عمر المختار
وذات يوم قاموا بنقلنا الى سجن آخر لكي يضعوا الاسرى الجدد في السجن القديم الذي سميناه بسجن الرئاسة لانه يقع بالقرب من قصر الرئاسة، ووضعونا في معسكر يبدو أنه كان يستعمل كمخازن، حيث به هناقر كبيرة جدا، وقريب من شارع رئيسي.
في هذا المعسكر كنا نرى الشمس ونخرج لساحة المعسكر دائما أثناء النهار وكنا نستحم يوميا تحت خراطيم المياه، مقارنة بالسجن الاول لكن الأكل قلّ نظرا لأن الرقابة قلّت وكثرت سرقة الحرس للتموين المخصّص لنا، وكان الحمام عبارة عن برميل، وفي الليل كانو يقيدوننا كل عشرة في سلسلة كبيرة جدا وثقيلة.
وأذكر أننا أُصبنا بنزلة معوية، ففي الليل إذا أردت ان تقضي حاجتك على ذلك البرميل فيجب عليك سحب كل رفاقك المقيدين معك، ويجب عليك ان تتحمل الجراح التي ستصيبك من ذلك البرميل لانه كالسكين بعد ان تم قطعه، ويجب على الشخص المربوط معك في هذه السلسلة ان يظل واقفا على رجل واحدة الى ان تقضي حاجتك، زد على ذلك أن آخرين يريدون ذاك البرميل ويقولون أسرع أسرع.
ولازلت اذكر المرحوم المبروك وهو من غريان الذي جاءوا به وكان محروقا كلية، ورائحة الحرق تجلب الفئران من بعيد، وكانوا يقومون بغسله بالمطهر كل ساعتين . وفي الليل وبعد ان يقوموا بربطنا في تلك السلاسل ويُقفل ذلك الهنقر، يبدأ المرحوم المبروك ينادينا ويقول يا اخوتي انقذوني من الفئران فانها تاكلني ودون أن نستطيع فعل شىء له لأن هناك حاجز بارتفاع متر بينننا وبينه. ويبقي هكذا حتى الصباح.
ولا زلت اذكره يوصينا ببناته خيرا لو عدنا الى أرض الوطن. بقي على هذه الحال مدة اسبوع، ثم وافاه الأجل، وانتقل الى رحمة الله تعالى. وقام الحرس بتغسيله ونقله الى المقبرة ودفن هناك. ولا زلت أذكر الحرس وهم يبكون، والكل يريد أن يذهب للمقبرة لغرض صلاة الجنازه وإلقاء نظرة اخيرة عليه.
بكيت كثيرا لانني تذكرت إخوة لنا ماتوا في فادا من مرض الملاريا، وتم دفنهم دون غسل ولا كفن، بل في حفرة بالبلدوزر، ولا زلت أذكر الذين قتلوا وتم جلبهم وردمهم في قبر جماعي دون أدنى كرامة او احترام. فهاهم التشاديين يدفنون عدوهم بكرامة، وكأنه قريب أو صديق.
بعد ان انتقلنا لهذا السجن كانت الحراسات مشددة نظرا لوقوعه على طريق رئيسي وهناك تخوفا من قيام أحد ما بعمل ما ضد الأسرى، وكان لابد من نقلنا الى مكان آخر اكثر أمانا، فشرعوا ببناء سجن أخر أكبر كي يستوعب اكبر عدد من الاسرى.
أما من ناحية الطعام فأصبح أسوأ مما كان عليه في السجن الاول فكانت تقدم لنا وجبة واحدة في اليوم، إما ان تكون أرز مطبوخ في الماء لا شيء اكثر، اما اللحم فكان الجنود يأخذونه ولا تطبخ الا أمعاء الخرفان مع الارز، وفي اليوم التالي يعطوننا عصيدة القصب التي يسمونها (الضرابة).
بعد ان جهزوا لنا السجن الجديد نقلونا إليه فلم يكن به أصفاد لكن كانوا يضعوننا في زنازين تم يُقفل علينا بعد صلاة العصر، وكانت كل زنزانة بها عدد كبير من الاسرى يتراوح ما بين35 و40 شخصا.
وفي فصل الصيف كان العرق يتصبب منا وكنا نكاد نختنق، وبعد واقعة وادي الناموس تقدم التشاديون الى وادي الدوم وأسروا عددا لا بأس به من الضباط والجنود وقُتل عدد كبير منهم، وكان من ضمن الأسرى آمر العمليات العقيد خليفة ابوالقاسم حفتر والعقيد صالح الحبوني والمقدم الركن عبدالله الشيخي، وازدحم السجن .
ونظرا لعرض الحكومة التشادية ايانا امام الصحافة العالمية، وتبين للعالم بطلان ادعاءات القذافي بعدم تدخل القوات الليبية في الحرب ضد نظام حسين حبري، أرسل القذافي إثنين من القاذفات الليبية من نوع (تي يو22) لدكّ السجن والتخلّص ممن فيه من الاسرى حتى لا يكون في مقدور حسين حبري اثبات تورط القذافي في هذه الحرب. فتم إسقاط إحداهما من قبل القوات الفرنسية المتمركزة في العاصمة ولادت الاخرى بالفرار لتفرّغ عبوتها فوق مدينة أبشه ثاني أكبر مدينة في تشاد .
وتوالت الاحدات حيت انسحبت القوات الليبية من فايا لارجو واوجنقا وسقطت أزوار، بل تحررت ازوار من الاحتلال الليبي وقُتل من قُتل واُسر من اُسر وعلى راسهم العقيد عبد السلام سحبان.
ثم تقدمت القوات التشادية الى أوزو وتم تحريرها وبقيت بها مدة أسبوع الى أن عاودت القوات الليبية هجومها عليها وأعادت احتلالها من جديد. فغيّرت القوات التشادية وجهتها وتقدمت الى السارة فدمرتها وقُتل اغلب جنودها وأسر بعضهم بعد أن فرّ آمر العمليات العقيد خليفه المسماري الملقب بـ “العجل” ونجا باعجوبة بعد أن تلقى رصاصة من الخلف وأُخذ للعلاج في الخارج.
أما الجرحى من الاسرى فقد بقوا بجروحم الى أن أسر الطبيب إدريس ابوفايد ، وقام بازالة الشظايا من الجنود دون وجود أية معدات طبية. وبعض الاسرى وهم من الطلبه فقدوا أرجلهم في تلك الالغام التي زرعها النظام داخل تشاد. وذات يوم وقف سيادة قائد الثورة الزعيم الاوحد والقائد الذي لا يُهزم ليقول أن من أسر فهو خائن وأما من مات فهو غبي لا يعرف كيف يستعمل سلاحه.
أعود الى السجن، حيت كانت حالتنا سيئة للغاية فكنّا نفتقر للدواء والغذاء وانتشرت الملاريا بيننا، وأصبحنا نفقد إخوة لنا ماتوا في زنازينهم أما أنا فكانت حالتي سيئة جدا وكنت أنزف دما من فمي بعد التهاب اللثة وانتفخت رجلاي ولم أعد استطيع الوقوف ولا حتى الذهاب الى الحمام لولا وجود بعض الاسرى من السارة، الذين لازالو بصحة جيدة، كانوا يأخدونني الى باحة السجن لأتعرض لاشعة الشمس او ياخذونني الى الحمامات.
وذات يوم وانا في باحة السجن والدم ينزف من فمي، دخل الحرس وأمرونا بالدخول الى الزنازين وأسرع الجميع بالدخول الى الزنزانات واقفلوا عليهم الابواب، أما انا فبدأت احاول الزحف جاهدا ولكنني لم استطع فوقف على أحدهم ونزع نطاقه العسكري وأخد يضربني ضربا مبرحا وأنا لا استطيع ان أتحمل اللمس فما بالك بالضرب المبرح ولا زال الحرس يضربني الى ان سمع صرخة من رجل عند مدخل السجن وقال له شيئا لا افهمه، فسقط النطاق من يد الحرس وأخد يرتعد خوفا.
فتقدم ذلك الرجل الي ووقف عند راسي ونظر الي بنظرة مليئة بالاسى وهو يرى آثار الضرب ويرى الدماء التي كانت تسيل من أسناني، ثم جمع الحرس وقال لهم شيئا ولا اعلم ما هو، لكن الحرس بعد ان ذهب الرجل قالوا انه فخامة الرئيس حسين حبري وإنه أمرهم بفتح الغرف وابقائها مفتوحة طول اليوم وأمر بالزيادة في التموين، لكن اي تموين فقد ذهبت الزيادة كلها الى مقاول مكلّف بجلب التموين وكذلك الحراس.
بقيت على هذه الحال مدة 7 أشهر أقاوم المرض وكلما فارق أحدنا الحياة ظننت انني سأكون بعده. بقينا في هذا السجن نتضرع الى الله وليس لنا الا الدعاء وكلنا يقين بأن رحمة الله قريبة جدا.
ونحن في السجن جاؤا بإثنين من المهندسين الاجانب أحدهم من المانيا والاخر من يوغسلافيا سابقا. وعلمنا بأن المهندسين جاء بهم النظام الليبي لبناء المطار في وادي دوم، وادخلوهم الى تشاد وقالوا لهم انها ليبيا الى أن وقعوا في الاسر.
الالماني لم يمكث الا اسبوعين حيث دفعت له دولته الفدية، وبناء على وعد قطعه لصديقه اليوغسلافي فقد أخرج أيضا من قبل الحكومة الالمانية، بعد أن بقي معنا شهرين لرفض دولته مساعدته، ولشعوره بالخيبة والمرارة وحاول الانتحار داخل الحمامات لكن من كان معه انتبه الى ذلك وتم انقاذه.
ومن موريتانيا تم أسر مواطنين جاؤا الى ليبيا بحثا عن عمل وتم تجنيدهم والزج بهم في هذه الحرب، وقابلتهم سفارة مورتانيا وتركتهم. ومن الاسرى بعض المدنيين سائقي الشاحنات الذين قُبض عليهم في الطريق، وأذكر منهم اثنين من الكفره مع اطفالهم، احدهم اسمه صالح وعمره ست سنوات، والاخر ناصر ويبلغ من العمر تسع سنوات، وبقوا معنا في الاسر.
هذا ماعلمته من سجني فقط اما السجون الاخرى فعلمها عند الله.
…
يتبع
____________
المصدر: صفحات التواصل الاجتماعي