يوسف عبدالهادي الحبوش

بداية العلاقة مع إدريس السنوسي

مع ملاحظة أننا لسنا بصدد سرد كل تفاصيل المرحلة أو الأدوار التي خاضها رجالها, وبحديث في غاية الاختصار سنورد الآن ما لا خلاف عليه حول منشأ علاقة المرحوم المجاهد الشيخ بشير السعداويمع السيد إدريس السنوسي“.

تُجمع العديد من المصادر على أن الشيخ السعداوي كان موظفا مسؤولًا لدى الحكومة التركية في إقليم طرابلس الغرب, وأنه التحق بجانب المقاومة خلال الأشهر الأولى من الاحتلال الإيطالي لليبيا, إلا أنه غادر البلاد إلى تركيا في نفس العام 1912 لتمتد سنوات هجرته الأولى فيها ثم في الحجاز حتى سنة 1919 وهي السنة التي توجه فيها إلى تركيا من جديد قافلًا إلى طرابلس. (وهنا ربما يكون مبحث في أسباب هذه الهجرة).

وهناك في بورصة التقى الشيخ بشير السعداوي بالسيد أحمد الشريف الذي كان قد غادر ليبيا في أغسطس من سنة 1918, فطلب السيد أحمد من السعداوي أن يعاهده على المصحف بالعمل على جمع شمل القطرين وتعضيد جهود ابن عمه الأمير إدريس السنوسي.

وبالفعل عاد بشير السعداوي إلى طرابلس التي كانت تعاني في ذلك الوقت ويلات تنازع الزعامات ودوامة رحى الحروب الأهلية في شرق الإقليم وغربه والتي كان أبرز أحداثها مقتل رمضان السويحليفي غارته على بني وليد.

وبعد مرور أقلَّ من ثلاثة أشهر على زوال هذه العقبة الكأداء التي حالت دون اجتماع الكلمة وتوحيد الصفِّ في الشقِّ الغربيِّ من البلاد كان للسعداوي دورا بارزا في جمع زعامات الإقليم لعقد مؤتمر غريان في نوفمبر 1920 وتشكيل هيئة الإصلاح المركزية التي رأسها الزعيم الترهوني الكبير أحمد المريّض.

إذًا نجح مؤتمر غريان وإن جاء ذلك متأخرًا– , وورد ضمن مخرجاته الاتفاق على إمارة رجل مسلم, فترتب علي ذلك عودة الوداد بين الاقليمين برقة وطرابلس اللذان انفصلا بفعل قسوة رمضانوأفعاله الغير مبررة, فانتهز الأمير فرصة وردود كتاب إليه من الرئيس المريِّض يعبق بعبارات المجاملة السامية، ليردَّ عليه بالمثل، وبأمله في أن يسود التفاهم بين أهل برقة وأهل طرابلس.

وعليه تبادلت كل من الحكومتين الوطنيتين من يمثلها لدى الأخرى, فأرسلت الإمارة السنوسية الشيخ عبدالعزيز العيساوي ليمثلها لدى حكومة مصراتة, وأرسلت الأخيرة بشير السعداوي ليمثلها لدى الأولى لينعقد على ضوئه مؤتمر الوفاق في سرت الذي أُبرم في يوم 21 يناير 1922.

وبالفعل وصل بشير السعداوي إلى اجدابيا في شهر يونيو 1922 والتقى للمرة الأولى بالأمير السنوسي متزامنًا ذلك مع وصول مشايخ وزعماء ورؤساء قبائل برقة وقد استدعاهم الأمير للتشاور.

أرسل السيِّد بشير السعداويُّ في الأسبوع الأوَّل من إقامته في برقة إلى حكومته معربًا عن ارتياحه لنتائج زيارته واجتماعاته التي أجراها مع الأمير ومع زعماء الإقليم الشرقي.

مع نهاية شهر يوليه عاد السعداويِّ إلى مصراته، وهناك كانت كلمة الزعماء قد اتَّفقت على إرسال كتاب بيعتهم إلى الأمير والتي صدرت في 28 يوليو 1922، وتقرَّر أن يذهب بهذه المبايعة ا السيِّد بشير السعداويُّ، وعبدالرحمن عزَّام، ومحمَّد الصادق بن الحاج.

في منتصف أكتوبر سلَّم الوفد كتاب البيعة, فعقَّب الأمير على قبوله لها قائلًا:

لولا أنَّ الغرض هو خدمة المسلمين وخلاص القطرين لَـمَا كان تقبَّلَ على عاتقه هذا الحمل الثقيل“.

و بعد أن عيَّن الأمير ابن عمّه صفي الدين نائبًا عنه في منطقة طرابلس بأكملها إثر التنسيق الذي تمَّ مع وفد البيعة, فقد يمم النائب صحبة السعداوي غربًا نحو سرت محمَّلًا بالإمدادات التي طلبها المجاهدون الطرابلسيُّون.

ويجدر القول إنَّه وعلى الرغم من أنَّ قدوم نائب الأمير بعث جذوة الحماس في نفوس بعض رجال الإقليم في البداية، إلَّا أنَّ الأمور لم تستقم على هذا النحو، وعاد صفيُّ الدين أدراجه بعد انقضاء (سنة مُرَّة) تكرَّرت فيها تجربته السابقة، ولم يتمكَّن خلالها من التوفيق بين المتخاصمين، وذهبت آمال ووعود الشيخ السعداويِّ ووفد الهيأة أدراج الرياح، حيث لم يكن في مقدورهم إلزام زعماء العشائر هناك على اتِّحاد الكلمة تحت طاعة صفيِّ الدين باعتباره نائب (الأمير المبايع) كما وعدوا.

وبدون التطرُّق إلى كثير من التفاصيل، ومع انتهاء سنة 1923 لم يلبث أن قرَّر الكثير من الزعماء في طرابلس الذين امتلأت نفوسهم مرارة بسبب الصراع الأهليِّ وتطور العمليات العسكرية الإيطالية إلى الحد الذي لم تعد تجدي معه أية مقاومة, قرَّروا أن يتَّخذوا طريقهم نحو المهجر.

فاجتازوا برقة في عدَّة مجموعات إلى مصر. وكان من بين هؤلاء الزعماء أحمد المريِّض وأحمد السويحليُّ والتهاميّ قليصة وعثمان القيزانيّ وخالد القرقنيّ وبشير السعداويّ ومحمَّد الروياتيّ ومحمَّد عبدالملك، وفي صحبتهم مئات آخرون, أمّا في برقة فقد أخذت الأمور منحىً آخر بعد أن نظّم الأمير معسكراتها الجهادية تحت رئاسة أخية ووكيله محمد الرضايساعده نواب من مجاهدي وشيوخ الإقليم.

وإلى أن يعود الشيخ السعداوي إلى بلاده من جديد وتحديدا مع نهاية سنة 1947 ستكون لنا وقفات.

ثنائيات متناقضة

قبل الشروع في كتابة أسطر هذه الحلقة لزم أن أنبه على أننا لسنا بصدد سرد تاريخ الشيخ بشير السعداويالنضالي العريض, وهو ما يمكن الاطلاع عليه في مصادر متعددة، وأن سبب كتابة هذه المباحث لا يُقصد به المغالبة ولا المناكفة بقدر ما هو محاولة مني أُبيّن من خلالها وجه القصور الذي اتسم به السرد النمطي الانتقائي الذي اتبعه تيار أحاديمن الساسة والكتّاب في توصيف تلك الأحداث.

واعتمادًا على استغلال شخصيَّة الشيخ السعداوي التي تتبوَّأ منزلتها في تاريخ ليبيا المعاصر، السرد الذي به انخدع كل من قرأ تلك المدونات، واندفع تلقائيًّا وبدون أن يشعر إلى تكوين ذهنيته التاريخية في اتجاه تحقير دولة الاستقلال دولة الوحدة الوطنية والنيل من أهمِّ رجالها.

وعليه مازلت أكرر القول بأن الهدف من كتابة التاريخ وتدوينه هو محاولة رسم صورة تقريبيّة للأحداث الماضية من أجل التماس العبر، ولنعرف كيف نُغيّر مسارنا نحو الأفضل، وليس الهدف منه ترسيخ الصراع أو الحط من شأن الآخرين.

كما أود أن أنبه أيضًا بأن كل معلومة أو حادثة وردت أو سترد في هذه الحلقات هي موثّقة، ولكن ليس معنى هذا أنها صحيحة بشكل قطعي، مما قد يفسح المجال أمام البحاث لإعداد دراسات جديدة وقراءات عميقة في تاريخ هذه المراحل الشائكة.

وبالعودة إلى موضوعنا سنرى أن بداية ظهور المواقف النفسيّة الضدّية تجاه الشيخ بشير السعداوي من قِبَل رفاقه في النضال والتي ستساهم بالإضافة إلى ما سيستجد من أحداثفي خلق الذهنية التراكمية ضده؛ سنرى أنها لم تكن وليدة ليلة انتخابات فبراير 1952 واحتمالية فوز حزبه بشكل كاسح فيها كما يُزعم ويُظن، بل انها بدأت تتشكل قبل عقد من ذلك التاريخ تقريبًا.

وفي مقابل الصورة الوردية التي حاول مستشاره المصري محمد فؤاد شكريرسمها من خلال كتابه الموسوم ميلاد دولة ليبيا الحديثة وثائق تحريرها واستقلالهاالذي أضحى من المصادر الرئيسة لمعظم من كتبوا عن أحداث تلك السنوات؛ سنرى أيضًا أن شركاؤه في صنع تلك الأحداث لهم نظرة مغايرة!.

ففي نصوص رسائل عديدة بعث بها نائبه المستقيل من جمعيّة الدفاع الطرابلسي البرقاويعمر فائق شنيب إلى عدد من رجال تلك المرحلة؛ نجد في رسالته إلى الشيخ سليمان الباروني بتاريخ 24 ابريل 1939م والتي برر ارسالها إليه لاعتبار أن العهد الذي بينهما يقضي عليه أن لا يتأخر عن إعلامه بكل شاردة أو واردة مما يتعلق بالوطن الغالي –كما قال، ويضيف: وحتى يكون التفاهم بيننا مبنيا على الإخلاص لله وللوطن وبذلك يقدر لنا الفوز على الأعداء إن شاء الله، فيقول شنيب:

((…. أما بشير بك فبعد تلك الأحوال والتطوح وراء جماعة الكتلة والإستقلاليين في دمشق، ولبس ثوب الخداع والمنفعة الشخصية مثلهم، واستعمالهم إياه في مآربهم والقضاء بواسطته على الحركة الطرابلسية البرقاوية واستثمار جهودنا، أي إفهامهم بأن إيطاليا صديقتهم التي تبذل لهم الأموال باسم مصلحة فلسطين وباسم المشاغبة على الإفرنسيين والإنكليز. إن رئيس جمعية الدفاع بشير السعداوي في أيديهم. ويمكنهم إسكاته وو ….. وبالفعل قد أسكتوه عن الدفاع بعد أن ملأوا بطنه وطمسوا على عينيه وقتلوا شعوره المصطنع بإستخدامه في مصالحهم، ولما كثرت أمواله وتغيرت أحواله ….. سكت عن الدفاع عن شرف وطنه منذ أربع سنوات، وكانت النتيجة بعد أن بدرت له بوادر فشل من لاذ بهم، أن وجه فكره للإستفادة من ابن السعود، ففر من سورية إلى الحجاز، وعين بها وهو الآن هناك، …. الخ)).

ومن الجدير بالذكر ونحن ما زلنا في مرحلة التقديم لموضوعنا أن نسلط الضوء على مشكلة أخرى كان يعاني منها السعداوي وتسببت في زعزعة ثقة مؤيديه في مواقفه! وكانت الثلمة المتجددة التي ستنال بمرور الوقت من دعمهم له قبل أن تكون حجة في يد خصومه ضده، والتي آلت بالأمر في نهاية المطاف إلى تخلي أنصاره عنه كما سنرى في قابل الحلقات.

وأقصد ثنائياتالشيخ السعداوي المتناقضة إلى الحد أن جرَّأت من حوله على أن ينعته بالمراوغة والكذب!. ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

ثنائية تودده إلى الانجليز الذين كان يدرك انه لا سبيل إلى تحقيق شيء على الأرض إلا بهم، والذين هيأوا ورعوا عملية دخوله للبلاد لأول مرة، وكذلك تصريحاته غير مرة بطموحه في التعاون معهم وعدم القيام بأي عمل قد يحرجهم، بل ووعوده بامكانية قبول مبدأ وصايتهم على البلاد بطولها وعرضها، وأنه سيكفل التوقيع على معاهدة تلبي أية متطلبات استراتيجية قد يروها في طرابلس درءًا لأي عودة إيطالية كما سيَرِد، ثم ظهوره في الجانب الآخر من الثنائيّة أمام العامة بمظهر من يجاهر بمعاداة الانجليز ويقاوم سيطرتهم.

ثم ثنائية مجاهرته كداعم لخط سير تيار الأمير ادريس السنوسي باعتباره النهج الآمن الذي سيحقق استقلال البلاد في أقرب وقت!، ثم تنصله غير مرة من هذا التأييد والسير في النهج (القاتل) الذي كان يرسمه له عبدالرحمن عزام! بدايةً بكارثية عملية تشكيل هيئة تحرير ليبيا برئاسته؛ بحجة أن الإمارة السنوسية تبقى في النهاية مسألة ثانوية وأنه (أي السعداوي) ما سار في اتجاهها إلا بحكم وقع المصلحة، حتى صار هذا الأمر على نهج: ما أن يخطو السعداوي خطوة تبعث على البهجة والأمل في اتجاه الوئام؛ حتى تعقبها خطوة مناقضة منه أو موقف مغاير ينحوه السعداوي نفسه.

وعلى سبيل المثال أيضًا ثنائية إلحاحه هو ومصطفى ميزران على أن تتشكل لجنة الواحد والعشرين ولجنة الستين بالتعيين وليس بالانتخاب ولو حتى بتمثيل الإيطاليين فيهما، وذلك قطعا للطريق أمام فشل للطرابلسيين قد تسببه عملية انتخابية غير مواتية؛ يدعمهما في هذا الطلب مندوبي مصر والباكستان، ووصول السعداوي من مصر إلى بنغازي في يوم وصول اللجنة لتقديم البيعة للملك المقبل وظهوره في الصورة مع اللجنة صحبة الملك!، ثم انقلابه فجأة ليتنصل من كل ذلك ويحتج على نفس اللجنة الوطنية بعد انطلاق أعمالها ثم ليطعن في شرعيتها وفي مقرراتها!.

وكمثال أيضًا تعهده الكتابيّ السرّي بناءً على طلبهأمام الأمير وبشهادة المبعوث الأممي بالموافقة على النظام الفيدرالي المؤقت كحل ناجع للأزمة الراهنة وللمرور بالوطن نحو بر الأمان, ثم انقلابه إلى موقف الرافض علنًا أمام أنصاره لنفس الفيدرالية وتأجيج العامة في الشارع ضدها باعتبارها تقسيم للوطن مما حدا بخليل القلال أن يتلو أمام لجنة الستين الوطنية كتاب السعداوي السرّي.

يتبع

_____________

المصدر: صفحة علاء فارس على الفيسبوك

مقالات

7 Commentsاترك تعليق

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *