصابه بصدمة مؤلمة وغير متوقعة، طبقاً لتلك الروايات، فإنه كتب الاستقالة بنفسه موجهة إلى البرلمان بشيوخه ونوابه باعتباره أعلى سلطة دستورية وتشريعية في الدولة.
لم يشر إلى المنشور أو صدمته مما آل إليه الحال.
لم يوجه نقداً أو رداً على ما ورد فيه.
لم يصرح خارج الاستقالة عن ضيقه بالمنشور الذي ظل، كما تؤكد الأحداث، من أسباب إصرار الملك على التخلي والابتعاد.
والعجيب أن بعض الشهود الذين حضروا كتابته للاستقالة أشاروا إلى أنها كانت قصيرة جداً ومكثفة في صيغتها وتختلف عما اتفق عليه الكثيرون في نص الاستقالة التي ظلت معروفة وسائدة في مرحلة لاحقة.
فهل كتب الملك استقالته مرتين؟
وأين ذهبت الاستقالة بنصها الأول القصير والمكثف!
إن هذين السؤالين يثيران المزيد من الأسئلة والتصورات للحال الذي كان يسود رحلة الملك ونواياه في التخلي والترك مع بداية أغسطس لتبقى الأمور معلقة ومبهمة إلى نهاية ذلك الأغسطس.
إن المنشور الذي أدى إلى الاستقالة بعيداً عن البلاد ثم وصول رئيس مجلس الشيوخ ورفيقه رئيس مجلس النواب ومقابلتهما للملك ومحاولة ثنيه عن الاستقالة والتراجع ورفضه لذلك وعدم القبول بالعودة إلى ليبيا وتقديمه لها أمام مجلس الأمة زاد من الفراغ الحقيقي وأضاف إرباكاً في عمل الدولة فلم تلاقِ الاستقالة أو الاستقالتان أي اهتمام أو تحوطات.
كان الإهمال بدأ بطول فترة غياب الملك ثم بصدور المنشور وتوزيعه وهو كان مؤشراً قوياً على وجود خلل كبير ثم توج بالاستقالة التي لم تقابل من جهة ثانية وعلى كل مستوى دستوري أو حكومي أو أمني أو شعبي بالتحرك اللازم..
مثلا باستنفار الدولة وإعلان التأهب في مرافقها بدءاً من الجيش ومروراً بأجهزة الأمن وكل جهات الدولة المعنية.
المنشور أحدث المزيد من الفراغ والإرباك.. أدى إلى استقالة الملك وكان من العوامل الرئيسة لتخليه وأنشأ الكثير من الالتباسات وأوجد الفرصة المواتية لتنظيم الضباط الصغار في الاتجاه نحو الإذاعة. لقد علموا بالاستقالة دون أدنى شك وقطعوا الطريق أمام ما سبق من تنظيمات ومنها تنظيم الرواد الذي حسب عليه المنشور تاريخياً إلى أبعد حد.
كان المنشور في الواقع طريقاً للضباط الصغار واستفادوا منه في تحقيق غايتهم وخدمهم خدمة واضحة رغم نفيهم واستنكارهم لطريقته ووقته.
كانوا يجهزون أنفسهم لنجاح تنظيمهم الذي وضعوا أساسه أيام وجودهم طلبة مستجدين في الكلية العسكرية خلال معسكر التدريب الخارجي عند شاطئ طلميثة وقرب ضريح سيدي عبد الله بين الجبل والبحر..
تلك الأيام الخوالي صيف 1964. تهيأت الأسباب لهم بالمنشور في كل الأحوال إضافة إلى أسباب وعوامل كثيرة أخرى.
كان آخر التنظيمات التي أغلقت السبل والمنافذ في وجه تفكير التنظيمات الأخرى في الجيش حلماً بالتغيير والوصول إلى السلطة.. وقادت أغلب أعضائها في مرحلة لاحقة إلى السجون فترة طويلة منذ مرحلة مبكرة من سبتمبر 1969 ومعهم أيضاً في أعوام لاحقة العديد من زملاء وأفراد أولئك الضباط الصغار.
بين هذه التنظيمات الأخيرة وقبيل سبتمبر برز تنظيم لم يعمر طويلاً عرف بالتنظيم المستقل تولى الدعوة إليه الزعيم مصطفى القويري الذي استقال من الجيش العام 1967.
.. وماذا أيضاً في الطريق إلى سبتمبر؟!.
_____________
Muchas gracias. ?Como puedo iniciar sesion?