أحمد يوسف علي
قدمت أوراقي للعمل كمعلم فإذا بي أمين مرافق وإسكان وبيئة!
«حين تندلع شرارة الحرب، لا يهم بعدها من كان السبب، ولا يمكن أبدًا ضمان بقائها في نطاق جغرافي محددٍ، كما لا يمكن معرفة مدى توسع رقعتها، ولا التنبؤ بمن سيتورط فيها من دول وعصابات وأفراد، هي أول إطلاقة وكفي، بعدها يكون المصير مجهولًا.
وفي زمن الحروب، تنتهي فوبيا الكوارث الطبيعية والوبائية، فلم يعد أحد يأبه لكوفيد 19، والنسخ التالية المعدلة ولم نعد نرى أو نسمع أخبارًا عن كورونا في القنوات، وكأنها حلم صيفي طار مع (طيران) النوم وأصبحت كل الأخبار حصريًّا عن أوكرانيا.
أحيانا كثرة التفصيلات، تنحى بنا جانبًا عن لب الموضوع، فتضيع الحقيقة، هناك ما يستحق الإضفاء، وهناك بالمقابل تفصيلات غير ذات قيمة إذا ما تم سردها، وأحيانًا يكون ضررها أكثر من نفعها!
أنتمي لثورة فبراير (شباط) التي جل منتقديها كانوا لا يكسبون النوم الهنيء، وأثروا في عهدها، وبذا انطبق عليها القول «مثل خبز الشعير، مأكول ومذموم» والبعض من أصحاب ثقافة الصحراء الشرقية يستعملون كلمة عيش بدلًا عن خبز.
من عادتي مخاطبة من أتوسم فيه فهمًا، فأنا لا أخاطب الأغبياء الذين ملأوا العالم الافتراضي ضجيجًا، إما بنشرهم (نبؤات) قائدهم الألمعي، أو نشر «ليستات، قوائم» بأثمان الزيت والطماطم والرز والشاهي متناسين تمامًا أن قيمة «لنقل ثمن» الإنسان في عهد قائدهم الألمعي كانت لا يساوي بقايا ظرف روسي فارغ سعره أقل من خمسة قروش.
المزيد من الإغراق في الفوضى، تمهيدًا لبناء دولة الأهل والعشيرة، دولة الفوضى!
اتصل بي– المغفور له بإذن الله – والدي صباحًا قائلًا أن أعيان من أبناء عمومتك يرغبوا بلقائي، وبعضهم قصدوه «يشحتوا» منه لأحد أفراد عائلتهم موقع أمين اللجنة الشعبية للمرافق والإسكان والبيئة لمهندس كان قد تولى هذا الموقع لسنة وبضعة أشهر، بعد حل شعبية الحزام الأخضر وضم أجزاء كبيرة منها لشعبية المرج.
والشعبية حسب شطحات القائد المخرب تعني محافظة أو مقاطعة يتم تمطيطها وتغيير جغرافيتها وديموغرافيتها حسب ما يطلبه المستمعون، أي وفقًا للحالة الأمنية، وليست ثابتة الحدود والمقار منذ عقود أو قرون، سبب الضم أن هناك فسادًا كبيرًا جدًا ظهر في تلكم المحافظة، طال حتى المماحي وأقلام الرصاص، ما يسمى بالقرطاسية فصرف على هذا البند مليوني دينار من إجمالي ميزانية سنوية لا تزيد عن 15 مليون دينار.
لا تخلو شعبيات أخرى من فساد ربما أكبر لكن «المخرج عايز كدة»، وقد وثقه الشاعر المرحوم حسين جادالله العمروني، وأطلق قصيدة هي الوحيدة المنشورة له على «يوتيوب»، انتشرت انتشار النار في الهشيم وترتب عليها وعلى أحداث أخرى تداعيات كبيرة، غيرت قليلًا في قالب ولون ورائحة ومذاق سلطة الشعب، من السلاطة.
نظام إداري سويسري!
عام 1986 تغير النظام الإداري للمرة العاشرة ربما في عهد القذافي وأجلود، مؤسس حركة اللجان الثورية، وهي تغيرات مقصودة لا يجهل مغزاها لبيب، وقد كان الهدف تدمير بنية البلاد وأهمها الإدارة، وخلق فوضى خلاقة تدار بالريموت كونترول الذي كان وقتها واسع الانتشار.
النظام الجماهيري في نسخته الجديدة كان نظام «كومونات» شبه «الكانتونات» السويسرية كما قال معمر، بلا مؤاخذة، بحيث إنه يحق لكل 50 حامل بطاقة شخصية أن يؤسسوا كومونتهم على أي بقعة من أرض الجماهيرية العظمى، والتي يسكنون بها، لا أهمية للمؤهل التعليمي، بقدر ما كانت الأهمية القصوى تولى للتجربة الرائدة الفريدة التي أدهشت العالم أو لعلها أدهشته حتى قطعت أنفاسه أو دهّشتنا، فالعالم لا يبالي بنا ولا يعرف اسمنا ولا من نحن أصلًا، كوننا مثل تنابلة سلطان، غير منتجين!
الكومونة تتكون من الخمسين عضوًا، وهم يمثلون المؤتمر الشعبي الأساسي، أي الجمعية العمومية، وهناك أمانة مؤتمر لهذا المسخ العجيب، وعددهم ستة اشخاص، أمين مؤتمر، أمين مساعد، أمين شؤون المرأة، أمين الشؤون الاجتماعية، أمين الشؤون الإعلامية، وأمين «الزلحة أو الزناحة».
بينما هناك أكثر من عشرين أمانة تمثلها أمانة اللجنة الشعبية للكومومة، النظام المستحدث البديع والفريد، ويجب أن يكون بالمؤتمر مثابة ثورية، ممثلة على الأقل بخمسة أشخاص، وقبل اختراع فرق العمل والقوافل الثورية، ولجان التطهير بإصداراتها المختلفة، أوجدت بالكومونا محكمة الشعب مكونة من رئيس وعضوين على الأقل، لا علاقة لهم بالقضاء أو القانون، إضافة لترشيح عضوين من المؤتمر للخارجية الليبية كي يكونا خير سفيرين لكومنتهما في الخارج، تحقيقا للعدالة الاجتماعية في أبهى حلة لها.
والأهم سلطة الرقابة، المكونة من أمين وبعض الأعضاء، بالإضافة للموظفين الإداريين والطباعين وهم الأهم في عهد الطابعة اليدوية التي تحتاج لقوى بدنية للضرب على الحروف بدلًا من النقر عليها، وأصبح لكل كومونة ملاكها الوظيفي، وللأمانة لم يحدث هدر في أموال الدولة مطلقًا بحيث توزع المرتبات يمنة ويسرة، بل من يستحق المرتب هم قلة منهم أمين المؤتمر الشعبي الأساسي، وأمين اللجنة الشعبية، وأمانات محددة، بينما الطابور الكبير الأخر يتم تفريغهم تفرغًا تامًا من أعمالهم على مرتبات تصنف على درجات وظيفية أعلى بكثير، من درجاتهم الفعلية.
أهم نتائج حقبة الأربعين رغيف خبز بدينار ظهور طبقة «البيه البواب»، وخراب البلاد إلى الآن!
بناءً على هذه المعطيات تتم «التكتكة»، بحيث يُستهدف أصحاب الدرجات الدنيا بالترشيح للمواقع الشعبية، ليحصلوا على ترقيات، ولا تظنوا أنها ترقيات عظيمة، ففي أحسن الأحوال تزيد الترقية من درجة لأعلى بقيمة 10 دنانير، وأحيانًا أقل، حدث هذا أيام الأربعين «فردة» خبزة بدينار، والليبيون يطلقون على الرغيف كنية «فردة»، والتي تستخدم أيضًا مع السباط، الشبشب، و«القندرة» كما ينطقها البصريون أو المدرسة الكوفية.
أما من يُمنح الثقة لشغل المواقع العليا، عادةً يكونوا غير معينين على قدرة القوى العاملة التي لم يك لها مفردات ولا ملاك وظيفي، وذلك بغرض أن يحصلوا على مرتب الدرجة الثانية عشر، وهي الأعلى إلا درجة في مواقعٍ كهذا.
وهذا الأمر يتخلله إشكالات كبيرة، ومفاوضات شاقة وتنازلات ربما عن أمانتين أو ثلاث، وهنا ينطبق المثل الليبي الموغل في القدم، الرأس سبعة والأحباب ثمانية، بمعنى عدد لحمات الرأس سبعة والحضور أكثر، وحقيقة وعيت على حقبة تقسيم الرأس لعدة لحمات، لكن بعد فترة أصبحنا نشتري الرأس من الجزار، الذي يقسمه إلى قسمين، بكل عدالة «الساطور» وإنصافه، يوضعان في الفرن، وكفى الله المؤمنين القتال.
لا توجد مقار لأكثر من 15 ألف كومونة تكونت في لمح البصر في كامل ليبيا حينها؛ ولذا لجؤوا لمدراء المدارس، ليعطوهم مكاتب أو فصولًا، وبذا أصبح لمدير المدرسة التي «تستضيف» مؤتمرًا وأحيانًا اثنين أهمية كبرى، تفوق أهمية أكبر السلطات في الكومونة، فلو خالفوه ربما يكون مصيرهم ومصير ملفاتهم الشارع، وما أقسى صقيع الشارع شتاءً، وأشد لهيبه صيفًا.
في نهاية العام تعقد جلسات المؤتمرات الشعبية الأساسية ومنها جلسة يسمونها، المساءلة، أي السؤال، وكأنك انتقلت للعالم الأخر، وبدأ الملكان أو المخولون بسؤالك استنطاقهم «روحك»، كان الخمسون صاحب بطاقة ثلثهم من النساء اللواتي لا يحضرن مجالس الذكور، وبذا لا يتجاوز العدد في مؤتمرات الخمسين بطاقة أكثر من ثلاثين نفرًا، كلهم يجلسون على الطاولة الأمامية التي تمثل المنصة الرئيسة فصلًا دراسيًّا ويتبقى واحد أو اثنان، يمثلون قوى الشعب العظيم، بجوار عضو أو اثنين من المثابة الثورية، وهنا تتجسد مقولة غوار «ضيعة كلهم بدهم يكونوا زعما، من فين بدنا نجيبلها شعب»!
في نهاية الأمر كلها «خيخي وبنيخي»، أي أخوال وأبناء أخوات أو عمات أي أصهار، فلا ضرر ولا ضرار، ويكتب في الصياغة التي ترسل لمؤتمر الشعب العام ملاحظات ليست سلبية، ملحقة بالقرارات والتوصيات.
***
أحمد يوسف علي ـ مغترب .. عن بلاد العرب
______________