عمر المختار
بعد مبيتنا في ذاك الوادي، وبعد صلاة الفجر انطلقوا بنا الى قرية الكلاعيط. ووصلناها حوالي الساعة العاشرة تقريبا، ورأينا الشعب من أطفال ورجال ونساء في استقبالنا، وكانوا معنا طيبين الى حد ما، ما عدا بعض النسوة اللاتى حاولن التعرض لنا لكن الجنود منعوهن.
فوضعونا في مبنى به ثلاث غرف وأمامه سور، وبه عدد من الجنود لحراستنا، وكانت بتلك الغرف فتحات عدة، وكان الناس يعلمون أننا بهذه الغرف، فانهالت علينا السجائر من هذه الفتحات الصغيرة، حتى كدنا ننسى أننا أسرى، وكنا نشاهد نسوة داخل السور يقمن باعداد الغذاء لنا. وقدّموا لنا الغذاء المكوّن من عصيدة القصب مع طبيخ ولحم ضأن او ماعز لست ادري لكنه لذيذ، مع بعض اللحم المفروم المعلّب.
ثم اخذونا في سيارة تيوتا كراوزر الى مطار ام شعلوبة حيث كانت هناك طائرة من نوع سي130، وقيّدونا من الخلف بأحزمه، وأذكر أن الضابط الذي كان يقوم بشد الاحزمة شديد جدا، حتى أنني شعرت بعظام كتفي تتلامس وهو يدفع جسدي برجله ويشد الحزام الذي يشبه احزمة الطائرات أو ما يُستخدم في الشحن.
ثم وضعونا في تلك الطائره وكنا نتعذب من ذلك القيد، لكن الجنود الموجودون بالطائرة أسرو لنا ووعدونا بأنهم سيفكّون عنا القيد بعد اقلاع الطائرة . وبعد اقلاع الطائره بدأنا نتدحرج الى مؤخرة الطائرة، وفعلا قام الجنود بفك القيد وتقديم الماء البارد لنا.
وعندما وصلت الطائرة الى مطار انجامينا أسرع الجنود بتقييدنا من جديد، ولكن ليس بتلك الشدة التي استعملها معنا ذاك الضابط في مطار أم شعلوبه، وكان في استقبالنا عدد من العسكريين الذين يبدوا أنهم متعلّمون وأخذوا يتحدثون معنا باسلوب محترم، ويؤكدون لنا بأننا اخوة مهما اختلفت حكوماتنا، وبأن رابطة الدين ورابطة الجوار والتاريخ المشترك تشدّنا بعضا لبعض، وبأنها شدة وتزول باذن الله، ويحثوننا على الصبر لان الله لا يضيع أجر الصابرين.
كانو في منتهى اللطف، والأدب، وقالو لنا بان إخوتنا الذين في السجن يتمتعون بقدر كبير من الاحترام وبانهم يذهبون كل يوم جمعة للصلاة في المسجد. وأخذونا الى السجن، وبمجرد أن نزلنا في باحة السجن قام السجّان بادخالنا الزنزانات وكان يضربنا الواحد تلو الاخر، أمام اؤلائك العسكريين الذين استقبلونا على أرض المطار.
كانت غرف السجن صغيرة جدا وكنا حوالي 30 الى 40 شخصا في الغرفة الواحدة، وكان الحمام عبارة عن مرحاض على الطراز القديم. أما السجن فكان مسقوفا بالصفيح، ففي الصيف كانت الحراره شديدة جدا، وفي الشتاء فكان البرد قارص، وكنا ننام على الارض دون أغطية. وكنا ننام بالتناوب نظرا للازدحام فبعضنا ينام والبعض الاخر يضل واقفا اثناء الليل بعد أن تقفل علينا أبواب الغرف.
ثم بدأوا معنا التحقيق، فكانوا ياخذوننا فرادى الى غرفة أمام السجن. والمحقق كان أبيض البشرة ،ذو لكنة شامية، يبدو أنه فلسطيني أو لبناني أو سوري لكن لهجته أقرب الى أللهجه اللبنانية.
في البداية لم يكن المحقق شديدا معنا، ولكن بعد بضعة أيام ازداد حدة معنا، وكان الحرس معنا داخل غرفة التحقيق. وذات يوم اثناء التحقيق قام المحقق بصفع أحد الاخوة، فجن جنون الحارس، وقام بطرد المحقق الى الخارج وهو يقول له أن مهمته التحقيق وعليه احترامنا، ومنذ ذلك اليوم لم نره.
كنا نعتقد ان بلدنا سوف تقوم بتحريرنا من الأسر، لكن الحرّاس كانوا يأتون بالمذياع ويضعونه في النافدة كي نسمع “قائد الثورة” وهو يقول اننا عبارة عن “شراذم من المرتزقة“، وبأنه “لا توجد قوات ليبية داخل الاراضي التشادية“، والجماهير تهتف “تحصين الساحل تمينا .. نبو فادا وانجامينا“.
فأخذ منا اليأس والاحباط ما أخذه، فأصبحنا “مرتزقة” واتفاقية جنيف لن تشملنا، وليس لنا أية حقوق، وللحكومة التشادية الحق كي تتصرف معنا كيف تشاء دون رقيب أو حسيب. وأصبحنا بلا وطن وبلا هوية.
وذات يوم قامت الحكومة التشادية بنقلنا الى وسط العاصمة لعرضنا أمام الصحافة العالمية، كي يبرهنوا للعالم أننا ليبيون، وكانت الحراسة مشددة وأنزلونا من العربات أمام المنصة وأمام الجمهور وكنا نمشي حفاة أمام الجموع الغفيرة من الشعب التي كانت تَرجمنا بالحجارة والقاذورات، بينما كان الجيش يفصل بيننا وبين هذه الجموع التي كانت تتدافع علينا حتى ظننت أننا سنموت تحت اقدام هذه الجماهير الغاضبة.
وأخذ الجمهور يتدافع نحونا بقوة، مما اضطر الجيش إلى نقلنا في عربات عسكرية وكان الجنود معنا في تلك العربات لحمايتنا من الحجارة التي كانت تنهال علينا، وسالت الدماء من الجنود مثلما سالت دماؤنا، غير ان بعض الجنود كانت جراحهم أكبر من جراحنا، وأخذونا الى مسرح، حيث جاءت الصحافة الى هناك، واذكر منها صحافة سودانية ومصرية، واخرى أجنبية… تمنيت في ذلك اليوم لو أن الارض انشقت وابتلعتنا… يا الله ما شعرت بالإهانة يوما مثلما شعرت في ذلك اليوم.
بعد ان طافوا بنا شوارع انجماينا وبعد أن سالت منا الدماء جراء رجم الشعب لنا بالحجارة والقاذورات وبعد انتهاء الصحافة من التقاط الصور لنا، اعادونا الى السجن منهكين من التعب، والالم يعصر قلوبنا، زد على ذلك الام الجروح والضرب الذي تعرضنا له من الناس.
وذات يوم جلب لنا الحراس جلاليب عربية جديدة وأمرونا بارتدائها، فرحنا كثيرا ظنا منا أن الصليب الاحمر سيقوم بزيارتنا، وعند المساء أخرجونا الى باحة السجن قرب البوابة الرئيسة، وأجلسونا هناك وما هي الا دقائق معدودة حتى خرج علينا رجل مسنّ يبدو عليه الوقار، ورفض الجلوس على الكرسي الذي أُحضر له وجلس على التراب مثلنا، وبعد أن سمى باسم الله قدّم لنا نفسه بأنه غيث عبد المجيد سيف النصر وانه يعيش في الخارج مند زمن بعيد، وبأنه نائب الامين العام للجبهة الوطنية لانقاد ليبيا.
ثم تحدث باحاديث لم نعتد عليها ولم نسمعها من قبل في ليبيا، حيث انها تؤدي الى حبل المشنقة، وقال أنه لا يستطيع فعل شيء لنا لأن القذافي هو الرجل الوحيد الذي بيده الحل، وقال إنه أتى الينا لرؤيتنا باعتبار اننا ليبيين.. تحدث معنا لمدة ربع ساعة وتمنينا لو أنه بقي اكثر، ثم ودّعنا وغادر وعدنا الى غرف السجن ونحن خائفين ويقول بعضنا لبعض ماذا لو اننا عدنا يوما وسألونا عن زيارة سيف النصر لنا؟
رأينا الحراس قد تغيرت تصرفاتهم معنا الى حد كبير، وماهي الا أيام قليلة حتى أخرجونا مرة أخرى وظننا ان الحاج سيف النصر سيأتي لزيارتنا وما هي الا لحظات حتى فاجأنا رجل وقف أمامنا ثم سلّم وقال إنه ضابط سابق في الجيش الليبي إسمه جاب الله مطر وقال لنا أنه لا يستطيع عمل شيء لنا ولكن يمكن أن تتحسن أوضاعنا في السجن نظرا لعلاقته بالحكومة التشادية، ثم قدّم لنا علب السجائر وعلمنا منه بأنه قائد فصيل معارض ثم سلّم علينا وانصرف. ارتفعت معنوياتنا بعد أن علمنا ان هناك ليبيون يشعرون بمأساتنا، لكن يبقى المصير مجهول.
ثم ذات يوم جاء الحرس وأخرجوا شخصا واحدا وقالوا له عندك زيارة فاستغرب الجميع من يكون الزائر وبقي هذا الرجل حتى ما بعد صلاة العشاء، ثم عاد الرجل والفرحة تملاء عينيه فتوقعنا انها ساعة الفرج، لكنه كان يحمل عدد لا باس به من السجائر ومعجون وفرش الأسنان وملابس بيضاء وبعض النقود التشادية فسألناه من الزائر فاخبرنا بأنه العقيد مسعود عبد الحفيظ جاء في مهمة للتفاوض مع الحكومه التشادية وانه قريب له أي من نفس القبيلة. فكان يعطي النقود للحرس لشراء بعض علب الدخان من نوع البستوس (صناعة تشادية) اما نحن فيكفينا ان نشم رائحة السجائر من هذا الرجل.
وبقينا في هذا السجن فترة وجيزة، واخذنا نستطرد ذكرياتنا في ليبيا الحبيبة انا والرائد طيار عبدالسلام شرف الدين الذي كان اقرب الناس الي في ذلك السجن، حيث كنت تحت إمرته في قاعدة القرضابية، وكان يحدثني كيف أنه أُسقط بصاروخ أرض جو المحمول على الكتف، بعد أن قام بتدمير الهدف وعاد على ارتفاع منخفض لاستطلاع الهدف.
وحكى لي كيف أنه بقي في الصحراء مدة اسبوع يعاني الجوع والعطش دون أن يقوم جيشنا بالبحث عنه وانقاذه رغم أنه قفز بمظلته على مسافة ليست بالبعيده عن مواقعنا، وانه تم القبض عليه بعد أن بلّغ عنه أفراد من الشعب، وكيف أنه تعرض للضرب الشديد والتعذيب الشديد من قبل التشاديين نظرا لرتبته ولأنه كان أول طيار يتم اسره.
وذات يوم سمعنا اطلاق نار كثيف داخل وخارج السجن تم أتى الحراس بالمذياع الينا، وسمعنا في الاخبار ان معارك طاحنة جرت في وادي النامووس، وأنه العديد من جنودنا قد قتلوا، وتم أسر العديد منهم، بالاضافة الى الاستيلاء على عدد كبير من الاسلحة والدخيره وتدمير الدبابات التى شاركت في تلك المعركة.
فبدأت تخيّل مصير اؤلئك الجنود الذين قتلوا في دباباتهم او التهمتهم النيران وهم أحياء، وقد بلغ منا الحزن ما بلغ.
…
بتبع
____________
المصدر: صفحات التواصل الاجتماعي
Всё, что нужно знать о покупке аттестата о среднем образовании
diplom45.ru/gde-kupit-shkolnyj-attestat-legalno-i-bystro