عمر الكدي
القذافي المراوغ
بعد انقلاب سبتمبر اتفق معظم أعضاء المجلس الانقلابي على إعادة السلطة إلى المدنيين خلال شهر، وفقا لشهادة عبدالمنعم الهوني في حواره مع غسان شربل، ولكن القذافي الذي وافق على ذلك كان يراوغ، ونجحت الضغوط في إرغامه على تشكيل حكومة من المدنيين ترأسها محمود المغربي الذي كان في السجن، وتولى فيها وزارة الخارجية صالح مسعود بويصير الذي فر إلى مصر منذ العام 1954 تاريخ اغتيال إبراهيم الشلحي، وتزويره لشهادة ميلاد للقاتل محيي الدين السنوسي على أنه لم يبلغ سن الرشد، ويبدو أن ذلك جرى بالتنسيق مع الملكة فاطمة التي حاولت إنقاذ ابن أخيها من الموت.
ولكن الوزارة لم تعمر طويلا بسبب الصراع بين المغربي وبويصير، حيث كان المغربي يرتاب في الدور المصري، بينما كان بويصير مع الدور المصري وكان
الجريمة والعقابينسق مع فتحي الديب.
وتشكلت الحكومة الثانية برئاسة القذافي وعضوية بعض أعضاء المجلس الانقلابي، ولكن الحكومة الحقيقية التي تتولى تسيير الأمور اليومية كانت حكومة مصرية بالكامل، وشعر المقدمان آدم الحواز وموسى أحمد بأنهما ظلما عندما استبعدا من عضوية المجلس الانقلابي، على الرغم من احتفاظهما بحقيبتي الدفاع والداخلية، وتحولت الجلسات في المجلس والحكومة إلى جلسات عاصفة، وصلت إلى تبادل السباب والكلمات النابية.
وفي إحدى الجلسات تبادل المحيشي وموسى أحمد السباب وانحاز القذافي لموسى أحمد، فسحب المحيشي بندقيته وصوبها إلى القذافي، بينما سحب القذافي مسدسه، ويقول الهوني إنه قفز هو وأبوبكر يونس ليمنعا المحيشي من إطلاق النار على القذافي، وارتميا على المحيشي وسقطوا أرضا.
وفي جلسة أخرى تناول الكلمة الرائد محمد نجم فطلب تسليم السلطة إلى المدنيين والعودة إلى الثكنات، وإذا رفض المجلس طلبه فإنه يقدم استقالته، وفعلا أخرج الاستقالة وقدمها للقذافي وغادر الجلسة، وبعد مدة اكتشف الأعضاء صدور قرارات دون علمهم، بينما امتنع القذافي عن حضور الجلسات وتوترت العلاقة بينه وبين الجميع، وبعد أن رفض الحضور قائلا إنه استقال، اجتمع أعضاء المجلس واختاروا أبوبكر يونس رئيسا جديدا للمجلس، وعاد القذافي ووبخ أبوبكر يونس قائلا له إنهم خدعوه، وبعد فشل محاولة آدم الحواز وموسى أحمد في شهر ديسمبر وجد القذافي مبررا للبقاء في السلطة بحجة المؤامرات في الجيش، وكأن الريح تحطب له فقد اكتُشفت فيما بعد مؤامرتان في سبها وبنغازي.
مع حلول العام 1973 استقال نجم والقروي وعوض حمزة، وفي العام 1975 اكتشفت محاولة المحيشي الذي فر إلى تونس، بينما اعتقل بشير هوادي أما عبدالمنعم الهوني الذي يبدو أنه كان على علم بالمحاولة فقد كان خارج البلاد، وهكذا لم يبق مع القذافي إلا أربعة أعضاء، وكان إمحمد المقريف قد توفي في حادث سير مبكرا، ويبدو أن محاولة المحيشي كانت ردا على خديعة القذافي للمجلس، ففي العام 1973 وصل الخلاف بين القذافي وبقية الأعضاء ذروته، وتعرض القذافي لضغوط كبيرة ليقدم استقالته، فطلب منهم أن يمهلوه ليقدم استقالته في مؤتمر صحفي سيعقده في زوارة لمناسبة المولد النبوي.
ولكنهم تفاجأوا بأنه أعلن الثورة الشعبية والثقافية من زوارة، وعطل القوانين المعمول بها كافة في الدولة، وحرض على تشكيل اللجان الشعبية في كل مكان، وهكذا وجد الأعضاء أنه أقالهم بدلا من تقديم استقالته، وفي 1977 أعلن قيام سلطة الشعب وهو ما يعني إلغاء ما يسمى مجلس قيادة الثورة، وشكل حكومة من المدنيين سماها اللجنة الشعبية العامة، أي تفريغ المؤسسات من محتواها وتحويلها إلى هياكل تتلقى التعليمات منه فقط.
في كتابه «الملحمة» يتنصل عبدالسلام جلود من أي مسؤولية عما آلت إليه الأمور في جماهيرية القذافي، الذي قرأ إعلان قيام سلطة الشعب كان هو نفسه عبدالسلام جلود، فهل جلود كان ساذجا لتنطلي عليه هذه الحيلة، وليحاول فيما بعد إقناع القذافي بإعادة بناء الدولة على أسس صحيحة، فيرد القذافي على تصوره الذي صاغه مع حوالي ثمانين من أساتذة الجامعات والمثقفين بأن أرسل البلدوزر، لهدم مبنى رئاسة الوزراء ومبنى البرلمان القديم، الذي كان سلمه لفرقة فنون شعبية يقودها مختار الأسود، تخرج في المناسبات بالطبل والزكرة لتغني للقذافي «يا شراب حليب الناقة خليت العالم يزاقى».
بنفسي رأيت عبدالسلام جلود في جامعة طرابلس في ساحة كلية الهندسة يوم السابع من أبريل وهو يطلق النار من مسدس في الهواء، ويحرض الطلبة على سحق الطلبة الرجعيين حسب وصفه، بينما كانت المشنقة منصوبة لشنق رشيد كعبار.
مما سبق يتضح أن القذافي مراوغ وماكر وأن زملاءه مجموعة من المغفلين. عندما يتقدمون خطوة يكون قد سبقهم بعشر خطوات، ويقودهم مثل العميان إلى الفردوس بينما كان يقودهم إلى الجحيم، لذلك من حقه أن يصفهم بأنهم مجموعة من الدواب سخرهم الله له ليركبهم إلى حيث يريد.
القذافي والطلبة
أدرك القذافي مبكرا أن الطلبة هم أخطر شريحة على نظامه، لذلك نظم أولا معسكرات الإعداد والتثقيف السياسي للحاصلين على الشهادة الثانوية، وكان يحضر شخصيا لمناقشة الطلبة في المواضيع السياسية والأيديولوجية كافة، وكل من يشتم منه معارضة يحال إلى الكلية العسكرية حيث يخضع لرقابة صارمة، واكتشف فيما بعد عدة خلايا كانت تخطط لقلب نظام الحكم.
وفي العام 1973 خرجت أولى مظاهرات الطلبة من جامعة بنغازي ثم طرابلس، وبدأت المعركة مبكرا للسيطرة على اتحاد الطلبة. حاول القذافي استمالة قادة الطلبة دون جدوى.
وفي العام 1976 بدأت المعركة الدموية مع الطلبة يوم السابع من أبريل، حيث اقتحم الحرم الجامعي عدد كبير من الجنود يرتدون الملابس المدنية، ويتسلحون بالهراوات والعصي، وبعد عام أعدم عمر دبوب ومحمد بن سعود شنقا في ميدان عام في بنغازي، وظلا معلقين عدة ساعات بينما يراقب القذافي المشهد من مبنى مجاور، وفيما بعد شنق أعضاء اللجان الثورية كل يوم 7 أبريل عددا من الطلبة في جامعتي طرابلس وبنغازي، واستمرت الإعدامات حتى منتصف الثمانينيات، وألقي القبض على عشرات الطلبة وزج بهم في السجون بعد محاكمات صورية، ولم يخرجوا إلا في أصبح الصبح العام 1988، بينما فضل الكثير من الطلبة الذين أوفدوا للدراسة في الخارج على البقاء هناك وعدم العودة إلى ليبيا، والذين كان لهم دور فيما بعد في تأسيس المعارضة بكافة توجهاتها.
كما أدرك القذافي أن الطلبة شريحة غير منضبطة ويصعب السيطرة عليها، لذلك قرر عسكرة المدارس والمؤسسات التعليمية وفرض التدريب العسكري العام على الطلبة، ووجد الطلبة أنفسهم في طابور عسكري ينفذون أوامر صادرة من جندي لم ينجح في دراسته، ويوجه لهم الإهانات ويصفعهم ويعاقبهم بالوقوف في الشمس عدة ساعات والزحف والغوص في مياه المجاري.
وفيما بعد أجبر الطلبة على ارتداء الملابس العسكرية في المدارس، تحت إمرة المعلم الضابط ورئيس عرفاء وعدد من الجنود، ثم نظموا في سرايا وكتائب متخصصة، وتحولوا إلى احتياطي للجيش.
وعندما وجد القذافي أن هذه الطريقة مجدية في استئصال روح التمرد من الطلبة عمم التجربة على الشعب كله، وهكذا بدأ الموظفون والمدرسون والأطباء والمهندسون يتدربون في كل أنحاء البلاد، وهكذا ولد الشعب المسلح وفقا لدعاية القذافي.
ولكن في الحقيقة تحول المواطن إلى عسكري لا حول له ولا قوة ولا يملك حتى سلاحه، وذات مرة فرض القذافي على الشعب دفع ثمن البندقية، وبدأت المصارف تستقطع ثمن البندقية على دفعات، الأمر الذي دفع عجوزا من الزنتان للقول «باهي اللي ما قالش ادفعوا ثمن الدبابة».
في مطلع التسعينيات عندما كانت مجلة «لا» تصدر عن رابطة الأدباء والكتاب، اقترحنا معرفة مصير ثمن البندقية، وذهبنا إلى جميع الهيئات الرقابية دون جدوى.
لا أحد يعرف مصير مئات الملايين من الدينارات ثمن البنادق، وأخيرا لجأنا إلى رئيس الحكومة المرحوم عمر المنتصر، فقال لنا بلهجته الساخرة، ابحثوا عن ثمن البندقية بعيدا عني نحن في الحكومة لم نتسلم شيئا.
بعض الطلبة من الجنوب كان حظهم أسوأ، فقد جمعوا على عجل في نهاية الثمانينيات من مدارسهم الثانوية، وأجبروا على ركوب الحافلات وهم يرتدون ملابسهم العسكرية، ليجدوا أنفسهم في قلب المعركة في شمال تشاد.
قُتل من قُتل وأُسر من أُسر. بعض الأسرى انتموا لصفوف المعارضة وتدربوا تحت إشراف العقيد خليفة حفتر قائد الجيش الليبي في تشاد الذي أسر بعد معركة وادي الدوم وانشق على النظام فيما بعد، ورحلوا معه إلى الولايات المتحدة عندما انقلب إدريس دبي على الرئيس التشادي حسين حبري.
بعد غزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان وصلت تقارير أمنية للقذافي تؤكد انضمام أعداد كبيرة من الشباب الليبي للمقاومة الأفغانية، كانوا يسافرون عبر السعودية وباكستان، وعندها أوقف القذافي عسكرة الطلبة وحولهم إلى المشاريع الزراعية والمصانع، فقد أدرك أن هؤلاء سيقاتلون قواته بعد عودتهم إلى ليبيا، كما ألقت قوات الأمن القبض على الشباب الذين يصلون الفجر في المساجد، وكل من أطلق لحيته ولبس ملابس السلفيين.
وفي منتصف التسعينيات تجسدت مخاوفه في شوارع بنغازي عندما كشفت الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة وجودها، ومن بنغازي وأجدابيا ودرنة انتقل القتال إلى غابات الجبل الأخضر، وحوصرت درنة وفتشت بيتا بيتا بحثا عن مقاتلين أرهقوا قوات الصاعقة بقيادة اللواء عبدالفتاح يونس.
وكلف عبدالسلام الزادمة بإعداد معسكر لإيواء الشباب الجهاديين وإعادتهم إلى حظيرة الطاعة، عن طريق شيوخ السلفية.
كما كلف القذافي ابنه الساعدي بالتحول إلى السلفية بعد فشله في كرة القدم، وبدأ الساعدي يروج للسلفية غير الجهادية التي تحرم الخروج على «ولي الأمر».
وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر العام 2001، ألقت المخابرات الأميركية القبض على قادة الجماعة الإسلامية المقاتلة في عدد من الدول الآسيوية وسلمتهم للقذافي، وفي العام 1996 قتل في سجن بوسليم 1250 سجينا معظمهم من الجماعة المقاتلة بعد تمردهم للمطالبة بتحسين ظروف سجنهم، تلك المذبحة التي كانت أحد أسباب ثورة 17 فبراير 2011.
_______________