لم يكن مشهد انتقال بنين إلى الديمقراطية ملحميًا، ولم يُقَدِّم البلد الواقع غرب أفريقيا نموذجًا ينتصر لتنظيرات التنمية الاقتصادية وآثارها التحوُّلية في القارة الفقيرة، وهو ما لاحظته الباحثة راشيل م. جيسيلكويست، ناهيك عن الثورات الشعبية التي ينحني لها أعناق العالم تبجيلًا.
كان ذلك ليكون رائعًا، لكن بنين مرّت بثلاث مراحل شبه تقليدية:
(1) بدأت بانهيار الحكومة القائمة،
(2) ما مهَّد لانتقالٍ تدريجي إلى الديمقراطية،
(3) ثم استمرار الحد الأدنى من هذه الحالة.
في المرحلة الأولى، فاقمت الأزمة الاقتصادية من نقاط الضعف الموجودة في الحكومة القائمة، وفي المرحلة الثانية، دعمت الجهات الفاعلة الخارجية عملية التحوُّل الديمقراطي، فيما ساهمت مجموعات محلية متنوعة في عمليةٍ سياسيةٍ لم تهيمن عليها أي مجموعة بمفردها، ثم في المرحلة الثالثة، اكتسبت القيادة المحلية والحوافز المؤسسية أهمية خاصة، وفق البحث الذي أعدته جيسيلكويست.
لم يكن مرَّ على استقلال بنين عن فرنسا في عام 1960 سوى ثلاثة أعوام حين شهد البلد الواقع في غرب أفريقيا انقلابًا على هوبير ماجا، أول رئيس للبلاد، بقياده كريستوف سوجلو الذي خدم سابقًا في الجيش الفرنسي وكان متزوجًا من امرأة فرنسية.
بعدها بعامين كرَّر سوجلو الكرَّة ضد سورو ميجان أبيثي، قبل أن يشرب من الكأس ذاته على يد موريس كوانديتي في ديسمبر (كانون الأول) 1967.
في أكتوبر 1972 كانت بنين على موعد مع انقلابٍ سيظل محفورًا في الذاكرة لفترة طويلة، قاده ماثيو كيريكو، الرجل الذي لم يُلَقَّب بـ«الحرباء» من فراغ؛ إذ حكم البلاد طيلة 19 عامًا حتى 1991، قبل أن يُجرَّد من سلطته خلال المؤتمر الوطني الذي عُقِد في عام 1990.
بسيطرة ماثيو كيريكو على بنين، انتهت سلسلة من الانقلابات والانقلابات المضادة التي ابتليت بها الدولة منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960، حسبما ترصد «فريدم هاوس». لكن بعد ثلاث سنوات، تبنى كيريكو نظام دكتاتوريًا ماركسيًا – لينينيًا تحت حكم الحزب الواحد والقيادة العسكرية للجنرال كيريكو نفسه.
استمر هذا الوضع 17 عامًا، لكن الإفلاس المالي الناجم عن سوء الإدارة الاقتصادية لخزائن الدولة أضعف حكم الجنرال.
في يناير (كانون الثاني) 1989 بدأ طلاب الجامعات الذين يطالبون بعودة الوظائف المضمونة في القطاع العام، والمعلمين الغاضبين من عدم دفع الرواتب لشهور، موجة من الاحتجاجات والإضرابات استمرت حوالي 20 أسبوعًا.
بحلول نهاية العام، نمت الحركة الاحتجاجية لتشمل مجموعات أخرى من المجتمع المدني، واتخذت طابعًا سياسيًا أكثر عمومية، مطالبة باستقالة كيريكو وتطبيق الحكم الديمقراطي.
كانت المشاركة الشعبية لافتة، ففي شهر ديسمبر وحده تظاهر أكثر من 40 ألف مواطن في شوارع أكبر مدينتين في البلاد.
وتحت وطأة هذا الضغط السياسي، وتعليق الدعم المالي والدبلوماسي الفرنسي، ألغى كيريكو الماركسية – اللينينية، وأضفى الشرعية على أحزاب المعارضة، وأعلن عقد مؤتمر وطني في فبراير (شباط) 1990 لمناقشة إمكانية تطبيق الحكم الديمقراطي.
جمع هذا المؤتمر ـ وهو الأول من نوعه في أفريقيا ـ 488 مندوبًا، من بينهم قادة الأحزاب السياسية المعارضة والنقابات والجامعات والجمعيات الدينية والجيش ومنظمات حقوق الإنسان والجماعات النسائية.
وعلى الرغم من مقاومة كيريكو، صاغ المؤتمر دستورًا ديمقراطيًا جديدًا، وأكد السيادة على البلاد، ونظم انتخابات وطنية تنافسية متعددة الأحزاب في العام التالي.
رغم اعتراض بعض ضباط الرئيس على هذا التحوُّل، وانتقاد كيريكو ما تمخض عنه المؤتمر باعتباره «انقلابًا مدنيًا»، إلا أن السخط الجماهيري كان له دورٌ في دفع الرئيس إلى الاعتراف بخطئه وطلب المغفرة من شعبه، ولاحقًا الاعتراف بخسارته في انتخابات 1991 التي عبَّدت طريق التحوُّل إلى الديمقراطية، رغم المخالفات التي شابتها.
بيد أن الحد الأدنى من التعددية الديمقراطية الذي حظيت به بنين منذ ذلك الحين لم يمنع كيريكو من العودة إلى الرئاسة عبر انتخابات 1996، ثم مرة أخرى عام 2001 في ظل ظروف مثيرة للجدل، قبل منعه من الترشح مرة أخرى في عام 2006؛ لأن الدستور يقصر ولاية الرئيس على فترتين فحسب ويشترط أن يكون المرشح أقل من 70 عامًا، بينما كان كيريكو قد بلغ السبعين في عام 2003 خلال فترة ولايته الثانية.
صحيحٌ أن كيريكو أعلن في يوليو (تموز) 2005 أنه لن يحاول تعديل الدستور للسماح له بالترشح لولاية ثالثة، وقال: «إذا لم تترك السلطة؛ فستتركك السلطة». إلا أن بعض التكهنات كانت تشير إلى أنه كان ليفعل ذلك لو استطاع، ولولا المعارضة الشديدة التي واجهته لَمَا غادر منصبه في أبريل (نيسان) 2006.
تأمل شعب بنين كيف أن محاولات الانقلابات التي نُكِبوا بها أزيحت بمحاولات انقلابٍ أخرى – وبلدهم ليست بدعًا من دول القارة المنكوبة – فلم تكن لديهم رفاهية البحث عن حلول غير تقليدية خارج الصندوق، بل أجبرتهم الأثقال المتراكمة على الرضا بـ«الحد الأدنى»، ثم كان اختيارهم أن غفروا خطيئة منفذ آخر انقلابٍ ناجح شهدته البلاد منذ ذلك الحين.
صحيحٌ أن العقيد بامفيل زوماهون حاول في 4 مارس (آذار) 2013 الانقلاب على الرئيس توماس يايي بوني، لكن قيمة المغفرة التي تعلمتها بنين كانت حاضرةً مرة أخرى في قرار الرئيس بالعفو ليس فقط عمن حاولوا الانقلاب عليه، بل من حاولوا تسميمه قبلها بعام، قائلًا: «أنا لا أريد الموت للمخطئ، بقدر ما أبحث عن الاعتراف بالخطأ».
لم يكن كيريكو يتمتع بقوى سحرية هي التي مكنته من النجاة طيلة هذه الفترة – كما يعتقد البعض – لكنه كان ذكيًا بما يكفي ليختار ليس فقط توقيت تراجعه عن صدارة المشهد، بل أيضًا إعادة ترميم صورته السياسية، والنجاة برقبته من مصيرٍ دمويّ اعتاده الانقلابيون من بني قارّته، وكانت النتيجة أن أعلنت البلاد أسبوع حداد وطنيّ عند وفاته في أكتوبر 2015 عن عمر يناهز 82 عامًا.
لم يكن شعب بنين ساذجًا حين تجرَّع الصبر، ولا مثاليًا مغرقًا في الرومانسية حين قَبِل طلب المغفرة، بل كان يؤمن بأن التفكير التقليدي داخل الصندوق قد يؤدي أحيانًا إلى حلحلة بعض الأزمات المزمنة، وأن حل المشكلات المستعصية يتطلب أحيانًا ما هو أكثر من صرخة شعبية.
______________
المصدر: ملف “الكفاح الأسمر.. 5 من أبرز تجارب التخلص من «حكم العسكر» في أفريقيا” ـ موقع ساسة بوست