سالم الكبتي

تلك التيارات والاتجاهات التي بدأت تبرز تحت السطح في الجيش تعددت هنا وهناك واختلفت في أشكالها. هذا التعدد غير المرئي للجميع صار يعرف بينهم.. دفعات العراق. مجموعة دفعة مصر أو الذين يشار إليهم بأنهم محسوبون على عبد العزيز الشلحي ممن تخرجوا معه في القاهرة العام 1956.

وفي الواقع ظل هذا التصنيف ضعيفا من الناحية التاريخية حتى الآن فلم يثبت أن للعقيد الشلحي أي تنظيم داخل الجيش. ربما وصفت المجموعة من الضباط القريبة منه بأنها تنتظم سريا في خلية تتبعه، وهذا أمر بعيد.

ومن هذا التعدد أيضا ظهر تشكيل الرواد. تنظيم الملازمين الصغار أو ما يعرف بالضباط الوحدويين الأحرار، إضافة إلى تنظيم خريجي ضباط مدرسة الزاوية. كان هناك في هذا التنظيم تيار مستقل يريد أن يحقق حسب رؤيته تغييرا سلميا في البلاد ودون أية مشاكل قد تترتب عنه وتنتهي إلى نهاية غير محمودة.

في أذهان أعضاء هذا التنظيم من مدرسة الزاوية ظلت ماثلة تجارب وتنظيمات جيوش العراق وسوريا على وجه الخصوص التي دخلت على خطوط السياسة والتزمت أحيانا بالتغيير العنيف والتصفيات وإراقة الدماء.

إن هذا الشعور بالخوف من تكرار هذه التجربة العسكرية المريرة في ليبيا خلال الستينيات كان قويا لدى مجموعة من ضباط الزاوية، كما يقال عنهم، وبالتحديد دفعتها الثانية التي تخرجت في المدرسة المذكورة أواخر عام 1954.

لم يبدأ حراك هذا التنظيم داخل المدرسة ولكن بحكم العلاقة التي ربطت بين الضباط وعبر احتكاكهم اليومي بالحياة العسكرية لفترة من السنوات بعد التخرج ووقوفهم على ما اعتبروه أخطاء أو فسادا يستحق محاربته ثم تغييره.

بعض هؤلاء الضباط شاركوا كما مر بنا في حركة التمرد التي أعقبت إقالة اللواء السنوسي الاطيوش وأخرجوا من الجيش بأحكام من المحكمة العسكرية وقضوا عقوبات بالسجن الرئيسي القديم في بنغازي ثم نالوا العفو وخرجوا من السجن. أغلبهم لم يكمل المدة المقررة للعقوبة.

حركة التمرد لم تشمل كل ضباط مدرسة الزاوية لكن بقيتهم ممن لم يشارك بها شكلوا تنظيما مستقلا سريا يبعد عن الولاء للأشخاص أو الثأر لأحد في الجيش أو خارجه.

تقدم هذا التنظيم ورأسه المقدم محمد يونس المسماري وكان آمرا للمخابرة في معسكر قاريونس ومسؤوليته تشمل صنوف الجيش كله من ناحية هذا التخصص فيما كان آمر صنف المخابرة زميله في الدفعة أحمد ضياء الدين المدفعي.

المسماري في مرحلة لاحقة هو والمدفعي سيكونان مسؤولين عسكريا في معسكر قاريونس على مجموعة من ضباط انتظموا في خلية سرية عرفت في الجيش بمسمى الملازمين الصغار أو الوحدويين الأحرار ومن بينهم على سبيل المثال معمر القذافي ومصطفى الخروبي ….. وغيرهما وكان الكثيرون من الضباط لا يتوقعون لها النجاح في سباق التنظيمات والخلايا الأخرى.

تنظيم الزاوية تشكل على أساس يتوخى التغيير السلمي الهاديء. ناقش أعضاؤه الأوضاع الراهنة تحقيقا لذلك التغيير نحو الأفضل بهدوء تام.

المقدم المسماري الذي أضحى عقيدا في فترة لاحقة، حوكم بعد التغيير في سبتمبر 1969 مع مجموعة من زملائه العسكريين في قضية إفساد الجيش خلال العهد الملكي ثم عين سفيرا في المملكة المتحدة.

كان صاحب مهنية عسكرية في تخصص المخابرة فهو من أوائل ضباطها وشارك في دورات عالية في الولايات المتحدة ونال شهادة الأركان من بريطانيا، لكنه عبر ذلك كله لم يكن راضيا عما يسود الجيش من نفوذ قاد إلى الشعور عند الكثيرين بالتململ وعدم الارتياح.

في لقاءات عديدة لي معه حدثني، بحكم صداقتي ومعرفتي به وثقته، عن تلك الحالة في الجيش وعن تشكيله لتنظيم ضباط الزاوية. مساء التاسع من يونيو 2008 وبمنزله ببنغازي أشار في جملة أحاديثه معي بأنه باعتباره رئيسا لذلك التنظيم اقترح على زملائه أن يبدأ الخطوة الأولى باتجاه التغيير (الهاديء) أن يقابل باسمهم ولي العهد الأمير الحسن الرضا.

أردنا أن نضعه في المشكلة ونقحمه في أجواء البلاد التي قد تقترب من نتائج لا ترضي مستقبلها ولا أبناءها .. هكذا. قام بمقابلته وفاتحه بناء على معرفة سابقة في نية التنظيم في التغيير دون أية خسائر. وهذا التغيير بهذا الشكل المنتظر قد يكون بعيد المنال. وفي هذا الحديث مع الأمير صارحه بأن عمه الملك إدريس طاعن في السن ومحاط به ولا توجد ثمة تصورات أو رؤيا للمستقبل المنظور والبلد لا يُعرف مصيرها تماما في حالة وفاته أو حدوث شيء في الأفق غير متوقع. وأن هناك من يتربص وينتظر فرصة من الحاشية نفسها.

كان المسماري كما أوضح لي بأنه يقصد العقيد عبد العزيز الشلحي ومجموعته التي تمسك بخيوط الأمور في الجيش. أكد المسماري للأمير هذه التخوفات وهذه التربصات والانتظارات إضافة بالطبع إلى مجريات اللعبة الدولية التي لن تترك ليبيا مهما كان الأمر ولا تخرجها من حساباتها وأطماعها.

كانت الحالة الاقتصادية تتغير وتتطور. نشأت ثقافة جديدة في المجتمع تعتمد الكسب والثراء مع تدفق البترول. وأن أفراد الشعب يلاحظون ما يحدث كل يوم على مستوى الدولة ومسؤوليها وينتظرون الحل.. من الجيش دون غيره!

وهنا، كما يوضح العقيد المسماري، همس له ولي العهد بألَّا يواصل حديثه عندما يدخل خادمه الخاص الذي يحمل لهما المشروبات، فهو يشعر بأنه يراقب حركاته وسكناته ومدسوس عليه من (آل الشلحي).

لكن المسماري أثناء مواصلته بمفاتحة الأمير ولي العهد جدد له بأن الأمور ستسير بروية ودون وقوع أية مشاكل أو أزمات أو اختراقات أو تصفية حسابات مع أحد مهما كان من المسؤولين في الدولة وخارجها.

كان في نية المسماري أن يوفق في استمالة الأمير باتجاه مساندة تنظيمه العسكري ومباركة التغيير القادم طارحا بصريح العبارة أمامه إمكانية المشاركة ولو من بعيد وعزز هذا الكلام المليء بالثقة بأننا يا سمو الأمير سنكون نحن أعضاء التنظيم معك ولا نخذلك!

في جانب آخر مهم كان المسماري يشعر داخل نفسه وبشكل قوي بأن العسكريين، وهو أحدهم، لا يستطيعون قيادة البلاد. وتساءل.. كيف يوفقون في حالة نجاحهم في إدارة الأمور والسياسة والتخطيط والاقتصاد وغيرها من الشؤون. لم يجد تجاوبا أو مساندة من الأمير وظل الأمر بينهما طي التاريخ وصفحاته.

توقف التنظيم عند هذه الخطوة الأولى التي لم تكتمل. لم يعد هناك استمرار أو نية في مواصلة التنظيم لحلمه المنتظر. أوفد المسماري في بعثة طويلة قاربت عاما بالتحديد لنيل الأركان. وعند عودته كان تغيير سبتمبر قد وقع بنجاح الضباط الصغار الذين كان أغلبهم تحت إمرته.. وفازوا في السباق!

ومع ذلك استمرت مجموعة أخرى من ضباط مدرسة الزاوية في تنظيم جديد لم يكن له أية علاقة بالتنظيم السابق، بل كانت علاقته وثيقة ببعض أعضاء جمعية عمر المختار (القديمة) في بنغازي التي ظلت على دراية تامة، كما تقول بعض مصادرها، بنوايا وأهداف التنظيم الذي حدد يوم الجمعة 29 أغسطس 1969 موعدا لتنفيذ حركته..!!

____________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *