سالم الكبتي
(من لم يعرف أحوال زمانه فهو جاهل)
الإمام الغزالي
***
ظلت البلاد، دون حكومات مستقلة في ظل الإدارتين حتى عام 1949، البعض يراهما احتلالاً جديداً أو وصاية، والبعض ينظر إليهما بأنهما وجود غير مرغوب فيه، البعض يصفهما بالتحالف الضروري، وتنفيذاً لوعود سابقة.
.. لكن العام اقترب، ومعه أطل زمن الحكومات المحلية الليبية التي كان أولها في برقة صيف 1949، وبدأت تتضح خلالهما معالم الطريق .. وإن كانت الرؤية أحياناً صعبة وغير ميسورة وسط الضباب والأدخنة والغبار.
وشمل الحراك السياسي عبر ذلك الطريق صبراً ومعاناة وتدافع الأحلام في النفوس التي ذاقت الهوان في أزمان مضت وآن لها أن تنعم بالراحة والاستقرار فوق أرضها وتقرر مصيرها دون ضعف أو تخاذل.
وكانت العزوم عند الجميع غير خائرة. ظلت تنظر إلى الأمام.. وتسير في الطريق.
كان الأمير إدريس – صاحب الشرعية التي احترمها كل الأطراف – رغم بعض الاختلافات. وهي ضرورية وأحياناً لازمة. قد وصل في البداية إلى برقة مقر حكومته السابقة في إجدابيا.
كان ذلك الوصول في يوليو 1944 بعد غياب دام أكثر من عشرين عاماً. وفتحت تلك الزيارة الباب واسعاً أمام عودة العديد من المهاجرين الليبيين الذين انضمت مجموعات منهم إلى نشاط الحراك السياسي وتحديد علامات الطريق نحو مستقبل البلاد.
الكل تحمل الوعي والمسؤولية الوطنية والإحساس بقضية الوطن التي طغت على المصالح الشخصية والأنانية أو تقاطع الصفوف. وكان هناك شعور بالانتماء وتجديد شخصية كيان الوطن خلال تلك الظروف والمتغيرات التي تنقلب مع هبوب الريح.
عاد الأمير إدريس بعد جولات ولقاءات وحوارات مع مواطنيه في بنغازي ودرنة والمرج وسلوق وإجدابيا. وألقى فيها خطباً مباشرة ركز فيها على جوانب القضية الوطنية وتحقيق آمال المستقبل المنتظر .
وتكررت بعد ذلك العام زياراته إلى الوطن ثم استقر مع العام 1947 في بنغازي ليظل قريباً من الناس ومتابعة حالة البلاد.
ومع هذا الوجود للأمير إدريس في برقة صار بمقدوره الوقوف على حالة طرابلس وفزان أيضاً من خلال مصادر معلوماته ومعرفته ببعض الشخصيات المؤثرة والفاعلة فيهما.
لم يشكل حكومة لا يزال. لكنه شكل بوجوده (إدارة) بحكم الشرعية التي اكتسبها بالتوافق والاختيار في السابق (عام 1921 و1922) باعتباره أميراً معترفاً به من الليبيين جميعاً خاصة سكان برقة.
وكذلك من الإنجليز الذي كان حليفاً لهم (وليس عميلاً!) منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية والذي عرف مقاصدهم وسياساتهم من أيام المفاوضات القديمة بعد العام 1916. وكان ذلك يشمل أيضاً استناداً إلى (قوة روحية) يحترمها ويجلها الجميع.
أمران مهمان أتاحا للأمير القادم مع معاونيه ورجال إدارته في مكتبه بالقاهرة أن يقيم (سلطة) بين الناس وعلى أرض الواقع. ولئن لم تتحقق هذه الأحلام وخطوات الطريق تعثرات ومشاكل ومحاولات للفتن في بعض الأحيان لكن (كاريزمته) وعلاقاته مع كل الأطراف واحترامه المتبادل بينهما أتاح له المضي في تلك الخطوات.. ولكن بهدوء وحذر سياسيين.
شهد العام 1949 نهاية المصير المحتوم لمشروع بيفن سفورزا في الأمم المتحدة الذي كان يرمي إلى وضع مشاريع للوصاية على ليبيا.
سقط المشروع فوق الأرض الليبية من قبل الشعب الذي رفض تلك المحاولات الخبيثة قبل أن يسقط في قاعات الأمم المتحدة. وبات مع هذا السقوط المدوي تحقيق استقلال ليبيا في المدى القريب.
لقد فقد أهالي الوطن الثقة في العالم والمشاريع الدولية التي تلعب بهم وسط العواصف ونالتهم الشكوك أيضاً في الحليف البريطاني الذي كان كذلك لعب على كل الحبال.
يقول في هذا السياق دي كاندول المعتمد البريطاني في برقة (أن بلاده لم تكن مستعدة لمسايرة رغبة الأمير) في المضي نحو تحقيق استقلال ليبيا بإعلان استقلال برقة الذي سيفضي بوحدة كل الأقاليم الليبية في النهاية.
لعبة السياسة مارسها الأمير وسلطته بدهاء وصبر مع (بريطانيا العظمى). وصار الاعتراف بما يشعر به الأمير من جانبها أمراً واقعياً لا مفر منه.
في الأول من يونيو 1949. عبر الصيف اللاهب رغم نسيم البحر في بنغازي أعلن الأمير إدريس استقلال برقة كخطوة أولى وضرورية للوصول إلى استقلال البلاد ضغطاً على بريطانيا وأطراف أخرى كثيرة. كان للأمير أن يحرك الساكن ويخض الراكد بلا هوادة.
قال في خطاب الإعلان بحضور الجموع التي رفض بعضها ما أعلن عنه واشترطوا بأن يضم طرابلس أيضاً: (أنكم صبرتم منذ نهاية الحرب الأخيرة في هذه البلاد صبر الكرام حيث كنتم تنتظرون إعلان استقلال بلادكم من ساعة تطهيرها من الغاصبين).
وأشار بقوله: (لمست فيكم في شهر مارس الماضي عيلة الصبر. كررت عليكم نصحي بالتريث إلى نهاية دورة هيئة الأمم المتحدة في شهر إبريل 1949 فإن لم تأت بنتيجة فسيقرر الشعب مصيره بنفسه فصبرتم إجابة لطلبي).
ثم قال: (وها هي الأمم المتحدة انفرد جمعها في هذه الدورة بدون نتيجة اللهم إلا توسع الاختلافات فيما بينها وخيبة أملنا فيها فبناء عليه لا أطلب منكم الصبر الآن بل أقول لكم وجب علينا أن نعلن في هذه الساعة المباركة (السابعة مساء) استقلال بلادنا التام).
وأشار إلى تولي السلطات بناء على هذا الإعلان الذي أضحى جزءاً من التاريخ بالقول: (وإني سأتولى بمبعوثة الله وثقتكم في سلطات هذه البلاد الثلاث: السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية وأني عازم في القريب العاجل أن أشكل حكومة وطنية دستورية وهي ما عبرت عنه بالسلطة التنفيذية وستصدر هذه الحكومة بأمري قانوناً لانتخابات مجلس النواب وهو ما عبرت عنه بالسلطة التشريعية).
وختم الإعلان بالقول: (وإني كلي أمل في أن تنال طرابلس في القريب العاجل ما نالته أختها برقة بحكمة زعمائها الأفاضل وأن تتحد الأختان في رئاسة واحدة عليا إذا شاءت وأصرت وصبرت).
ويلاحظ حتى ذلك التاريخ عدم شمول للحديث عن فزان البعيدة التي ربما يراها الأمير في منظوره السياسي تتبع طرابلس من أيام حكومة الجمهورية الطرابلسية. ربما إشارته إلى طرابلس كانت تشير إلى فزان وإن لم يقلها صراحة.
خطوة الأمير هذه وإن ظل البعض ينتقص من أهميتها في ذلك الظرف الحساس إلا أنها لدى الكثيرين اعتبرت خطوة سياسية أهم ترمي إلى الوصول عبر الطريق الصعب إلى الاستقلال الكامل للبلاد.
صدر دستور لبرقة في الثامن عشر من سبتمبر 1949. وضع الأسس ونظم الحقوق والواجبات. وصار بموجبه مسؤول الإدارة البريطانية معتمداً بريطانياً في برقة ويتابع بحكم التزام بلاده بمسؤولياتها الدولية واجباته التي ربما تعجز عنها سلطات برقة أمام العالم.
وعبر هذه الخطوات في الطريق نشأت أول حكومة محلية في تاريخ ليبيا المعاصر بعد الحرب العالمية الثانية.
بعد شهر من إعلان استقلال برقة اختار الأمير د. فتحي الكيخيا رئيساً لها وأضحت تجربة سياسية هي الأخرى حيوية ومهمة. كانت حجر الأساس الأول الذي نهضت عليه بقية الحكومات حتى العام 1969.
وتلازم مع التجربة الوقوع في الخطأ ومحاولات الإصلاح والتطوير على الدوام.
______________