سالم الكبتي

تشكلت نواة الجيش الليبي بمسمى جيش التحرير السنوسي بمصر في اليوم التاسع من أغسطس 1940. وسط ظروف الحرب العالمية الثانية التي اشتعلت في سبتمبر 1939.

التقى الزعماء الليبيون في مهجرهم مع الأمير إدريس السنوسي في بيته بالقاهرة. اتفقوا معه على تشكيل ذلك الجيش وجندوا أبناءهم وشبابهم للانضمام إليه. تحالف الأمير مع الحلفاء الذين يخوضون الحرب ضد المحور ممثلين في الانجليز المتواجدين في مصر.

قواعدهم ومعسكراتهم وسيطرتهم على المنفذ الحيوي.. قناة السويس وكل شيء. كان الهدف تحرير ليبيا. واشترط الأمير على الحلفاء أن يشارك جيشه في العمليات الحربية التي تدور فوق الأرض الليبية أما خارجها فليس من اختصاص ذلك الجيش.

تولت كوادر وطنية ممن لديه الخبرة منذ أيام المقاومة ضد الاحتلال الإيطالي إضافة إلى أخرى فنية إنجليزية تدريب الجيش وإعداده للمهام المقبلة التي تنتظره.

كان ذلك في معسكر الكيلو تسعة في صحراء الجيزة غربي القاهرة. الآن يلوح النصب التذكاري الذي يخلد هذا التأسيس عبر الطريق الصحراوي ويكاد أن يختفي وسط زحام الأيام.

شمل الجيش السنوسي كل أبناء القبائل الليبية شرقا وغربا وجنوبا دون أية فوارق. وقارب عددهم حوالي أحد عشر ألفا ويزيد وضم أيضا مجموعة من الضباط كان عددهم ستا وتسعين ضابطا.

كان الهدف الذي التقوا عبره هو تحرير ليبيا والعودة القريبة إليها دون النظر إلى مسائل أخرى.. إلى نوازع شخصية أو الفوز بالمكاسب والمهام والغنائم.

ظل الهدف في مجمله وطنيا خالصا جعل منه جيشا نجح في تحقيق هذه الإرادة وهذا العزم الوطني بالرغم من تباين واختلافات الرؤى. وذلك كان أمرا طبيعيا في مثل هذه الأحوال لابد منه وإنجاز حتى القليل من تفاصيله بالتوافق والتنازل لمصلحة الوطن.

الخلاف كان في النهاية يقود إلى الوطن. لم تكن هناك خلافات على المصالح أو اقتسام النفوذ أو الظفر بالغنيمة في نهاية المطاف.

وفي المجمل من البداية إلى النهاية لم يكن الجيش بهذا المفهوم الوطني الذي نهض عليه مسيسا في برامجه أو مناهجه. وإنما الذي طغى، كما أشرت، هو مفهوم التحرير والعودة إلى ليبيا. وهذا التصور وضعه الأمير إدريس بالاتفاق مع زعماء المهجر.

ولم يضم الجيش في صفوفه الكوادر المتعلمة أو المثقفة إلى حد كبير سوى من بعض أفراده الذين نالوا التعليم الديني أو العام ولم يتجاوز المراحل الابتدائية فيما ترك أخرون دراستهم في الأزهر والتحقوا بالجيش للمشاركة في إنجاز ذلك التصور الوطني ومفهومه.

كانت عقيدة الجيش تتمثل في الولاء للوطن والثقة للأمير الذي كان يزور كتائب الجيش أثناء التدريب ويلتقي بهم ويحاورهم ويناقشهم ويستمع إليهم ويعالج مشاكلهم الطارئة. كان يعاون الأمير في إدارة هذا الجيش مكتب يشرف على شؤونه ويتابع مجريات أموره اليومية مع سلطات التحالف أو السلطات المصرية بحكم التواجد فوق أراضيها.

ومن جانب ثان، وفقا لهذا الولاء ولهذه الثقة، لم تكن ثمة تنظيمات عسكرية أو مدنية خلاله. لكن ثمة نفر من الجيش، وبعلم الأمير وقتها وداخل المعسكر، أنشأوا جمعية عمر المختار للقيام بنشاطات رياضية وثقافية للترويح عن الجنود بفكرة أو اقتراح من أسعد بن عمران الذي كان من جنود الجيش ولم يدم عمره طويلا.

توفي بن عمران في 1941 وترك مسؤولية هذه الجمعية من بعده لآخرين من رفاقه سيتابعون مراحلها وتكوينها بصورة نهائية عقب العودة من المهجر إلى بنغازي عام 1944.

ولم يشهد هذا الجيش محاولات لرفض أو تمرد أو عصيان حتى في وجه الكوادر الفنية البريطانية. كان التعاون يمضي رغم حساسية المواقف والقضايا. وكان المنتسبون للجيش بصبرهم يتحملون كل معاناة لتحقيق هدفهم الوطني المرتقب.

فالجيش تكون في المهجر خارج البلاد، ولكن عقله وتفكيره كان داخل وطنه المحتل.

فلم تؤثر فيه أي دعوات للاستلاب أو التأثر بدعوات سياسية أو حزبية مما كان يسود الواقع المصري على سبيل المثال.

لم يقترب هذا الجيش من السياسة وحساسياتها وتناقضاتها وتركها لأهلها من أصحاب الشأن. كانت السياسة دائما ترهق الجيوش وتغير مسارها الذي أنشئت من أجله.

ولاحقا بعد مشاركة الجيش في العمليات الحربية في التقدم إلى دخول ليبيا وفي مناطقها، خاصة في برقة، حصل التغير الهائل في العالم بنهاية الحرب واستقرار الأمور خلاله.

وكان من الطبيعي جدا أن يلتهب الصراع والمخاض السياسي في ليبيا ونتج عنه بعد محاولات الوصاية والانتداب والتقسيم ووقوف الليبيين في وجه هذه المحاولات التي كانت تهدأ ثم تتحرك في كل اتجاه..

نتج عن ذلك صدور القرار الدولي من الأمم المتحدة اعترافا باستقلال ليبيا بأقاليمها الثلاثة: برقة وطرابلس وفزان. هذا القرار لم يأت صدفة من الأمم المتحدة أو منحة منها، ولكنه في ذات الوقت أدرك أن ليبيا خاضت تجارب مريرة من التضحيات والدماء إلى أيام الحرب العالمية الثانية تعزيزا لقضايا الحرية والسلام في العالم.

أُعلن الاستقلال في الرابع والعشرين من ديسمبر 1951.
تلك الفترة لم يتواجد جيش ليبي بالمعنى العسكري التقليدي. انحلّ الجيش السنوسي. تفرق أغلب أفراده ومارسوا حياتهم العادية في الزراعة والتجارة وغيرها داخل بلادهم. وصارت بعض نواته التي بقيت حرسا أميريا يتبع الأمير إدريس ثم قوة دفاع برقة لحفظ الأمن والاستقرار. هاتان القوتان ضمتا مجموعة من ضباط وأفراد الجيش السنوسي.

خلال اجتماعات المجلس الاستشاري للأمم المتحدة في ليبيا أثناء الإعداد لاستقلال البلاد نوقش وضع الجيش الليبي في المستقبل. كيف يكون. على أي أساس. مهامه. تدريبه. سلاحه. وغيرها من مسائل.

وضعت خطة لهذا الأمر ناقشت تفاصيله لتهتدي بها السلطات الوطنية التي ستقوم باستلام مهامها عقب الاستقلال.

وانطلاقا من ذلك اهتمت الحكومة الوطنية الأولى بوضع الجيش وتشكيله والدعوة إلى قبول المجندين والأفراد من كل مناطق ليبيا. وبالفعل تحقق هذا الحلم بعودة القدامى من أفراد الجيش السنوسي للالتحاق مجددا بصفوف الجيش. وفتحت المعسكرات في أغلب المناطق التي كانت معسكرات إيطالية زمن

الاحتلال وتكون أول مركز تدريب عام 1953 في سوسة بالجبل الأخضر ثم تكونت مدرسة الضباط بالزاوية الغربية عام 1954.

واستمر تنظيم الجيش بخطوات متتابعة وبرؤية وطنية خالصة وانصرف تماما للحرفية العسكرية والتدريب ولم يبدُ خلاله أيضا أي بدايات لتنظيمات سرية داخله في صفوفه ومعسكراته وبين أبنائه ضباطا وجنودا الذين كانوا من أنحاء ليبيا بكاملها دون أية فوارق.

شكل هنا وحدة وطنية جديدة بعد أن كان رمزا لها خلال تكوين نواته في المهجر.

وهنا عُين أول رئيس لأركانه وهو العقيد عمران الجاضرة الذي كان ضابطا في الجيش التركي. لم تدم رئاسته للجيش فترة طويلة. لم يتفق مع الطواقم الفنية الإنجليزية التي تساهم في تدريب الجيش. عرف عنه كراهيته لهم. غادر وعاد إلى تركيا.
وهنا في دروب تنظيم الجيش عسكريا وإداريا استعانت الدولة الليبية بالعراق. كانتا مملكتين. تعززت العلاقات بينهما. وظلت شهرة وخبرة الجيش العراقي تعبر الخيال على الدوام.

وصلت بعثات عراقية وأسلحة وتولى ثلاثة من كبار الضباط العراقيين رئاسة الجيش الليبي.. وهم داوود الجنابي وعبد القادر الناظمي وعادل أحمد راغب. انتهت العلاقة العسكرية الليبية بقيام ثورة 14 تموز عام 1958 وتغير الأوضاع في العراق.

الضباط العراقيون رؤساء ومعلمون نظموا الجيش الليبي عسكريا ولم يلاحظ على أحد منهم تفكيره على مستوى خاص أو عام في تشكيل تنظيم سياسي عسكري سري داخل وحدات الجيش.

كان أغلبهم، أي هؤلاء الضباط، يمتازون بالخبرة وينضوي بعضهم في تنظيمات سياسية في العراق لكنهم لم ينقلوا ذلك إلى فكر الجيش الليبي الحديث.

كان هناك ثقة كبيرة بين النظامين الملكيين في العراق وليبيا. وكانت دفعات من الطلبة الليبيين التحقت للدراسة بالكلية الحربية في بغداد اعتبارا من العام 1953 إلى 1959.

هناك حصل تأثر واضح وسياسي لدى بعض هؤلاء الطلبة الموفدين وبدأت من خلالهم أولى التشكيلات أو التنظيمات السرية داخل الجيش الليبي.. وتتابعت بلا توقف.

_____________

مقالات

2,604 Commentsاترك تعليق

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *