سالم الكبتي
في ذلك الصيف، 1969، تلاحقت المنشورات وتطايرت في كل الأجواء وأعلن بعض من التنظيمات مسؤوليته الكاملة عنها.
منشور تولاه تنظيم فوزي الدغيلي وكتبه عضو التنظيم عمر شنشن.
ومنشور لتنظيم الضباط الصغار عن حالة الهوان التي تشهدها الأمة العربية.
كانت منشورات هذا التنظيم محدودة وتقتصر في توزيعها على أعضائه فقط دون غيرهم.
كان التنظيم يطبع ويسحب منشوراته في الغالب بطريقة سرية في معسكر قاريونس. يقوم بذلك معمر القذافي شخصيا ويعاونه ضابط آخر. في نهاية الأمر يحرق المنشور ويهال عليه التراب في إحدى الحفر، لكن ما يرد خلال المنشورات عن التنظيم ظل يتسرب إلى الآخرين ويعلمون به بما في ذلك دوائر المخابرات الحربية والأمن الداخلي. ولم يكن ثمة أي خطة مقابلة للحد من هذا العمل.
أما منشور الثلاثة الذي حُسب على تنظيم الرواد، باعتبار أن أحد أعضائه الضابط خليل جعفر شارك في إعداده، فقد انتشر وَوُزِّع بدرجة كبيرة في ليلة حفل زفاف مستشار الملك عمر الشلحي على كريمة حسين مازق رئيس الوزراء السابق.
كان الحفل في فناء فندق البيضاء بلاس. تولى توزيعه أثناء الحفل خليل جعفر نفسه ومعه بعض الضباط ومنهم ضابط برتبة كبيرة لم يكن في التنظيم لكنه كان عضوا في لجنة إعادة تنظيم الجيش التي يرأسها العقيد عبد العزيز الشلحي وخصها المنشور بكثير من الهجاء!.
انتشر المنشور أيضا في بنغازي ووصل عن طريق بعض الضباط إلى طرابلس والزاوية وإلى كل جهات الأمن العليا في الدولة.
كان منشورا ساخنا ويحمل درجة عالية من النقد ويحذر من الأخطاء والفساد في الدولة والجيش ويهدد بقرب النهاية للنظام وأعلن ذلك صراحة بالقبول بحكم إبليس ولا إدريس.
عبد الوهاب الزنتاني كان ملازما في لاسلكي الجوازات في بنغازي، وكما مر بنا في حلقة ماضية، ظل على معرفة بتنظيم الضباط الصغار عبر معمر القذافي ومصطفى الخروبي وثمة دلائل تشير إلى أنه أسهم يوم أول سبتمبر ببعض خبرته الفنية في قطع الاتصالات والخطوط السلكية وكان له دور أيضا في بعض مجريات أمور التغيير تلك الأيام الأولى في مدينة طبرق.
كان حماسه القومي والناصري واضحا منذ سنوات وقد ظل يكتب عمودا أسبوعيا في صحيفة الحقيقة في بنغازي عنوانه (في المنداف).
تهيأت أسباب التململ وجريان الأحداث في البلاد إلى أن يلتقي هذا الحماس مع هؤلاء جميعا لكي يتواصلوا ويتوافقوا على إعداد وكتابة المنشور دون خوف من أية عواقب ويبدو أنهم درسوا الأمور جيدا من كل جوانبها ورأوا أن الفرصة متاحة لإطلاق وتيرة النقد والمواجهة في حفل الزفاف المذكور.
كان ذلك في يوليو 1969. كانت البلد في حالة استرخاء أمني تام. وكان الملك قد غادر إلى الخارج للعلاج وثمة مجموعات عديدة من مسؤولي الدولة شرعت هي الأخرى في المغادرة وكأنها تستشعر في أعماقها حدوث اندلاع شيء ما في القريب.
السباق المحموم ذلك الصيف أضحى، فيما يبدو، يقتصر بين التنظيمين: الرواد والملازمين الصغار.
لقد فاتحا بعضهما بأمور البلاد والجيش وضرورة العمل على تنفيذ التغيير. وأدركا أن الحل المنقذ هو في التدخل العسكري عن طريق قوة الجيش.
التنظيمات السابقة تأخرت وظلت تراقب من بعيد ولم يعد يعنيها أي شيء مما يدور ويجري.
في فترة لاحقة اعتبر تنظيم الملازمين أن هذا المنشور حسب عليه وقارب أن يكشف تحركاته فالكل اعتقد، خاصة داخل الجيش، أن هذا المنشور من نسج الضباط الصغار وأفكارهم.
نفوا ذلك بشدة ولم يتحملوا أية مسؤولية تاريخية حياله، بل ربما وجهوا إليه انتقادات عديدة من خلال ما سرده القذافي عدة مرات عن تنظيمه الذي لم يكف عن الحركة الدائمة للوصول إلى هدفه بالضربة القاضية لجميع التنظيمات الموازية التي اعتبرها تسعى للظهور والسلطة والزعامة!
المنشور كما سلف ذاع واشتهر تلك الأيام واستلمه، على سبيل المثال في بنغازي، العديد من الناس مسؤولين ومواطنين عبر صناديق البريد أو بوضعه تحت مداخل وأبواب مكاتب الأعمال والشركات ومن يهمهم الأمر..
هكذا بكل وضوح. بنغازي أذكر أنها ظلت تتحدث في همس وفي علن أيضا عن هذا الذي كُتب ووُزع وانتشر مثل نيران الحريق.
هذا الذيوع الذي لم يحدث لمنشور آخر في السابق خلال فترة العهد الملكي ظل يضرب به المثل بطريقة لم تكن صادقة.
فقد أشير إلى أن عبارة (إبليس ولا إدريس) ترددت في مظاهرات وهتف بها الكثيرون وسط الشوارع في بنغازي وطرابلس ذلك الصيف.
وهذا مجاف للتاريخ والواقع، فلم يقع ذلك في أية مظاهرة لأنها لم تحدث في الأصل تلك الأيام في المدينتين أو غيرهما. كانتا في هدوء شامل وكان المنشور يسري تحت الرماد.
هذا التحليل تجاه المنشور يفتقد إلى توثيق التاريخ ولابد من إعادة التوكيد هنا بأن ما جاء فيه لم يقع في مظاهرة أو مواجهة مع السلطة أو كتابة على الجدران.
لقد وردت فقط في ذلك المنشور الذي اختصرت العبارة ما ورد فيه واشتهر بها من خلال إساءته المباشرة للملك في الوقت الذي أشير فيه ممن شارك في كتابته إلى أنه لم يكن يهدف إلى تلك الإساءة.
وبعد فترة من الزمن، وفي إشارة لمجمل الأحداث وحالة الوهن والتردد في النظام السابق، وفقا لتوكيد السيد الزنتاني، الذي أشار إلى أن تلك الأحداث: (قد هيأت الظروف كما قلنا لأي تغيير ومنها بالطبع حملة المنشورات التي كانت توزع في مختلف المدن الليبية ومنها آخر منشور الذي كما يقال قصم ظهر البعير والذي وزع خلال شهر يوليو 1969 ميلادي وهو أول منشور يتعرض للملك شخصيا وكان هذا في زيارة خارج البلاد وعندما سمع بذلك المنشور غضب وقرر عدم العودة إلى ليبيا.
وللحق أنه ربما كان يشعر ببعض ما يحدث من حكوماته حتى إنه ذات مرة قال.. أن السيل قد بلغ الزبى لكنه كان أعجز من أن يفعل أكثر من الكلام) الزنتاني. كتاب ثورة الشعب الليبي.. مآثر وبطولات. صفحة 14. الطبعة الأولى 2012.
في حفل الزفاف الذي شهد واقعة المنشور كان الحضور كثيفا من المسؤولين والمدعوين والوجهاء والشيوخ ورجال القبائل والسفراء والأجانب. ليبيا كلها كانت هناك. الهدايا والتهاني والأغاني وقصائد الشعر والألحان والأطعمة.. والمنشور!
من ضمن الحضور كان مدعوا السيد عبد الحميد البكوش سفير ليبيا في فرنسا. وصله المنشور الذي وجده على مائدة الطعام. قرأه ثم أعاد القراءة أكثر من مرة. تفكيره خرج به إلى خارج الحفل والقاعة والجبل الأخضر.
ثمة شيء عاصف مثل الريح القوية يراه يلوح عبر كثبان الجبل. المنشور وراءه أبعاد وتفاصيل تطغى على رائحة الطعام وصوت الموسيقى وبهجة الحفل. المنشور له ما وراءه.
في اليومين التاليين غادر ليبيا عائدا إلى فرنسا. مر بتركيا. كان الملك هناك. قام بالتحذير وسلم المنشور بما فيه إلى كبير التشريفات. ليقرأه من بعد على مسامع الملك وبإلحاح من الملك نفسه.
كان الرجل وهو يتحسس المنشور في جيبه يشعر بحرج وخجل شديدين.. لكن المنشور وصل ومع نهاية القراءة علق الملك بعبارة واحدة بعد أن خبط بيديه.. (ياه.. وصلت لعند هكي).
ثم كانت الاستقالة!
_____________