د. محمد عبدالرحمن بالروين

ثانيا: الحوكمة والقوانين

المقصود هنا هو الحوكمة الإلكترونية التي تعني وجود إدارة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الدولة. وتعني وجود نظم تحكم للعلاقات بين المؤسسات في الدولة بهدف تحقيق الشفافية والعدالة ومكافحة الفساد ومنح المواطنين حق مساءلة المسؤولين، وبذلك يتمكن المواطنون من ممارسة الديمقراطية الحقيقية، والمشاركة الفاعلة في اتخاذ القرارات، والحق في مساءلة الجهات المعنية.

وإلى جانب تطبيق الحوكمة الإلكترونية، لابد من قيام السلطات التشريعية بإصدار قوانين خاصة لمحاربة الفساد وتطبيقها بشكل صحيح وعادل. ولعل في مقدمة هذه القوانين قانون من أين لك هذا؟ وقانون حق الوصول للمعلومات العامة وقوانين الجرائم الاقتصادية والمالية.

ثالثا: الشفافية والمعلومات

بمعنى ضرورة تحلي مؤسسات الدولة بالشفافية والنزاهة، وبوضوح علاقتها مع كل المنتفعين من خدماتها. لان عدم وجود شفافية في المؤسسات سينتشر فيها الفساد كانتشار النار في الهشيم.

وإلى جانب ممارسة الشفافية، لابد من إعطاء الحرية للصحافة ومؤسسات المجتمع المدني وتمكينهم من الوصول إلى المعلومات العامة التي لا تشكل تهديدا للأمن الوطني.

ولابد من تشجيع الدور الشعبي في مكافحة الفساد من خلال برامج توعوية تفضح الفاسدين وتشجع المواطنين على رفع قضايا أمام المحاكم ضدهم.

رابعاً: المحاسبة والمساءلة

المقصود بالمحاسبة هنا عملية جمع وتصنيف وتسجيل المعاملات المالية المتعلقة بالمؤسسات لغرض معرفة نسبة أدائها والتدفقات النقدية لأعمالها، واستخدام المعلومات لمساعدة السلطات للوصول إلى قرارات مناسبة حول كيفية إدارة أعمالها بنجاح.

وإلى جانب ممارسة المحاسبة، لابد من خضوع الأشخاص الذين يتولون المناصب العامة للمساءلة القانونية والإدارية والأخلاقية عن نتائج أعمالهم. وهي عملية يتحمل فيها المسؤول نتائج أعماله واستعداده للمحاسبة عليها.

ومن أهدافها، عدم إفلات المسؤول من العقاب، والتخلص من الوقت والجهد الذي يبذل في الأنشطة غير المُنتجة أو المناسبة.

الخلاصة

في نهاية هذه الورقة لعله من المناسب التاكيد على الآتي:

أولا: لابد ان تبدأ محاربة الفساد من اعلى الهرم السياسي، فالسمكة، كما يقول المثل الصيني، خاربة من راسها“.

ولابد ان تبدأ هذه العملية باصلاح المرتبات والمزايا والمكافآت، وذلك بـاعطاء أصحاب المناصب السيادية مرتبات فقط كغيرهم من المواطنين، ولا يحق لهم تحديد مرتباتهم أو تعديلها إلا بعد استفتاء شعبي على ذلك.

ثانيا: لابد أن نعي بأن القوي الدولية لا تنظر للفساد بالطريقة التي نراها ولا تفهمه كما نفهمه نحن.

ولعل خير مثالين على ذلك هما:

موقف الأمم المتحدة والقوى الدولية من التقرير الأممي لكشف دفع رشى لمشاركين في الحوار السياسي الليبي، والذي جمع 75 مشاركًا ليبيًا، وانعقد من 7 إلى 15 نوفمبر 2020 في العاصمة التونسية وبإشراف بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا.

واللقاء الثاني الذي انعقد بالعاصمة السويسرية (جنيف) من 13 الي 20 يناير 2021، لإعداد قاعدة دستورية للانتخابات المقبلة وتشكيل سلطة تنفيذية انتقالية تضطلع بتنظيم الانتخابات المرتقبة في 24 ديسمبر2021. المؤسف أن الأمم المتحدة والقوى الدولية تجاهلت هذا التقرير وتم إخفاءه؟ّ

أما المثال الثاني الذي يوضح حقيقة موقف الأمم المتحدة والقوى الدولية من القضية الليبية هوتقرير التدقيق الدولي لأداء المصرف المركزي الليبي.

وقد لخصت المستشارة الخاصة السابقة للأمين العام للأمم المتحدة بشأن ليبيا، ستيفاني وليامز، هذا الموقف عندما قالت ان إخفاء تقرير التدقيق الدولي لأداء «المركزي» خطأ فظيع، وذكّرت الليبيين بان الطريقة التي تدار بها عائدات النفط في ليبيا، هي المحرك الأساسي للصراع.

وعليه يجب فهم أن أغلب القوى الدولية تنظر لظاهرة الفساد في الدول النامية على أنه فساد وظيفيليس الا. بمعني آخر، لابد من التفريق بين الفساد الفعال والفساد غير الفعال“. عند مكافحة الفساد يتطلب من صانعي السياسات الاعتراف بالفوائد التي يمكن أن يجلبها الفساد والاستجابة لها.

ثالثا: لابد من إعادة تفعيل الهيئة الوطنية العامة للمعلومات والتوثيق (الإحصاء والتعداد) ودعمها بكل ما تحتاجه من إمكانيات مالية ومادية ومعنوية وأمنية للقيام بــ إحصاء سكاني وإعداد بطاقة الرقم الوطنيبالاسلوب العلمي والصحيح.

بمعني آخر، لابد أن يكون الاحصاء السكاني هو نقطة الانطلاق، لانه ضرورة وطنية واستراتيجية لإعمار وإعادة بناء الدولة الحديثة التي يطالب بها الجميع.

فلا يمكن القيام باي خطط استراتيجية أو إعادة إعمار أو توزيع عادل للثروة دون معرفة العدد الحقيقي لكل المقيمين (مواطنين وغير مواطنين) في الدولة.

ولا يمكن القضاء على الغش والاختلاس والفساد والاستغلال في مؤسسات الدولة دون وجود منظومة رقمية دقيقة تحتوي على كل المعلومات الضرورية لتحقيق ذلك.

فمن المؤسف أن تستند دولتنا هذه الأيام في توزيع سلطاتها وثروتها ومعاملاتها على قاعدة بيانات قديمة (اخر إحصاء سكاني رسمي كان عام 2006) وغير دقيقة. وهناك أمثلة عديدة تثبت عدم دقة ومصداقية قاعدة البيانات الوطنية المستخدمة الآن.

فعلى سبيل المثال لا الحصر كشف السيد محافظ مصرف ليبيا المركزي عام 2018 عن اختلاف كبير في إحصاء المواطنين خلال عملية بيع النقد الأجنبي، وطالب بالتحقيق وضرورة اتخاذ إجراءات صارمة وعاجلة تكفل التحقق من قواعد البيانات في مصلحة الأحوال المدنية التي بيّنت اختلافات كبيرة في إحصاء المواطنين الليبيين خلال عملية بيع النقد الأجنبي لأرباب الأسر التي بدأت منذ عام 2017، وطالب بفتح تحقيق عاجل في هذا الملف الحساس الذي يمس الأمن القومي الليبي.

رابعا: لابد من العمل على إيجاد سلطات نظيفة ونزيهة، وذلك بأصلاح النظام السياسي واستخدام آليات مكافحة الفساد التي ذكرتها أعلاه.

خامسا: لابد من الاسراع بدعم وتطوير المؤسسات التربوية والتعليمة حتي يستطيع المجتمع محاربة الفساد بكل انواعه (وليس مجرد الفساد الاقتصادي والمالي فقط)، وحتي نستطيع فهم واصلاح عملية تفكير الفاسدين والمُفسدين الذين يقومون بارتكاب الفساد مُعتقدين أن الافراد سيئ الحظهم من يتم معاقبتهم فقط.

سادسا: لابد أن نعي بأن تكلفة الفساد باهضةعلى الافراد والمجتمعات ككل. فعلي المستوي العالمي قدر المنتدى الاقتصادي العالمي في عام 2022, التكلفة العالمية للفساد بـ 2.6 تريليون دولار سنويًا ، أو ما يعادل 5٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.

وعلينا أن نعي بأن عملية محاربة الفساد طويلة وشاقة وتحتاج الي تكاثف كل الجهود. وأن نعي أنه إذا لم نقم باصلاح ما يمكن اصلاحه فسيكون الفساد اداة سهلة ورخيصة لهيمنة الاقوياء على الضعفاء.

وعلينا أن نتذكر مقولة الفساد هو العامل الرئيسي المسؤول عن إنشاء أنظمة ديمقراطية مستقرة ولكنها معيبة وفاشلة“.

سابعاً: لابد أن يكون الهدف الاساسي من محاربة الفساد ليس مجرد تحقيق الاستقرار، وإنما تحقيق الاستقرار العادل, والذي يعني تحقيق وطن يشعر فيه كل انسان (وليس مجرد المواطن) بالثقة في النفس، والامن والامان، والرضا بما لديه، وأن علاقاته مع الآخرين على ما يرام، وأن تتاح له الفرصة لتحقيق السعادة التي يبحث عنها.

***

ورقة مقدمة في الموتمر العلمي مكافحة الفساد لتدعيم الاستقرار(15 ـ 16 نوفمبر 2022 ) بقاعة لبدة، بفندق كورنثيا، طرابلس

__________

المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *