بقلم مفتاح فرج
الخديـعة
كتب ( رجل المخابرات الأمريكي مايلز كوبلاند في كتابه “لعبة الأمم“): “إن الشرط اللازم لبقاء أي حاكم فى السلطة… واستمرار تقدمه في مجال البناء والإصلاح هو أن يظهر بمظهر يستحيل القول معه أنه صنيعة لنا، وأن يتصرف بطريقة لا تظهر أي انسجام مع أذواقنا وميولنا.
وباختصار، فإن مساندتنا لاي زعيم للوصول الى سدة الحكم والبقاء هناك حتى يحقق لنا بعض المصالح التى نريدها لا بد أن ترتطم بالحقيقة القاسية وهي أنه لا بد له من توجيه بعض الإساءات لنا حتى يتمكن من المحافظة على السلطة ويضمن استمرارها.
كما أن هيكل النظام السياسي الذي يتبع ذاك الحاكم لا بد أن يكون طبيعياً وفطرياً وغير مصطنع، وبالتالي يجب أن يتضمن بعض العناصر التي تضمر عداء لمصالحنا.”
أحداث سبقت ساعة الصفر
1- مغادرة السفير الأمريكي ديفيد نيوسم ليبيا نهائياً في شهر يونيو 1969 حتى يبعد الشبهه أن له أو للسفارة أى دخل فيما سيحدث في سبتمبر 1969. كما أن السفير الجديد جوزيف بالمر استلم عمله بتاريخ 9 أكتوبر 1969. وكان السفير البريطاني رودريك ساريل هو الآخر قد غادر ليبيا نهائياً في يونيو 1969!
كذلك ومن أجل إخفاء دوره في إنقلاب سبتمبر طلب من العقيد دانيل جيمس قائد قاعدة الملاحة مغادرة ليبيا فى مارس 1970 بعد أداء مهمته بتسليم السلطة لمجموعة (البلاك بوتس) التى كان يترأسها الملازم معمر القذافي.
هذه المهمة التى جلب إليها العقيد جيمس خصيصاً في شهر أغسطس 1969، وكانت مكافأتها ترقيته إلى رتبة جنرال وتعيينه نائباً لمساعد وزير الدفاع الأمريكي لشؤون العلاقات العامة.
كان أصحاب القرار الأمريكان في عجالة من أمرهم فلم ينتظروا حتى يقوم العقيد جيمس بتسليم القاعدة إلى السلطات الليبية في 11 يونيو 1970.
بعد انتقال العقيد جيمس إلى منصبه الجديد بوزارة الدفاع عين العقيد جون جروم (John Groom) قائداً لقاعدة الملاحة وهو الذى أشرف على إخلاء القاعدة وتسفير المواطنين الأمريكان.
2- قيام أمريكا بجهد غير عادى لمساعدة الحكومة الليبية في بناء شبكة الإتصال اللاسلكي المخصصة لأجهزة الأمن والجيش وفي توحيد البث الإذاعي قبل الإنقلاب بشهور حتى تكون جميعها جاهزة يوم الأول من سبتمبر 1969.
3- الإعلان صبيحة يوم الإنقلاب عن تعيين العقيد الركن سعد الدين أبوشويرب رئيساً لأركان الجيش مع أنه استقال من الجيش آواخر 1967 (كان آخر منصب تقلده قبل استقالته هو آمر كتيبة الدروع الثانية) وكان يعمل كمحرر عقود من مكتبه بشارع عمر المختار بطرابلس، ويوم الإنقلاب كان موجوداً مع اسرته بالعاصمة الإسبانية مدريد.
وقد فوجئ العقيد أبوشويرب بنشر صورته على الجرائد وبتعيينه رئيساً لأركان الجيش الليبي فتوجه إلى روما وبعد وصوله هناك اتصل به يحى عمر وصالح مسعود بويصير (أول وزير خارجية في عهد الإنقلاب) وطلبا منه التوجه فوراً إلى ليبيا لاستلام عمله كرئيس للأركان.
يوم الإثنين 8 سبتمبر 1969 اصطحب بويصير العقيد أبوشويرب بالطائرة إلى تونس ثم إلى الحدود الليبية البرية حيث وجدا في انتظارهما سيارة عسكرية وبدلة عسكرية ليرتديها أبوشويرب كي يدخل البلد في الزي العسكري.
بقى العقيد أبوشويرب أربعين يوماً بمعسكر باب العزيزية يزاول عمله كرئيس للأركان، ثم طلب منه أعضاء مجلس الإنقلاب الاستقاله بعد أن استقرت لهم الأمور، وأدى العقيد أبوشويرب (دون علمه) الدور المرسوم له من قبل المخابرات الأمريكية، ثم عينه الإنقلابيون سفيراً بالقاهرة.
ولا شك أن الإعلان عن تعيين العقيد أبوشويرب رئيساً للأركان أربك الضباط الموالين للملك وللشلحي ومنعهم من اتخاد أى إجراء ضد الإنقلابيين، حيث أن أبوشويرب كان محسوباً على الشلحي فهو زميل دفعته بالكلية الحربية المصرية.
كما خدع هذا الإعلان أيضاً القيادة المصرية بأن العقيد الشلحي هو قائد الإنقلاب.
والجدير بالذكر أن بعض الضباط القوميين قاموا فى صيف 1966 بتنبيه القيادة المصرية إلى احتمال إقدام أمريكا أو بريطانيا على تغيير النظام الملكي في ليبيا لصالحهما، وعندما تطرق الحديث إلى العقيد عبدالعزيز الشلحي كان رد العقيد حمزة البسيوني (الشهير) أحد مساعدى صلاح نصر مدير المخابرات المصرية: “إنه متعاون معنا.”
4- عدم الإعلان عن أسماء ورتب الإنقلابيين إلا بعد مرور اسبوع من الإنقلاب حيث أعلن عن ترقية الملازم أول معمر القذافي إلى رتبة عقيد وتعيينه قائداً عاماً للقوات المسلحة يوم 8 سبتمبر 1969.
5- طبع مئات الصور للرئيس جمال عبدالناصر بمطابع قاعدة الملاحة سنة 1967 وتوزيعها على الجماهير في الأيام الأولى من الإنقلاب لإيهام الليبيين والعالم أن إنقلاب سبتمبر هو إمتداد لثورة 23 يوليو.
6- قيام المخابرات الأمريكية بطبع وتوزيع كتيبات تبين مساوئ الحكم الشيوعي، وقد عثر على أعداد منها ملقاة على الرصيف بالقرب من السفارة السوفيتية بمدينة الحدائق بطرابلس.
7- ربما يود القذافي أن تمحى الحادثة التالية من ذاكرة التاريخ. ففي يوم السبت 18 أكتوبر 1969 توجه معمر القذافي بعد أن صار عقيداً على رأس مجموعة من عربات نصف نقل نحو قاعدة الملاحة، حيث كانت تتمركز وحدة للقوات الجوية الليبية.
وبدون أخذ موافقة مسؤولي القاعدة اندفع رتل السيارات إلى داخل القاعدة. وما هي إلا لحظات حتى كان العقيد دانيل جيمس قائد قاعدة الملاحة واقفاً عند البوابة الرئيسية، وشاهد القذافي بالقرب من حاجز البوابة سانداً يده على عقب مسدسه، فحملق فيه وأمره أن يبعد يده عن مسدسه، ولدهشة جميع الحاضرين أذعن القذافي.
8- تقديم كل من مصطفى بن حليم ويحى عمر سعيد للمحاكمة غيابياً في ليبيا. وقد حكمت محكمة الشعب برئاسة الرائد بشير هوادي في 30 سبتمبر 1971 على مصطفى بن حليم بالسجن لمدة خمسة عشر عاماً بتهمة إفساد الحياة السياسية، أما يحى عمر فقد أصدرت إحدى المحاكم الخاصة حكماً بالإعدام عليه سنة 1981!
9- قيام وسائل الإعلام الأمريكية، وبإيحاء من المخابرات الأمريكية، بإظهار القذافي “المجهول النكرة” أمام الرأي العام العالمي والعربي بأنه ربح الجولة وأخرجهم من قواعدهم في ليبيا لإضفاء نوع من الهيبة والهيلمان (“البرستيج“) عليه حتى يسيطر ويقنع الجميع أنه وطني قومي وليس عميلاً لأمريكا وبطلاً مزيفاً.
إلا أن القذافي لديه إحساس عميق بأن كثيراً من أفراد الشعب الليبي والعربي يعتقدون ويرددون أنه صنيعة أمريكية. ولذلك فقد صار ديدنه الدائم تبرئه نفسه من هذه التهمة وكان آخرها يوم الأربعاء 2 مارس 2005 حينما قال: “لسنا أعداء ولا عملاء ولا حلفاء لأمريكا“.
10– إنكار الإدارة الأمريكية أن لها يداً في إنقلاب سبتمبر 1969 وتنكرها للنظام الليبي بعد أن ثبت تورطه في الإرهاب العالمي وإزهاق أرواح مدنيين أمريكان، كما حصل في لوكربي وملهى لابيل الألماني، وتهديدها من حين إلى آخر بالتخلي عنه كلما شعرت بأنه يحيد عن خدمة المصالح والإستراتيجيات الأمريكية في المنطقة، ويبدو الآن أن العقيد ونظامه قد ارتمى بالكامل في الحضن الأمريكي وأصبح رهينة في يد أمريكا تصنع به ما تشاء.
الخلاصة
“فخامة الرئيس.. كلامك مردود عليه.. المملكة العربية السعودية.. واثقة.. المملكة العربية السعودية.. مسلمة، المملكة العربية السعودية ليست عميلة للاستعمار مثلك ومثل غيرك.. من جابك للحكم أنت؟ من جابك للحكم قللي الصحيح.. من جابك للحكم؟ لكن لا تتكلم ولا تتورط بأشياء مالك فيها لا حق ولا نصيب.. الكذب هو أمامك.. والقبر هو قدامك.” الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي عهد المملكة العربية السعودية آنذاك موجهاً كلامه للقذافي خلال الجلسة العلنية لمؤتمر القمة العربي الذى عقد بمدينة شرم الشيخ في غرة مارس 2003
***
“قامت أمريكا بأشياء عظيمة حول العالم، مثل إعادة بناء أوربا بعد الحرب (العالمية الثانية) وقيادة النمو الاقتصادي العالمي، ولكن عندما يتعلق الأمر بالعالم الإسلامي فكل شئ تقريباً تلمسه الولايات المتحدة يتحول إلى رماد. سجل واشنطن في اختيار القادة الأجانب الطيعيين مروع.
ففي عام 1969 قامت الاستخبارات المركزية (السى آى إيه) بوضع ضابط صغير، معمر القذافي، في السلطة في ليبيا…”
الكاتب والصحفي الكندي إيرك مرجولس في مقالة بعنوان “أمريكا ضيعت الكرة” جريدة (تورنتو صن) 24 يونيو 2007
***
أحمد منصور [مقاطعاً]: يعني القوى الكبرى اللي تقف وراء هذه الانقلابات؟
حسين الشافعي (نائب رئيس الجمهورية المصري الأسبق):
طبعاً، هل ليبيا ديه مليون ونصف تقدر تعمل انقلاب يقف قدام أميركا وتطلع القواعد الأميركية منها؟!
كان إنقلاب معمر القذافي وشلته من الضباط المغمورين، أمريكياً صهيونياً بكل المعطيات، وما كان له أن ينجح لولا تواطؤ حكومة ويلسون العمالية في بريطانيا، وتعاون عدد من ضعاف النفوس من الليبيين والعرب. فقد سرقوا ساعة الصفر عندما كانت البلاد مهيأة لتسلم العقيد الركن عبدالعزيز إبراهيم الشلحي السلطة يوم الجمعة 5 سبتمبر 1969، وبالتالى نجحت أمريكا في إفشال مخطط الشلحي وطرد الإنجليز واستلام ليبيا.
هناك بعض المؤشرات التى ربما تؤكد الحضور الماسوني في تنفيذ إنقلاب سبتمبر 1969 ولعل أهمها كون قائد قاعدة الملاحة العقيد دانيل جيمس والذى تولى الإشراف على تنفيذ خطة الإنقلاب كان عضواً في محفل “برنس هول الأعظم الماسوني“.
بعد نجاح مهمته في ليبيا عين العقيد جيمس نائباً لمساعد وزير الدفاع لشئون العلاقات العامة ثم ترقي في السلم العسكري حتى صار مساعداً خاصاً لرئيس أركان القوات الجوية الأمريكية، وكان أول ضابط أمريكي من أصل أفريقي يمنح رتبة “جنرال أربعة نجوم” .
في سنة 1983 أطلق اسم الجنرال جيمس على المحفل الماسوني رقم 72 بولاية واشنطن الأمريكية.
الماسونية منظمة سرية تدعو إلى الإلحاد والإباحية والفساد وإسقاط الحكومات الشرعية الوطنية والسيطرة عليها.
وبعد دراستنا لأفكار وتصريحات وتصرفات مصطفى المهدوي ومعمر القذافي وبعد صدور كتاب المهدوي “البيان بالقرآن” سنة 1990 تبين لنا إنه ليس مستبعداً أن يكون المهدوي والقذافي من أتباع الماسونية.
وإذا صحت هذه الفرضية فإن سيناريو إنقلاب حسني الزعيم في سوريا سنة 1949 قد تكرر في ليبيا سنة 1969. فقد ظهرت حديثاً معلومات دقيقة تؤكد أن حسنى الزعيم كان صنيعة ماسونية وأنه كان على اتصال بجهاز الإستخبارات الإسرائيلي.
ولا بد أن نؤكد أن تحركات الماسون في العالم العربي تتسم بالسرية التامة بعكس أقرانهم في الغرب الذين لا يمانعون من البوح بإنتمائهم لهذه الجمعية والكثير منهم يرتدى خاتماً يحتوى على شعار الجمعية، كما أنهم يتصافحون بطريقة مميزة.
أثناء إدلائه بشهادته أمام محكمة قضية لوكربي باسكتلندا في سبتمبر 2000 صرح عبدالمجيد جعاكة ـ أحد شهود الإدعاء الرئيسيين ـ أن القذافي متورط في مؤامرة ماسونية عالمية، وحينما طلب بإلحاح منه محامي الدفاع الكشف عن مصدر هذه المعلومة رد جعاكة أنه علمها من شخص في ليبيا ولأسباب أمنية لا يمكنه البوح باسمه.
…
انتهى
_____________
المصدر: كتاب “المؤامرة والخديعة: خبايا وأسرار حركة الضباط الوحدويين الأحرار في سبتمبر 1969” ضمن سلسلة ”حان الوقت ليعلم شعبنا الليبي.