معتصم علي
عمر المختار.. اسم عندما يُلقى على مسامعنا، أو يتردد صداه داخل نفوسنا فإننا وبشكلٍ لا إرادي تغمرنا مشاعر الفخر والاعتزاز، ويلمس روحنا شيء من القوة والثبات، ويُنفَس بين ظُلمات يأسنا وتخبطنا بريق من الأمل في موعود الله.
فمن هو ذلك البطل المغوار الذي سطّر صفحات مشرقة في تاريخ عز هذه الأمة ومجدها التليد، الذي حتمًا لا ولن ينضب إلى يوم الدين مهما طال ليل الظالمين.
هو السيّد عُمر بن مختار بن عُمر المنفي الهلالي، من بيت فرحات الذي ينتمي إلى قبيلة منفة الهلالية، والتي تنتقل في بادية برقة الليبية.
اشتهر بين الناس باسم (عمر المختار)، ولُقب بالعديد من الألقاب فهو شيخ المجاهدين، وهو أسد الصحراء، وهو شيخ الشهداء، كما أنه كان رمزًا من رموز الدعوة السنوسية في ليبيا، وقائدًا عامًا لها فترة طويلة من حياته.
كان عمر المختار مُقاومًا ليبيًا، عربيًا أصيلًا، وقائدًا فذًا، ومُجاهدًا فريدًا من نوعه، قاد الحروب والمعارك ضد إيطاليا المُحتلة وحكومتها الفاشية منذ دخولها ليبيا عام 1911 من الميلاد، ولأكثر من عشرين عامًا، حتى أُسر في إحدى المعارك الطاحنة، وهو شيخ في الثالثة والسبعين من عمره، وتم محاكمته صُوريًا وإعدامه شنقًا من قِبل الطليان، فلقي ربه حرًا كريمًا شهيدًا.
قد يتسائل البعض عن:
ما هي جنسية البطل عمر المختار؟
ولد الراحل عمر المختار رحمه الله في بلدة البلطان بمنطقة الجبل الأخضر التابعة في الوقت الحالي لليبيا، لكنها كانت تابعة للخلافة العثمانية آنذاك، وينتمي لبيت فرحات من قبيلة المنفة الهلالية.
كان عمر المختار رحمه الله: متوسط الطول. قوي البنية. ذو شعر أبيض. حاد الذكاء. واسع المعرفة. حازم. حكيم. عادل منصف. شديد النزاهة والتواضع.
رحيم. مخلص لوطنه. متدين وقلبه معلق بالله. محارب شجاع. صريح ولا يخشى في قول الحق لومة لائم.
وُلد عمر المختار في عام 1862م وقيل في (20 أغسطس عام 1858م) في بادية بطنان بالجبل الأخضر في زاوية الجنزور بمدينة برقة التي تقع شرق طبرق الليبية. أبوه مختار بن عُمر، وأمه عائشة بنت محارب، وكان له أخ واحد يُدعى محمد المختار.
ترّبي عمر المختار يتيمًا حيث تُوفي والده وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره، وهو في طريقه إلى الحج، وقد أوصى قبل وفاته برعاية وتربية ولديه إلى صديقه حسين الغرياني شيخ زاوية جنذور، الذي وفّى بتلك الوصية نعم الوفاء، فقام بتكفلّهما وإلحاقهما بمدرسة القرآن الكريم بالزاوية، ثم أرسل عمر إلى معهد الجعبوب لاستكمال تعليمه الديني على يد كبار المشايخ والعلماء، شأنه في ذلك شأن طلبة العلم من القبائل الأخرى.
نشأ عمر المختار بين أبوين صالحين، في أسرة تنتمي لعائلة تحافظ على التعاليم الدينية والتقاليد البدوية، والعادات العربية الأصيلة التي تعتد وتفخر بها من شجاعة وكرم وعزٍ وإباء وشهامة وشموخ.
وقد كان والده أحد رجال الدعوة السنوسية التي كانت تسيطر على معظم القبائل الليبية آنذاك، وهي دعوة تقوم على ركيزتين اثنتين الدعوة إلى الله بالتي هي أحسن، والجهاد والقتال لكل ظالم معتدي غاصب للبلاد.
كان ليُتم عمر المختار ترعرعه بين أحضان هذه الدعوة التي تقوم على كتاب الله وسنته، بالإضافة إلى استعداداته الفطرية للتفاعل مع مكوناتها ومبادئها العظيمة، من تمسك بالأخلاق الإسلامية الحميدة، وتدفق دماءها غيرةً على الإسلام والوطن، ومقاومة كل من تُسوّل له نفسه بالاعتداء عليهما، كان لذلك كله الأثر الأعظم في تكوين شخصية عمر المختار ونشأته.
كما أنّ الرجل قد عهد القرآن الكريم طوال حياته، فلم يُفارقه منذ مصغره وحتى استشهاده، فشكّل القرآن الكريم وعيه، ونظم داخله، وضبط سيره واتجاهه في هذه الحياة، حتى كان بمثابة الحافظ له من الوقوع في الزلل والتقصير الذي عادةً ما يقع فيه الإنسان الغافل.
تزوج عمر المختار مرتين، المرة الأولى من ابنة عمه السيدة عزة الفيومي ولم يرزق منها بأي أولاد حتى توفاها الله، بعدها تزوج من السيدة فاطمة الغرياني عام 1964م، ورزق منها بأولاد لكنهم ماتوا صغارًا.
بعد التحاق عمر المختار بمدرسة القرآن الكريم في الزاوية، أكمل تعليمه في معهد الجعبوب الذي أقام فيه مدة ثمانِ سنوات طلبًا للعلم، تلّقى فيه العلوم الشرعية من فقه وحديث وتفسير، ودراسة اللغة العربية، على يد مجموعة من العلماء والمشايخ السنوسية الكبار، مثل السيد الزوالي المغربي، والسيد الجواني، والعلامة فالح بن محمد بن عبد الله الظاهري المدني، وعلى رأسهم قطب الدعوة السنوسية الإمام المهدي السنوسي.
وقد شهد له جميع مُعلميه ومشايخه بالنباهة والفطنة والذكاء، وإخلاصه للعلم والدعوة، مما كان يسترعي اهتمامهم وعنايتهم به، بل ونقل ذلك إلى الأمام المهدي السنوسي الذي كبر عُمر المختار في نظره، مما دفعه لاصطحابه معه في رحلاته الدعوية المختلفة التي يسافر فيها لنشر الإسلام وتعاليمه السمحة في قبائل وبلدان تشاد وغرب السودان.
على الجانب الآخر فقد تعلّم عمر المختار من البيئة الصحراوية التي نشأ فيها الكثير من المعارف والدروس والمهارات الحياتية المختلفة التي أصقلت شخصيته، وهيأته للقيادة والزعامة، فقد كان خبيرًا بمسالك الصحراء، والطرق المختلفة المؤدية إلى مصر والسودان خارج برقة، وإلى الجعبوب والكفرة بداخلها، ومعرفته الجيدة بتاريخ ليبيا، وأعراف القبائل وأنسابها، وروابطها التي تربط بعضها ببعض، بالإضافة إلى تعلّمه وسائل فض المنازعات والخصومات بين القبائل والأفراد، وإلمامه الواسع بالمحيط الذي يعيش فيه والأحداث المختلفة التي تدور من حوله على الدوام.
كما كان له معرفة بأنواع النباتات وخصائصها وفوائدها، والحيوانات البرية، والأمراض التي تهدد بقائها وعلاجها، حتى أنّه كان يعرف سمات الماشية التي كان يضعها أصحابها عليها لتمييز ملكيتها.
أمّا بالنسبة لفكر المختار وتوجهه فقد نبع من صُلب الدعوة السنوسية الذي كان شديد الإخلاص لها ولمبادئها، والولاء والاحترام لمشايخها وقادتها حتى أنّه كان يقول: إن قيمتي في بلادي –إذا ما كانت لي قيمة أنا وأمثالي– مستمدة من السنوسية!
ويُذكر أنّه عندما توجه عمر المختار إلى مصر في مارس 1923م لمقابلة قائده الأمير محمد إدريس السنوسي لمناقشة آخر أوضاع الحرب في ليبيا ومستجداتها، وفد إليه مجموعة من الليبيين الذين كانوا يقيمون في مصر وهم من قبيلته منفة لمقابلته، فسألهم أولًا هل أتيتم إلى شيخي ورحبتم به عند قدومه إلى مصر؟! فأجابوا بالنفي معتذرين، فرفض مقابلتهم قائلًا: “لا أقابل أُناسًا تركوا شيخي الذي هو وليّ نعمتي وسبب ما أنا فيه من خير” بل وهددهم بالقطيعة، فلّما وصل الأمر إلى شيخه أمره بمقابلتهم فامتثل المختار لأمره.
تشكل فكر المختار ووعيه بالمبادئ التي تبنتها الدعوة السنوسية المباركة، فقد كان حب الجهاد يجري في دمه، والدفاع عن الدين والوطن والعرض هو أغلى ما يملكه في حياته.
يقول الأستاذ توفيق الواعي عن ذلك: “لقد نشأ عُمر المختار في بيئة أكسبته الفقه في الدين، وعلمته الدعوة إليه وأعظمت في عينيه فضيلة الجهاد، ولا أدلّ على ذلك من أنه قضى عمره يجاهد أعداء الإسلام، ويصارع أعظمهم جبروتًا وكبرًا على أرض ليبيا وخارجها، ولا شيء يُصقل إيمان المسلم ويزيد من توكله على ربه كساحات المعارك ومقارعة الباطل والظالمين”.
كان عمر المختار منذ صغره مؤمنًا بمبادئ الدعوة السنوسية ويوليها كل الولاء، حتى أنه قال عنها: “إن قيمتي في بلادي – إذا ما كانت لي قيمة أنا وأمثالي– مستمدة من السنوسية”.
كان عمر المختار ينتمي للدعوة السنوسية، وكانت هذه الدعوة في بدايتها صوفية، وقد اشتهر المختار بتصوفه وورعه وتقواه وتعلق قلبه بالله عز وجل، وكان محافظًا على الصلاة وقراءة القرآن.
لقد استمد عمر المختار طريقه في الدعوة إلى الله من القرآن الكريم، ومضى على نهجه ونبراسه مُطبقًا قوله تعالي: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، ومُتبعًا نهج النبي وأمر الله تعالي له: (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ على بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)، وأمره له بالقوة والغلظة في قتال الكافرين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) وغيرها من الأوامر والنواهي الربانية التي كان يتعبد بها المختار إلى ربه، فكان داعيًا إلى الله قولًا وعملًا.
وقد تجلى ذلك في العديد من مواقفه مع رفقاء دربه، وأهله وعشيرته، والناس عامةً، بل ومع أعدائه مقاتلين وأسرى، حيث عاملهم بما نص عليه القرآن الكريم فلم يتبع هوى نفسه، أو ينل شيء من حظه في ركام تلك الدنيا الفانية، وإنما كان شديدٌ على نفسه، يُلزمها حدها، ويُلجمها هواها وغرورها، رحيمٌ بأهله، رفيق بصحبه، شديد الغلظة على الكافرين حتى أنَّ أعدائه قد شهدوا له بذلك.
فكان من بين اعترافات الضابط الإيطالي المجرم غراتسياني مما قاله في مذكراته: “إن عمر المختار يختلف عن الآخرين فهو شيخ متدين بدون شك، قاسي وشديد التعصب للدين، ورحيم عند المقدرة ذنبه الوحيد أنّه يكرهنا كثيرًا وفي بعض الأوقات يسلط علينا لسانه ويعاملنا بغلظة”!.
وإنَّ ذلك لم يأتِ من فراغ، فقد كان الرجل منشغلًا بالقرآن يتلوه ليل نهار، حتى أنّه كان مواظبًا على ختمه في سبع، منذ وصية سيده الإمام محمد المهدي السنوسي له بقوله: “يا عمر، (وردك القرآن)!”، فكان زاده الذي يغمر روحه بالقوة والثبات، ويُرّسخ في قلبه التقوى والإيمان، وكان يتعبد إلى الله بتنفيذ كل ما جاء فيه.
ذكر المجاهد محمود الجهمي –الذي حارب تحت قيادته، ولازمه كثيرًا– في مذكراته بأنّه لم يشهد قط نوم سيده حتى الصباح، فكان لا ينام من الليل سوى ساعتين أو ثلاث، ثم يصحو فيتناول الإبريق ويسبغ الوضوء فيتلوا ما تيسر من القرآن، ثم يقوم طرفًا من الليل، ثم يعود مجددًا لتلاوة القرآن.
ويحكي الأستاذ محمد الطيب الأشهب عن عمر المختار فيقول: “عرفته معرفة طيبة وقد مكنتني هذه المصاحبة من الاحتكاك به مباشرة، فكنت أنام بخيمته وإلى جانبه” ثم يستطرد فيقول: “وكأني أراه من خلف السنين وهو قائم يصلي لله رب العالمين في وديان وجبال وكهوف الجبل الأخضر وقد التف بجرده الأبيض في ظلمة الليل البهيم وهو يتلو كتاب الله بصوت حزين، وتنحدر الدموع على خدوده من خشية العزيز الرحيم”.
ولعلّ هذا هو ما يُفسر سر فتح الله على الرجل تلك الفتوحات، ورفع ذكره ومقامه في حياته وبعد مماته في مراقي الأبطال الشجعان، حتى أنّه حظي بثقة واحترام جميع رموز وقادة الدعوة السنوسية، وعلى رأسهم الإمام محمد المهدي السنوسي الذي قرر مبكرًا أن يوليه المهام والمسؤوليات الدعوية فأختاره أن يكون على رأس وفدٍ من الدعاة السنوسيين إلى السودان للتبشير بالإسلام وتعليم الناس أمور دينها عام 1894م، فلما همّوا بالانطلاق التقوا في الكفرة بقافلة من التجار سوف تسير إلى هناك فانضموا معهم لخبرتهم الأكبر بطرق الصحراء ودروبها، وفي وسط الصحراء قبيل الوصول للسودان اعترض طريقهم أسد.
وكان التجار قد تعودوا على وجوده في ذات المكان فكانوا يتركون له جملًا من بعيرهم حتى يدعهم يمرون في سلام، فلّما أخبروا المختار بذلك قال: “إن الإتاوات التي كان يفرضها القوي منا على الضعيف بدون حق أبطلت، فكيف يصح لنا أن نعيد إعطاءها للحيوان؛ إنها علامة المذلة والهوان، إننا سندفع الأسد بسلاحنا إذا ما اعترض طريقنا”، فحاول بعض المسافرين أن يثنيه عن عزمه، فرد عليهم قائلًا: “إنني أخجل عندما أعود وأقول إنني تركت بعيرًا إلى حيوان اعترض طريقي، وأنا على استعداد لحماية ما معي، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، إنها عادة سيئة يجب أن نبطلها” وبالفعل عند هجوم الأسد واجهه المختار ببندقيته وصارعه حتى أرداه قتيلًا، ثم أمر بسلخ جلده حتى يراه أصحاب القوافل الأخرى.
وقد كانت هذه الواقعة هي سبب إطلاق لقب (أسد الصحراء) عليه، بعد أن ذاع صيتها في المجالس البدوية والعربية، ولّما سأله الاستاذ محمد الطيب الأشهب في معسكر المغاربة أن يحكي لهم تلك الواقعة، قال الشيخ في إنكار: (تريدني يا ولدي أن أفتخر بقتل صيد)! فامتنع مرددًا قوله تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى).
ولمّا عاد من تلك الرحلة المباركة في عام 1897م، أسند إليه الإمام محمد المهدي السنوسي مشيخة زاوية القصور بمنطقة الجبل الأخضر، وقد كانت تشمل هذه المنطقة قبيلة العبيد التي كان معروفًا عنها أنها صعبة المراس والانقياد.
إلّا أنَّ عمر المختار استطاع بذكائه وحكمته المعهودة أن يجعلها تنقاد وتخضع عن رضا ورحابة صدر، فتعامل مع أهلها باللين تارةً وبالحزم تارةً أخرى، حتى لانت له الصعوبات، بل ونال احترام جميع السنوسيين وأصبح في نظرهم قائدًا وزعيمًا، فصاروا ينادونه (سيدي عُمر) ولقب (سيدي) لا يناله إلا القلة من كبار المشايخ ورموز الدعوة السنوسية.
ثم انتقل عمر المختار مع شيخه الإمام المهدي السنوسي إلى تشاد في عام 1899م، عندما تقرر نقل مقر القيادة للدعوة السنوسية هناك، حيث اختاره أن يرافقه في تلك الرحلة ويكون نائبًا عنه في القيام بالمهام الدعوية الجديدة التي لن يجد أفضل من المختار لتوليها، فقد كان من شدة إعجابه بعمر المختار يقول:
لو كان عندنا عشرة مثل عمر المختار لاكتفينا بهم!
وهناك شارك في الحروب الليبية ضد الحملات الفرنسية، في المناطق الجنوبية من السودان الغربي، وتشاد، وحول واداي.
ثم استقر فترة في قرو وكان داعيًا ومقاتلًا بها، ثم عينّه الشيخ المهدي السنوسي شيخًا على زاوية عين كلك، فكان مُعلّمًا للقرآن، ومبشرًا بالإسلام حتى تم استدعاؤه إلى برقة عام 1902م بعد وفاة الشيخ الإمام محمد المهدي السنوسي، ليتولى مشيخة زاوية القصور مُجددًا، واستمر في دعوته من خلالها لمدة ثمانِ سنوات حتى إعلان إيطاليا الحرب إلى ليبيا في أكتوبر 1911م.
وقد خاض الشيخ الجليل في هذه الفترة بقيادة رجاله المجاهدين أيضًا حروبًا ضد الاحتلال البريطاني على حدود مصر الذي كان يحتلها آنذاك، ومن أشهرها معركة سلّوم الطاحنة في عام 1908م والتي انتهت باستيلاء البريطانيين على السلّوم.
هكذا كانت رحلة عمر المختار الدعوية، كلها جهاد وعمل، ودعوة إلى الله بالتي هي أحسن، وقد صنع بذلك نموذجًا للداعية والقائد الرباني، يُحتذي به لكل من سار في هذا الطريق وسلك ذلك الدرب المبارك.
كان لدى عمر المختار تُصور قرآني شامل عن الجهاد، فالجهاد لديه تربية وإيمان، وجهاد نفس أولًا، حتى يمكن لصاحبه أن يجاهد في أرض المعارك والنزال، كما أن كل منهما يعمل في الآخر ويؤثر فيه، فهما متداخلان متكاملان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، والجهاد لديه أمر واجب على كل مسلم بما يقتضيه الحال، وما يسعه من قدرة واستطاعة فلا يكلف الله نفسًا إلّا وسعها، يقول رحمه الله: ” كل مسلم الجهاد واجب عليه وليس منه، وليس لغرض أشخاص، وإنما هو لله وحده”.
لذلك فقد عاش عمره كله مجاهدًا مناضلًا، ولم يترك ساحة الجهاد، وسلاحه فيها قط، حتى عند إصابته بالحميّ، وقد كان جسمه يرتعد من ألمها، قال لرجاله المقاتلين: “اربطوني على ظهر جوادي بالحبال حتى لا أتخلف عن القتال معكم”!
ولّما عرضوا عليه الذهاب للحج وترك ساحة الجهاد قال: (لن أذهب ولن أبرح هذه البقعة حتى يأتي رُسل ربي، إنَّ ثواب الحج لا يفوق ثواب دفاعنا عن الوطن والدين والعقيدة)!
حتى عندما ألقوا الطليان القبض عليه في معركته الأخيرة معهم، ظنوا بأسره أنهم قد كسروه، وهو القائل: ” لئن كسر المدفع سيفي فلن يكسر الباطل حقي”!
خاض عمر المختار مئات المعارك ضد المحتلين، فأينما وجد المحتل الغاصب للبلاد وجد هذا الأسد مع رجاله الأشداء، فقاتل الفرنسيين والبريطانيين، وحارب الطليان لمدة عشرون عام، والعجيب أن بداية حربه معهم كان قد بلغ من العمر 53 عامًا! فبالرّغم من كبر سنّه حينئذ إلّا أن روحه كانت فتية، مُفعمة بالقوة، والإرادة، والإباء، وحينما حاول بعض من مشايخ قبيلته المقيمين في مصر أن يثنوه عن ذلك، بحجة أنه قد بلغ من العمر عتيًا، وتلزمه الراحة والهدوء، وأنّه يمكن للدعوة السنوسية أن تجد قائدًا آخر يقود الجهاد ضد الطليان غضب غضبًا شديدًا وقال: “إنَّ كل من يقول لي هذا الكلام لا يريد خيرًا لي، لأن ما أسير فيه إنما طريق خير ولا ينبغي لأحد أن ينهاني عن سلوكها، وكل من يحاول ذلك فهو عدو لي”!
صرّح الجنرال الفاشي غرتسياني في كتابه “أنّه التقى السيد عمر المختار في 263 معركة فترة حكمه في برقة التي لم تتجاوز العشرين شهرًا”!
وبالرّغم من أن الرجل لم يتلقى تدريبًا عسكريًا في إحدى المعاهد العسكرية الضخمة، إلّا أنّه كان خبيرًا في القتال والمناورات، فقد تعلّم الخطط العسكرية، ومهارات الحروب، في ميادين المعارك التي خاضها مع رجاله ضد الطليان، فتفوق عليهم فيها حتى أورثهم الخوف والرّعب من تردد اسم عمر المختار، ومع ذلك كلّه لم يكن لديه جيش نظامي كما هو الحال مع عدوه، فقد كان قليل العُدة والعِتاد إلّا من إيمانٍ راسخ في القلوب، وعقيدة سليمة لا يُزعزعها كثرة وبهرجة الأعداء، فكان دافع رجاله للقتال كما قال سيدهم: ” إننا نقاتل؛ لأن علينا أن نقاتل في سبيل ديننا وحريتنا حتى نطرد الغزاة أو نموت نحن، وليس لنا أن نختار غير ذلك”!
لذلك فقد أيقن موسليني حاكم إيطاليا بعد معركة أم الشفاتير (عقيرة الدم) الطاحنة عام 1928م، أنّه لا فائدة من استمرار العمليّات العسكرية ضد هؤلاء الأبطال الأفذاذ، وصرّح قائلا: ننا لا نحارب ذئابًا كما يقول غراتسياني بل نحارب أسودًا يدافعون بشجاعة عن بلادهم.. إن أمد الحرب سيكون طويلًا!
ولم تكن الحرب بين المقاومة الليبية والطليان متكافئة على الإطلاق، فلم يزد عدد المقاتلين لدى كتائب وفرق عمر المختار عن 1000 مقاتل أو نحو 1500 من المجاهدين في أحسن الأحوال، في معظم معاركه التي خاضها، وكان سلاحهم عبارة عن بنادق خفيفة بالإضافة إلى الخيل والجمال، بينما على الناحية الأخرى كانت القوات الإيطالية تملك أسلحة متقدمة ومُعدات ضخمة هائلة، من الطائرات والمصفحات والسيارات، حتى أن سلاح المنطاد الجوي قد اُستخدم لأول مرة في تلك الحروب الإيطالية الليبية.
لذلك فقد اعتمد عمر المختار في معظم معاركه التي خاضها ضد الطليان على أسلوب الكرّ والفر، فكان يحاربهم حرب عصابات، حيث يهجم المجاهدين عليهم في الوقت المناسب، فيوقعون بهم النكاية، ثم ينسحبون سريعًا إلى مواقعهم، ثم يهجمون مجددًا وهكذا، حفاظًا على رجاله وعلى استمرارية المقاومة.
والحقيقة أن المعارك والانتصارات التي خاضها المختار ورجاله، لا يُمكن أن نُغطيها في هذا المقام، ولعلّ من أبرزها وأشهرها؛ ما يلي:
معركة هامة: التي نشبت يوم الجمعة 16 مايو 1913م والتي حقق فيها المختار ورجاله نصرًا بالغًا؛ حيث انتهت بمقتل 70 جندي إيطالي، وإصابة 400 آخرين.
معركة الرحيبة: أو فيما تعرف بـ (موقعة يوم الرحيبة) والتي كانت في 28 مارس 1927م، وكانت معركة ضارية، انسحق فيها الطليان على يد مقاتلي عمر المختار وتكبدوا فيها خسائر فادحة.
معركة أم الشفاتير (عقيرة الدم): وهي المعركة الأطول والأصعب على الإطلاق طوال مدة قتال المجاهدين للطليان، حيث كانت حرب إبادة لمقاتلي المقاومة الليبية، تستهدف رجالهم ونسائهم وأطفالهم، وكانت واقعة الرحيبة الأخيرة سبب رئيسي في تفجيرها لانتقام الطليان من ضباطهم الست وأعوانهم المرتزقة البالغ عددهم 312 الذين قتلوا فيها، وإعادة لرفع معنويات جنودهم.
وقد أعدّوا فيها القوات الجرّارة، والعتاد الثقيل، وخططوا لتطويق عمر المختار ورجاله من ثلاث جهات مختلفة وحصاره في معقله في أم الشفاتير في الجبل الأخضر، ودامت مسيرتهم لمدة يومين متتاليين، وبالرّغم من خسائر المجاهدين في هذه الحرب حيث استشهد منهم نحو 200 شهيد من المقاتلين، وشدة بأس تلك الحرب الضروس الطاحنة عليهم.
إلّا أنهم حققوا فيها نجاحات متباينة، وأجبروا قوات الطليان على التقهقر والانسحاب، بالإضافة إلى عدة مكاسب أخرى خرج بها السيد عمر المختار بقيادته الحكيمة الذكية، وأيقن بعدها الطليان بفشل الحلول العسكرية مع أولئك الأسود الضواري، فلجأوا إلى عقد المفاوضات.
معركة فزان: والتي كانت في أواخر يناير 1928م حيث تقدمت فيها قوتان كبيرتان من قوات الاحتلال الإيطالي للاستيلاء على فزان من ناحية غدامس والجبل الأخضر بقيادة غراتسياني، واستمرت المعركة لمدة خمسة أيام متتالية من القتال الشرس، الذي أسفر عن هزيمة الطليان وتراجعهم، ثم محاولة الهجوم مجددًا مباشرة نحو فزان، فتجهز المجاهدين وانسحبوا للداخل حتى إن وصلت قوات الطليان بين جبلين يعرفان بالجبال السود، انقضوا عليهم كالأسود، مما أرغم القواد الإيطاليين إلى الفرار تاركين الجيش خلفهم، ثم عاودوا الهجوم من جهات متعددة، لكنّ بأس المجاهدين كالعادة كان أكبر رغم قلة عددهم وسلاحهم، فسحقوهم عن آخرهم واغتنموا من ورائهم غنائم عدة.
وهكذا دارت المعارك التي بلغت 1000 معركة أو أكثر طوال تلك المدة بين شيخ المجاهدين وقوات الاحتلال الإيطالي، والتي استمرت حتى بعد أن أدى المختار رسالته في هذه الحياة وحقق مبتغاه عندما قال:
لا أغادر هذا الوطن حتى أُلاقي وجه ربي، والموت أقرب إليّ من كل شيء، فإني أترقبه بالدقيقة!
عدد المعارك التي خاضها عمر المختار
خاض عمر المختار عددًا لا يحصى من المعارك، أشهرها كان معركة بئر الغبي، معركة أم الشافتير، معركة درنة، معركة بو شمال، ومعركة شخنب وشلظيمة والزويتينة وغيرهم.
كيف تم القبض على عمر بن المختار؟
في 11 سبتمبر 1931 كان عمر المختار في طريقه إلى إحدى مراكز المجاهدين في الجبل الأخضر ليقيم فيها، كعادته كل عام بأن يُغير مركز إقامته، ولكن هذه المرة كان معه عدد قليل من المجاهدين لم يتجاوز الأربعين مقاتلًا، وأثناء مرورهم بوادي (الجُرَيْب) بالتصغير، في الجبل الأخضر، وهو وادِ صعب المسالك كثيف الغابات، باتوا فيه ليلتين، فعلمت القوات الإيطالية من خلال جواسيسها بذلك، فأجمعت قواتها وأمرت بتطويق الوادي من جميع الجهات على عجل، ولم يشعر المختار ورجاله إلّا والأعداء يحيطون بهم من كل جانب، فبدأ الاشتباك بينهم، واشتد القتال حتى سقط معظم المجاهدين، وأصيب عمر المختار في إحدى يديه، وقُتلت فرسه، وسقط السلاح من يده، حاول النهوض مجددًا فلم يستطع، ثم حاول بعض المجاهدين تخليصه فاستشهدوا، ليجد نفسه محاطًا بالجنود الطليان دون سلاح من كل جهة، وتعرّف عليه واحد من الخونة الليبيين المرتزقة، فنقل على الفور بعد وصول الخبر للقيادة الإيطالية، إلى ميناء سوسة محاطًا بعدد كبير جدًا من الضباط والجنود الإيطاليين، ومنه إلى بنغازي بواسطة طُرّاد بحري.
عندما وصل الخبر إلى الخسيس غراتسياني لم يصدق، وأصابته حالة من الهستيريا أو الهذيان، فصار يحدث نفسه: “هل حقًا قبضوا على عمر المختار؟! لا.. لا أعتقد”! وقطع إجازته التي كان فيها، حيث كان في روما بغرض الراحة ومحاولة نسيان هزائمه المتلاحقة على يد عمر المختار، وحضر إلى بنغازي على الفور، كي يراه بأم عينه!
وصل ذلك المجرم إلى بنغازي يوم 14 سبتمبر، وأعلن عن انعقاد محاكمة خاصة وعاجلة لعمر المختار يوم 15 سبتمبر1931م، وقد كانت محاكمة صُوريّة فقد كان يتم إعداد منصة الإعدام وتجهيزات المشنقة أثناء وصول الأسد الأسير إلى قاعة المحكمة.
كان عمر المختار يقف بين أولئك المجرمين الجبناء كالأسد الشامخ في هدوء تام، ويُجيب على استجوابهم بكل جرأة وشجاعة، حتى أنّه كان يصحح لهم بعض الوقائع، وكانوا منبهرين بشخصيته وشجاعته وثقته واطمئنانه، حتى أُصدر الحكم عليه بالإعدام فلما أخبره به الترجمان قال قولته الخالدة:
إن الحكم إلَّا لله.. لا حكمكم المزيف.. إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
في صباح اليوم التالي للمحاكمة وتحديدًا في التاسعة صباحًا من يوم الأربعاء الموافق 16 سبتمبر 1931م، في مدينة (سلوق) التي تقع جنوب مدينة بنغازي، أُحضر شيخ المجاهدين مُكبلًا بالسلاسل إلى ساحة الإعدام، وهو يمشي في ثقة وثبات واطمئنان، وقد قام المجرمين بتجهيزات غير مسبوقة، حيث أحضر الآلاف من الشعب الليبي بالإجبار، ولا سيما المقاتلين المعتقلين منهم، لمشاهدة إعدام قائدهم وشيخهم الأبي المغوار، بقصد كسر إرادتهم، وهزيمتهم معنويًا، بل خافوا أن ينبث ذلك الأسد الواقف على منصة الإعدام في شموخ وثبات إلى أبناء شعبه الليبي بكلمات، فجعلوا المروحيات تدور وتحلق فوق رأسه باستمرار، وكان يردد الشيخ الآذان أثناء سيره إلى منصة الإعدام، وبعد أن وضع الجلاد حبل المشنقة في رقبته سمعه يقول: “يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً”، فصعدت الروح الطاهرة الزكية إلى بارئها تشكو إليه ظلم المجرمين، وجور المستعمرين.
وهكذا تحققت أمنية شيخ المجاهدين التي عاش لأجلها، وقد أُجيبت دعوته التي دائمًا ما كان يرددها: “اللهم اجعل موتي في سبيل هذه القضية المباركة”.
متى أعدم المجاهد الليبي عمر المختار؟
أعدم المجاهد عمر المختار في صباح يوم 16 سبتمبر عام 1931م، بعد أن ألقت القوات الإيطالية القبض عليه، وكان يبلغ حينها 73 عامًا.
هل تم إلقاء عمر المختار من الطائرة؟
لا، بل نزلت الطائرة التي تحمل عمر المختار على ارتفاع منخفض وأخذت تدوي بصوت عالي حتى لا يسمع الناس كلام عمر المختار إذا قال شيئًا، لكنه لم يقل شيئًا ونزل بهدوء واتجه إلى منصة الإعدام.
كان عمر المختار من المجاهدين الذين يقاومون الاحتلال الإيطالي في ليبيا، لذا قررت قوات الاحتلال إعدامه لا لشيء إلا رغبة منهم في إضعاف الروح المعنوية للمقاومة، والقضاء على أي حركة من شأنها أن تقاوم الحكم الإيطالي، إلا أن النتيجة جاءت عكس توقعات الإيطاليين تمامًا، لأن روح المقاومة أصبحت أقوى، وارتفعت حدة الثورات التي نجحت في التخلص من الاحتلال وطرد القوات الإيطالية من البلاد.
ماذا قال عمر المختار قبل إعدامه؟
قبل أن يتم إعدام شيخ المجاهدين عمر المختار رحمة الله عليه، قال كلمات رنانة خالدة سطرت في تاريخ المقاومة والحرية، إذ قال: “نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت، وهذه ليست النهاية، بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم”.
ماذا قال غراتسياني عن عمر المختار؟
حكم على عمر المختار بالإعدام من قبل المحكمة الصورية التي أمر بها القائد غراتسياني، والذي قال عن المختار: “يُخيل لي أنَّ الذي يقف أمامي رجل ليس كالرجال؛ له منظره وهيبته رغم أنه يشعر بمرارة الأَسْر. ها هو واقفٌ أمام مكتبي نسأله ويجيب بصوتٍ هادئ وواضح”.
عمر المختار نموذجًا عالميًا للمقاومة
قدّم عمر المختار أنموذجًا تاريخيًا وعالميًا للمقاومة، والدفاع عن العقيدة، والوطن، فقد صار رمزًا لكل حركة جهاد أو مقاومة ضد المحتلين والمستعمرين الغاصبين، في الوطن الإسلامي والعربي على السواء، وأصبح مصدر إلهام المقاومين والمجاهدين في كل زمانِ ومكان.
وقد شهد أعداؤه قبل أصدقائه بذلك وأبدوا إعجابهم الشديد بهذا الرجل وأسطورة المقاومة التي صنعها، حتى أنهم لم يجدوا بد من الاعتراف بذلك أثناء حياته، أو بعد مماته، بل إنه قد ازداد قدرًا وعظمةً في أنظارهم، ويتضح ذلك في سيرهم ومذكرات حياتهم التي كتبوها، كان مما ذكر غراتسياني في مذكراته التي جاءت في كتابه (برقة المهدأة):
“كان عمر المختار كرئيس عربي مؤمن بقضية وطنه وله تأثير كبير على أتباعه مثل الرؤساء الطرابلسيين يحاربون بكل صدق وإخلاص، أقول ذلك عن تجارب مرت بي أثناء الحروب الليبية، وكان عمر المختار من المجاهدين الكبار لما له من مكانة مقدسة بين أتباعه ومحبيه، إن عمر المختار يختلف عن الآخرين فهو شيخ متدين بدون شك، قاسي وشديد التعصب للدين ورحيم عند المقدرة، ذنبه الوحيد يكرهنا كثيرًا وفي بعض الأوقات يسلط علينا لسانه ويعاملنا بغلظة، مثل الجبليين كان دائمًا مضادًّا لنا ولسياستنا في كل الأحوال لا يلين أبدًا ولا يهادن إلا إذا كان الموضوع في صالح الوطن العربي الليبي، ولم يخن أبدًا مبادئه فهو دائمًا موضع الاحترام رغم التصرفات التي تحدث منه في غير صالحنا”.
وقد تأثر به الضابط روبرتو لونتانو الذي انتدب للدفاع عنه في المحكمة، فقال لهيئة المحكمة رغم تحذيرها المتكرر له بعدم الخوض في موضوعات أخرى جانبية🙁إن هذا المتهم الذي انتدبت للدفاع عنه، إنما يدافع عن حقيقة كلنا نعرفها، وهي الوطن الذي طالما ضحينا نحن في سبيل تحريره، إن هذا الرجل هو ابن هذه الأرض قبل أن تطأها أقدامكم، وهو يعتبر كل من احتلها عنوة عدوًّا له، ومن حقه أن يقاومه بكل ما يملك من قوة، حتى يخرجه منها أو يهلك دونها، إن هذا حق منحته إياه الطبيعة والإنسانية. إن العدالة الحقة لا تخضع للغوغاء، وإني آمل أن تحذروا حكم التاريخ، فهو لا يرحم، وإن عجلته تدور وتسجل ما يحدث في هذا العالم المضطرب)!
ولمّا وقع عمر المختار في الأسر لم يتم التعرّف عليه إلّا من خلال الشاب الليبي الخائن الذي كان يُقاتل في صفوف الطليان، فقال بتأثر عندما رآه ساقطًا أرضًا: “سيدي عمر.. سيدي عمر”!
وقد قالت عنه صحيفة التايمز البريطانية في مقال نشرته عقب إعدامه: “حقق الإيطاليون انتصارًا خطيرًا ونجاحًا حاسمًا في حملتهم على المتمردين السنوسيين في برقة، فقد أسروا وأعدموا الرجل الرهيب عمر المختار شيخ القبيلة العنيف الضاري”!
وتستمر هيبة الرجل ورمزيته في أذهان الأعداء قبل الأتباع والرفقاء عبر الأجيال ففي سبتمبر عام 2008م قام رئيس الوزراء الإيطالي برلسكوني بالانحناء أمام نجل عمر المختار وهو يعتذر عن مرحلة الاستعمار الإيطالي للشعب الليبي، وما سببه لهم من خسائر ومآسي، وكان ذلك في حضور زعيم ليبيا الهالك معمر القذافي.
وفي ثورة ليبيا 17 فبراير 2011م استلهم الثوار من ذكرى قائدهم مبادئ ثورتهم، سعيًا في تحرير أرضهم من المجرم القذافي وعصاباته، وشكّلوا ألوية وكتائب باسمه، ووضعوا صورته على علم ليبيا الحرة بعد نجاح ثورتهم.
ونحن نرى في ذلك تحقق رؤية الشيخ تمامًا التي قالها للجنرال رودولفو غراتسياني في نهاية مقابلة استجوابه والتحقيق معه بعد أسره، وهو يطلب منه أن يأمر الشعب الليبي بالتخلي عن المقاومة ضد الطليان، فلن يكون هناك فائدة من ذلك بعد إعدامه، حيث خلّد التاريخ كلماته قولًا وفعلًا: “نحن لا نستسلم.. ننتصر أو نموت.. وهذه ليست النهاية.. بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه.. أمَّا أنا.. فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي”.
طبت يا سيدي حيًا وميتًا، وطابت ذكراك في وجداننا وقلوبنا حية نابضة، حتمًا يا سيدي سيأتي عُمرًا جديد، ليبيد ليل الظالمين، ويكشف عن فجرٍ وعهدٍ جديد، وإن غدًا لناظره قريب!
***
معتصم علي ـ كاتب ومنشئ محتوى إبداعي، طالب علم مهتم بشأن الأمة، وقضايا المسلمين
______________