وليد ماضي

الرصيد القيمي والأخلاقي للأمم أثمن من كل أرصدتها المادية الأخرى، فلا شيء يضاهي أهمية الأخلاق في ضمان الاستمرار والسيادة وخلق الانضباط والتوازن في المجتمع.

فالأخلاق ضرورة لبناء الثقة بين أفراد المجتمع ولضمان الوعي بالأهداف والمنافع المشتركة ولتعزيز مناعة أفراد المجتمع من أن يعتليهم المستبدون والعابثون.

تزداد أهمية الرصيد الأخلاقي في حالات الشعوب التي انحدرت في فخ الصراعات والنزاعات والفوضى الأمنية والسياسية. فأسوأ ما تخلفه الحروب الأهلية هو آثارها المدمرة على الثوابت الأخلاقية للمجتمعات ومقومات التعايش المشترك، فينتشر على أثرها خطاب الكراهية والعنف اللفظي الذي يستغله الساسة وأرباب السلطة بانتهازية مطلقة لمصلحة مشاريعهم السلطوية للنيل من خصومهم وإقصائهم.

ولكي تنهض الأمم والشعوب المنكوبة من جديد وتصير قادرة على لم شعثها واستعادة حيويتها، فإنه لا بد لها من العودة إلى معينها الأخلاقي، إلى مكامن الخير فيها وعلاماتها المضيئة المتمثلة في قدواتها ومصلحيها ومؤسسيها الأوائل، لتستلهم منهم الدروس والفوائد ولتستل من سيرتهم ومواقفهم طريق العودة نحو جادة الصواب.

هذه الحال تنطبق على الشباب الليبي المعاصر الذي شهد وتعايش مع انهيارات سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية، ليرى التناقض صارخا بين حاضرٍ يسوده العبث ويعتليه الفاسدون والانتهازيون، وتُفترس فيه الطموحات والآمال، وماضٍ يزخر بالجهاد والبذل والعطاء لأجل حرية الوطن واستقلاله.

فرغم شظف العيش وقسوة الظروف التي مر بها الليبيون الأوائل إبان الاستقلال ليبيا، فإن قيم التعايش والتسامح واحترام الآخر كانت محور الحركة في العمل العام على المستوى السياسي والاجتماعي، وكان صدق الإنسان ومسؤوليته وأمانته معيار الكفاءة وأساس القبول.

هذه الأخلاق الليبية الأصيلة كانت بارزة في مواقف المؤسسين الأوائل، وكان لها تأثير على مخرجات المرحلة الانتقالية التي أفضت إلى استقلال ليبيا، ويجب على الباحثين الشباب في ليبيا البحث والتقصي والكشف عنها وعن ملامحها في سير القادة المؤسسين للدولة الليبية الوليدة.

قائمة الأخلاق المطلوب استحضارها في هذا الزمن طويلة، ولكن على المستوى السياسي على الأقل نشير إلى أهمية خلق التسامح واحترام المخالف وكذلك المسؤولية العالية التي تتجلى في إيثار مصالح المجتمع وأولوياته على الأمجاد والمصالح الفردية لدى القادة السياسيين.

فمن أخلاق المؤسس الأول الملك إدريس السنوسي طيب الله ثراهالذي كان يرى أن الأخلاق أساس البناء والإصلاح، أنه كان هو نفسه رحيما بشعبه عطوفا عليهم، متسامحا مع مخالفيه، إلى رفاقه ومعاصريه من رجال الاستقلال، نرى جليا المسؤولية الأخلاقية العالية والمتمثلة في حرصهم على تحقيق المنافع العامة وتجنيب البلد الصراعات.

فقد كان شغل الملك الشاغل هو القطع مع زمن الكفاف وشظف العيش والحرص على الانطلاق في الإعمار وبناء مؤسسات الدولة الحديثة، وتحقيق الرفاه لشعبه الصغير الذي طحنته الحروب، ولم يستبد برأيه ولم ينكل بمعارضيه رغم الصوت العالي الذي أحدثه مناصرو الحركات القومية والشيوعية في ستينيات القرن الماضيالمعارض للنظام الملكي.

فإظهارا للاحترام والتقدير لشعبه، غلب على خطاب الملك عبارات من قبيل الأمة الليبية الكريمةترسيخا للاحترام المتبادل بين الحاكم والمحكوم، ولم يك من طبعه الاستبداد ولا الانتقام ولا التنكيل بالمخالفين، بل كان يدعو إلى التسامح ودفن خلافات الماضي وطمس الروايات التي قد تفتح أبوابا للانتقاص من أشخاص أو فئات بعينها، حتى وإن كانت روايات صحيحة.

سار على نهج الملك إدريس رجالات دولة الاستقلال، الذين تجلى البعد الأخلاقي لديهم ومستوى مسؤوليتهم في تسامحهم مع المخالف وإيثارهم للمصلحة العامة ومصلحة المجتمع ككل على مصلحة أنفسهم، والذين لا يتسع المقام لذكرهم جميعا والإشادة بمناقبهم.

من أخلاق المؤسس الأول الملك إدريس السنوسي طيب الله ثراه، الذي كان يرى أن الأخلاق أساس البناء والإصلاح، أنه كان هو نفسه رحيما بشعبه عطوفا عليهم، متسامحا مع مخالفيه، إلى رفاقه ومعاصريه من رجال الاستقلال

من هؤلاء المؤسسين الأوائل الذين كان لهم دور اجتماعي وإصلاحي مؤثر ونود أن نخصهم بالذكر في هذه السطور، التي لا تفي بقدرهم، المناضل والمثقف والمصلح الاجتماعي والعابد الزاهد الشيخ علي البكو، أحد رجال الاستقلال الذي توفي عام 1954.

فقد أسهب الشيخ أحمد القطعاني رحمه اللهفي الحديث عن عبادته وتبتله وثقافته، وكذلك مساهمته في الحركة السياسية والثقافية في ليبيا حينها، كما ذكر الشيخ القطعاني العلاقة بين الشيخ علي البكو والمناضل الوطني بشير السعداوي ومشاركته الفاعلة في إلقاء الخطب والكلمات في حزب المؤتمر الذي أسسه بشير السعداوي عام 1948.

ورغم انخراطه في الأحداث السياسية، فإن الشيخ علي كان صاحب علم وعبادة وورع وكان رحمه اللهحريصا على الإصلاح الاجتماعي ونبذ الخلافات وإصلاح ذات البين وتحييد النزاعات. كان على البكو رحمه اللهنموذجا وطنيا ودينيا مميزا، فقد اجتمعت في شخصيته النشاط والمبادرة والذكاء، مما أهله للعب أدوار سياسية فاعلة في مرحلة الاستقلال، إذ كان كثير من السياسيين يستشيرونه ولا يقطعون أمرا إلا بعد مشورته، ومنهم بشير السعداوي نفسه وكذلك أعضاء حزب المؤتمر عن زليتن، الشيخ محمد غريبي والشيخ محمد الدوفاني، كما اجتمعت في شخصيته صفات الورع والتقوى والصلاح وحب الخلوات وأهلها.

لا نزعم في هذه المساحة تضييق الحديث عن الأخلاق الليبية الأصيلة لدى رجال الدولة الأوائل أو حصرها في شخصية أو شخصيتين، إنما أردنا أن نضرب أمثلة لتذكير الشباب والمتصدرين للشأن العام في ليبيا عموما بأهمية البعد الأخلاقي في العمل الوطني، وأن يقتدوا في ذلك بسيرة الآباء المؤسسين وأن يستلهموا منهم روح الإصلاح التي انعكست في تسامحهم والتزامهم بالمصالح العامة وزهدهم في المنافع والأمجاد الخاصة.

***

وليد ماضي ـ باحث في دبلوماسية السلام وتحول النزاعات في جامعة جلاسكو بالمملكة المتحدة

______________
مدونات الجزيرة

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *