عمر المختار
انتهى وجودنا في تشاد وانتقلنا الى ما بعد تشاد، والفضل فى ذلك لله تعالى ثم الى الجبهة الوطنية لانقاذ ليبيا التي كانت تعيش معنا دقيقة بدقيقة لحظات التأهب والانتظار وتشاطرنا الالم والخشية مما تخبيه لنا الاقدار، وكذلك النظام، حيت كانوا على اتصال بنا دائم “لمعرفة المستجدات وكذلك على اتصال دائم بالحكومة الامريكية كي تتدخل وتستعمل كل الضغوط سواء على الحكومة الفرنسية او الدول الاخرى لاستضافتنا الى حين. ونجحت في ذلك.
وأذكر فى هذه الاثناء أن هناك بعض الامورالتى سبقت تلك الاحدات والتي ربما كانت السبب في هروب بعض الضباط والجنود من المعسكر عندما كنا نستعد للمواجهه.
حيث انه حصلت مشادة بين أحد الجنود (محمود حسين) ورئيس عرفاء (جمال الجريبي) وكنت حاضرا لتلك المشادة الكلامية التي على اثرها هدد المرحوم محمود حسين المرحوم جمال بالقتل.
لكننا لم نعر التهديد اي اهتمام لاننا نعرف ان محمود حسين يتمتع برجاحة العقل وكذلك رئيس عرفاء جمال، لكن الشيطان وسوس لمحمود حسين الذى نفد عملية القتل.
المرحوم جمال هو خريج الثانوية الفنية من سكان بنغازي، وكان محبوبا من الجميع وكان خدوما، وله الفضل في التدريب لخبرته في بعض الاسلحة وهو فني ماهر في صيانة السيارات وكذلك الاسلحة. وكان بالنسبة لي مثل الاخ، فكان يلازمني دائما، واثناء الاسر والمرض كان يقوم على خدمتي من غسل لملابسي، وكان ياخدني من الزنزانة الى باحة السجن او الحمامات حيت كنت مريضا ولا استطيع الوقوف.
وبينما كان المرحوم جمال واقفا امامي رايت المرحوم محمود حسين خلفه على مسافة قريبة جدا وقبل ان افعل اي شيء اذا به يطلق عليه النار من مسافة قريبة جدا. وأُخذ المرحوم محمود الى السجن، وعندما علم العقيد خليفه حفتر بالحادث أمر باعدام القاتل وبقي في السجن ثلاثة ايام، وحاول الحاج غيث سيف النصر ان يثنى العقيد خليفه حفتر عن رأيه و ان يبقيه بالسجن وأن لا يتم اعدامه لانه يجب تقديمه الى محكمة بدل القتل لامر عسكري.
والا فما الفرق بيننا وبين القذافي، ولكن العقيد خليفة حفتر أصر على الاعدام وشكلت حضيرة نار، وثم اعدامه فعلا. لكن هذه الحادثه أثرت في بعض الجنود والضباط الذين تذكروا اعدامات القذافي لابناء ليبيا في شهر رمضان.
وكانت لهذه الحادثه الدور الكبير في هروب بعض الضباط والجنود وبعض الطلبة. اضافة الى الدكتور ادريس ابوفايد الذي كان يرى ان هذه العملية شبيهة باعدامات القذافي. وكنت اشاطرهم الراى بانه كان يجب ابقائه بالسجن الى حين محاكمته وان لم نستطع يجب ان نتركه للنظام فلربما كانت تجري محاكمتة داخل ليبيا حيث يتوفر له محامي الدفاع.
كذلك هناك رجال يجب علي ذكرهم وعلى راسهم العقيد صالح الحبوني الذي كان له دور كبير في التدريب وهو اكبرنا سنا وكنت انظر اليه بمثابة الاب. أما عن المقدم الركن عبدالله الشيخي فكان الجنود يدخلون خيمته متى شاءوا ليجدوه في استقبالهم والبسمة على وجهه التي لا تفارقه أبدا وكان كيّسا وحسنا معهم الى حد كبير، ويستمع الى مشاكلهم، ويعرف كيف يكسب محبتهم وودهم.
لقد احببت ذكر هذه الاشياء لانها شهادة لله وللتاريخ ولربما نسيت شيئا فارجو المعذره لانه جل من لا ينسى.
وبعد ان وصلنا الى مدينة “كانشاسا” عاصمة دولة زائير. بتنا ليلتنا الاولى هناك في ساحة المطار دون أغطية وفي الصباح تم نقلنا الى قرية “كامينا” في اقصى الجنوب من زائير وكانت بهذه القرية قاعدة عسكرية جويه مهجورة منذ الحرب العالمية الثانية. بها عنابر كبيرة خالية من اى شىء وبقينا في تلك العنابر.
ثم زارنا الصليب الاحمر لأول مرة منذ خروجنا من ليبيا. وبعد عدة أيام زارنا ضابط كبير من حرس الملك الحسن الثاني وحاول اغراءنا بالانتقال والعيش في المغرب ولكننا استدركنا الامر، وهو ان النظام الليبي هو من طلب من المغرب ذلك كي يبيعنا الملك المغربي الى النظام.
فرفضنا، وبعد أن فشل في محاولة اقناعنا هدّدنا بأنه سيتم ترحيلنا الى المغرب بالقوة شئنا أم أبينا، لكن الصليب الاحمر كان موجودا برفقة بعض الامريكان، فتم منعه من زيارتنا، والسفارة المصرية حاولت اقناعنا أيضا، لكننا رفضنا كل هذه الاغراءات لان رائحة الخيانة كانت تزكم الانوف.
فعندما طلبنا منهم المساعدة فى أول الامر أن ننتقل ونذهب الى بلدانهم وذلك قبل الخروج من “تشاد” رفضوا جميعا وعندما طلب منهم النظام الليبى ذلك اخذوا يتكالبوا علينا طمعا في الاموال الطائلة والكثيرة التي سيدفعها لهم من خزينة الشعب الليبي المغلوب على أمره.
وعندما فشل النظام في استعمال الدول الاخرى التجاء الى الاساليب الخسيسة. فاعاد بث الاذاعة التى انشاءها لذلك الغرض. تلك الاذاعة التى كانت موجهة الى معسكرنا وبها نداءت من بعض العائلات ووعود زائفة باموال طائلة ووظائف محترمة حيث وصل العقيد على شعبان من الاشغال العامة بالجيش الليبي يحمل حقيبة مليئة بالنقود ويقول “هذه لكم إن عدتم“.
وفى الحقيقه كان يعطيها الى المواطنين وضباط وجنود الجيش الزائيري بغرض استعمالهم في تنفيد عمليات ارهابية ضدنا. وعندها أدركنا حقيقة ما يقوم به ذلك العقيد القذافى من شراء دمم ضباط الجيش الزائيري .
ومن جانبنا نحن لم تكن لدينا أى أسلحة للدفاع عن أنفسنا، أما من ناحية النظام فكان يفعل المستحيل للقضاء علينا، عندها لم نجد بُدا من الالتجاء الى الاساليب البدائية فى حماية أنفسنا وهو ما يُعرف باسلوب مصائد المغفلين، فاخذ البعض منا في حفر الخنادق والبعض الاخر في جمع أعواد القصب وتشكيلها كسهام وذلك بغرسها في الخنادق وتغطيتها بالحشائش فاذا حاول العدو الدخول علينا سقطوا في الخنادق وانغرست تلك السهام بهم.
وفوجئنا بان الشعب الزائيري اخد يتداول العملة الليبية بدلا من العمله الزائيريه وكانها قرية داخل ليبيا.
وفى أحد الايام جاءنا بعض من افراد الصليب الاحمر وقالوا لنا بان عائلاتنا وصلت الى كانشاسا ويريدون رؤيتنا لكننا رفضنا ذلك الامر، وبعد إلحاح الصليب الأحمر طلبنا منهم ان يقوموا بتفتيش الطائرات للتأكد من أن الذين على متنها هم عائلات حقا وليسو جنودا. لعلمنا باساليب النظام الوقحة.
وفعلا قام الصليب الاحمر بتفتيش إحدى الطائرات، فوجدوا على متنها عائلات، ولكننا طلبنا منهم العودة الى ارض الوطن. وبعد ذلك طلبنا منهم تفتيش الاخرى، فرفض طاقم الطائرة السماح لهم، فاستعان الصليب الاحمر بالحكومة الزائيرية، فتم اقتحام الطائرة وقاموا بتفتيشها بالقوة، وكانت المفاجأة مذهلة بالنسبة للصليب الاحمر، اذ وجدوا على متنها جنودا في ملابس مدنية مسلحين ببنادق ورشاشات خفيفة وكذلك الرمانات.
أما بالنسبة لنا فكانت متوقعة لاننا نعلم جيدا هذه الاساليب وعاد الصليب الاحمر، ولا زلت أذكر تلك المرأة من الصليب الاحمر عندما رجعت من الطائرة ودموعها على خديها وهي تقول “كيف تسمح لهم ضمائرهم بارسال الامهات لابنائهم ويرسلون من يقتلهم وهم فى احضان امهاتهم؟”.
وبعد ذلك أمرت السلطات الزائيرية الطائرة بالعوده فورا لكنها بدلا من ان تعود الى ليبيا أصرت على الهبوط في مهبط “كامينا” رغم أنه مهجور وليس به مراقبين جويين أو خدمات المطار، وكنا نتوقع ذلك فطلبنا من الصليب الاحمر والامريكان عمل شيء، لانها قد تنزل في هذا المهبط.
وفعلا قاموا باحضار سيارات ووضعوها على المدرج كي لا تستطيع طائرتهم الهبوط، وما توقعناه قد حصل فاخذت تحلق فوق المطار مدة عشرون دقيقة تحاول الهبوط واخيرا اتجهت عائدة الى ليبيا بخفي حنين.
وفى هذه الاثناء كان المقبور ابراهيم البشاري مقيما في العاصمة الزائيرية محاولا التاثير على الحكومة الزائيرية مقدما لهم العروض المالية السخية وذلك حتى يقوموا بتسليمنا.
وعندما شعر الصليب الاحمر باستجابة حكومة زئير لهذه العروض، قاموا بترحيلنا ذات ليله الى “كينيا“. ونظرا لتخوف الصليب الاحمر من أن تكون قد زرعت بعض المتفجرات بين امتعتنا، طلبوا منا ترك كل شىء والركض الى المطار ومنها الى الطائرة واقلعت بنا الطائرة والحمد الله حوالي الساعه الثانية صباحا الى “كينيا“.
وبعد ان مكثنا شهرين وكانها سنتين. حيث كانت تلك الايام رهيبة بطيئة مرّت علينا وكأنها دهرا من الزمان لن ينقضي أبدا، وكنا نشعر بأننا سندفن هناك وإننا لن نرى الحياة ابدا.
…
بتبع
____________
المصدر: صفحات التواصل الاجتماعي