ولد الشيخ “علي يحي معمر” في عام 1919م، بمدينة “نالوت”، والتحق باحد الكتاتيب بقرية “تكوت” (احدى ضواحي مدينة نالوت). درس بعدها في المدرسة الابتدائية في نفس القرية.

ثم سافر في عام 1927م، الى “جربة” بتونس، لينظم الى حلقات احد ابرز العلماء في ذلك الوقت (الشيخ رمضان بن يحي اللّيني)، انتقل بعدها الى جامع “الزيتونة”، بـ”تونس” العاصمة، ثم الى مدينة “القرارة” بـ”الجزائر”، حيث التحق بمعهد “الحياة”، لمدة سبع سنوات، تتلمذ اثنائها على ايدي كبار العلماء، بل قام هو نفسه بمهام التدريس في نفس المعهد. التحق عقب ذلك، وبالتحديد في عام 1937م بالحركة الاصلاحية التي كان يقودها الإمام “الشيخ بيوض”.

ثم عاد الى ليبيا في عام 1944م (او 1945م)، فأنشأ مجلة اليراع”، والتحق بمجال التربية والتعليم، فعمل في مجال التدريس والادارة والتفتيش. حيث ساهم، بجانب التدريس، بالعمل كمديرا لمعهد “جالو” للمعلمين، ومفتشا للغة العربية، ونائبا لمدير التعليم من عام 1967م الى 1969م، ثم التحق بقسم التخطيط والمتابعة بوزارة التربية والتعليم بمدينة طرابلس، حيث استقر هو والعائلة الكريمة.

وشارك ايضا في نشاطات فكرية وثقافية متنوعة عديدة، فقد كان محررا لمجلة الشباب”، واسس – كما ذكرنا- مجلة اليراع”، ونظم الحلقات والدروس، واشهرها التي كان ينظمها في مسجد “الفتح” بمدينة طرابلس. وساهم، بجانب ذلك، بمقالات حساسة للغاية، في عدة صحف ومجلات. وانتسب الى “الحزب الوطني”، احد الاحزاب التي كان يعمل لبناء ليبيا بعد مرحلة الغزو الايطالي، واسس جمعية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر” في مدينة “جربة”، بتونس، وغير ذلك من نشاطات متنوعة في مختلف المجالات.

اما قمة عطائه وابداعاته فتظهر في انتاجه الغزير من الكتب والبحوث والمقالات، والشعر والرسائل والمسرحيات، فقد ساهم الشيخ “علي يحي معمر” في مجال الفكر والسياسة والادب والاجتماع والتاريخ.

ويعتبر الشيخ علي يحي معمر، من افذاذ علماء الاباضية واحد اعلامها، بجانب الدكتور “عمرو خليفة النامي”، والشيخ “إبراهيم بيوض”، والشيخ “أبو اليقضان إبراهيم”، والمجاهد “سليمان الباروني”، والشيخ “أحمد الخليلي”، والشيخ “أبو اسحق إبراهيم اطفيش”.

كما عاصر شخصيات اسلامية عديدة، من بينها، على سبيل المثال لا الحصر: الاستاذ “عباس محمود العقاد”، والدكتور “عبد الحليم محمود” (الذي اصبح شيخ الازهر فيما بعد)، والاستاذ “عبد السلام هارون”.. وقد ذكرت سيرة الشيخ، في معجم للاعلام الاباضية، او ربما في اكثر من معجم.

كما اعد “بالحاج قاسم” رسالة ماجستير  بعنوان “الشيخ علي يحي معمر وفكره العقدي”، وجدت فقط عنوانها كاحد المراجع. ونشر موقع “ويكيبيدا” ايضا تعريفا عن الشيخ، كما نشرت مواقع كثيرة جدا، كتبه ومقالاته ومسيرته ومواقفه.

ودعونا، بعد ما تقدم، نتصفح معا، ما قيل في شيخنا الفاضل، وما قيل عنه، فلعلنا نضع ايدينا، من خلال ذلك، على قائمة الجرائم التي اقترفها هذا الشيخ الجليل، فيستحق ما جرى له، من قبل هذا النظام الاهوج.

تقول مجلة صوت ليبيافي مقال لها بعنوان “العالم الجليل : فضيلة الشيخ على معمر في ذمة الله” :

انتقل الى جوار ربه الشيخ “على يحي معمر”، وهو أحد علماء الجبل البارزين، وواحد من الشخصيات الجليلة الليبية، التي عُرفت بالتقوى والزهد والعمل الصالح.

فبعد خطاب القذافي الهستيري بمدينة زوارة، في الخامس عشر من ابريل من عام 1973م، الذي أسقط فيه القوانين، ودعى الى حرق الكتب وتهديم المكتبات، وحرض فيه عناصر سلطته ضد المثقفين وضد المستنيرين، وذوي المواقف الوطنية، واثناء حملة الاعتقالات بالجملة، والتي وضعت فيها سلطات القمع مئات المثقفين داخل السجون، كان الشيخ “على معمر”، احد ضحايا هذه الهجمة، فلقد داهم زبانية النظام منزل هذا الشيخ العالم الجليل، وحُمل هو وأحد انجاله، بطريقة وحشية الى السجن، حيث حلق العساكر شعر رأسه ولحيته، وحيث اخذ نصيبه من التعذيب. وقضى الشيخ فترة طويلة داخل السجن، حتى افرج عنه، بينما قدم ابنه محمد الى المحكمة، التي قضت عليه بالسجن المؤبد.

وقد تمكن ابن الشيخ بعد ذلك، من الفرار من السجن والخروج من البلاد، ومنذ ذلك الحين والشيخ “علي معمر”، يتعرض الى الملاحقات والمضايقات المتواصلة، كان اخرها الضغط عليه، وإجباره على ان يكتب مقالا يدافع فيه عن “افكار القذافي” من وجهة النظر الدينية. لم يحتمل الشيخ هذا الموقف الذي وضعه نظام القذافي فيه، فمرت به ساعات عصيبة، أصيب أثرها بنوبة قلبية اسلم بعدها روحه الى بارئها.

وتواصلصوت ليبياحديثها عن الشيخ، قائلة :

وقد اصيب رفاق الشيخ وعارفو قدره، بصدمة كبيرة لرحيله المفاجيء، وطفحت نفوس الجميع بالحزن العميق لوفاة العالم الجليل والمربي الفاضل الذي قدم لبلاده، الكثير وعانى من اجلها الكثير، على ايدي جلادي القذافي وسفاحيه.

وكان داخل السجن، ورغم فنون التعذيب والقهر والاذلال، ورغم تقدم سنه، رجلا ثابت الجنان، رابط الجأش، عظيم الشجاعة، الامر الذي كان يرفع من معنويات اخوانه المناضلين، ويزيد من صلابتهم في وجه الجلادين، ويقدم أروع الامثال على الصبر والثبات، في ساحة النضال الشجاع ضد نظام القمع والهمجية .

وجاء في مقال نشرتهمجلة الانقاذبعنوان “شخصية العدد.. فضيلة الشيخ على يحي معمر” :

انه (رحمه الله) كان شعلة من الحركة والحماس، فكان يُدرس بالمساجد ويخطب بها، وكان دارسا وباحثا ومؤلفا. رقي في اوائل الستينات، الى درجة مفتش، ثم مديرا لمعهد “جادو” للمعلمين، ولما عرف عليه المثابرة والجد والاخلاص والوفاء، عين مفتشا للغة العربية في المحافظات الغربية، ثم نائبا لمديرالتعليم في الفترة ما بين عامي 76-1969م.

وبعد الانقلاب المشؤم، نُقل (رحمه الله) الى قسم التخطيط والمتابعة بوزارة التربية والتعليم في طرابلس. فكان مصلحا ومجددا وداعيا الى العودة الى روح الاسلام الحقيقية، سواء في نقاشه لمناهج التربية والتعليم، او من خلال دروسه التي كان يلقيها بمسجد “الفتح” بطرابلس.

ولا غرابة في ان يصطدم شيخنا مع عصابة الانقلاب في اول ايامها، فتعتقله في 1973م، ليمضي قرابة العام في سجون القذافي، متعرضا خلالها لكل انواع التعذيب والهوان.. وخرج بعدها ليزيد اصراره على مبادئه التي دعى اليها.. والتي غرسها قيمة ومعنى وروحا في اولاده السبعة.. ودفع حياته ثمنا لها.. وليحمل الراية من بعده خيرة ابنائه وابناء شعبه الليبي، الذين ارتوت بدمائهم أرض ليبيا الغالية.

وكرد فعل حاقد من القذافي.. فقد داهم زبانيته بيت الشيخ في “نالوت” وهدموه.. ولم يقتصر حقدهم.. وغضبهم على ذلك.. بل امتد الى بيت من بيوت الله.. غلا وانتقاما.. حيث تعرض مسجد “الفتح” في طرابلس للتدمير.. وهو المسجد الذي دعا الشيخ “علي يحي معمر” لبنائه وساهم بالتدريس فيه.

ونجد في مقدمة كتاب “دراسات عن الاباضية”، تعريفا بمؤلف الكتاب (الدكتورعمرو خليفة النامي)، يمكننا من خلاله ان نلمس شيء من خصائص وجهود ومميزات ودور شيخنا الوقور، فقد ورد في هذا التعريف: ان نالوت كانت تتحدث عن حركة اصلاحية ونهضة اسلامية واعية يترأسها، ويدعو اليها احد ابناء نالوت الشيخ “على يحي معمر”، وسرعان ما ارتسمت صورة الشيخ “علي يحي” المهيبة، في ذاكرة الطفل (عمرو خليفة النامي) .

وكان الفتى اليافع “عمرو خليفة النامي”، يختلف الى مجلس الشيخ “علي يحي معمر”، ويسمع منه فصولا من تاريخ الفاتحين الاوائل، والمجاهدين البواسل، الذين رفعوا لواء الاسلام عاليا في هذه الربوع، ويحرك في ضميره ذكريات الرجال العظام من اسلافه الامجاد، الذين تشهد كل ذرة رمل في الجبل على منافحتهم عن الاسلام، سواء في العهدين “الاموي” ام “العباسي” ام في العصر الحديث، ضد الاستعمار “الايطالي” و”الحكم العثماني” .

وقضى “الشيخ علي يحي معمر”، حوالي عشر سنوات ينهل من معين معهد “الشباب” (ربما يكون هو نفسه معهد الحياة) على يد شيخ الحركة الاصلاحية الامام الشيخ “ابراهيم بيوض”. عاد بعدها متحمسا للنهضة والاصلاح، وبعث ما اذبلته الايام من نضارة الامجاد السالفة، وكان لابد ان ان يتأثر الشاب الذكي “عمرو خليفة النامي” بكل ما يجري حوله ويدور.

وجاء في موقع اخر من نفس المقدمة :

انه برز، في اوائل الستينات، الى عالم الفكر الاسلامي، كاتبان اباضيان، احدهما هو الشيخ “علي يحي معمر” الليبي النفوسي، والذي يعد، بمؤلفاته القيمة، من اهم الدعاة الاسلاميين الداعين الى وحدة المسلمين في هذه العقود الاخيرة .

وكان كتابه الرائد في منهجه وفحواه “الاباضية بين الفرق الاسلامية”، يصب في قناة التوحيد بين المسلمين، وجمع كلمتهم، وقد هداه فكره النير وذهنه الاسلامي الثاقب، الى وضع نظرية يعلي عليها المسلمون المعاصرون بناء وحدتهم، وعبد طريقا يسلكونه الى جمع كلمتهم، ولم شملهم، وقد لخص هذه النظرية في المباديء الثلاثة: المعرفة، التعارف، الاعتراف .

ويضيف الدكتور “محمد صالح ناصر” في مقال له بعنوان “الشيخ علي يحي معمر.. مؤرخ.. أديب.. وداعية”:

عرفته الأندية الأدبية في “القرارة” بقصائده الشعرية، وأناشيده الرائعة الخالدة، وميوله الأدبية الواعدة، وشارك بفعالية في جمعياتها الثقافية، وجلساتها الفكرية.. وكان من حسن حظ الشيخ، أن يعيش الفترة التي فرضت فيها الإقامة الجبرية على الشيخ “بيوض” من قبل الاستعمار الفرنسي (1940-1943م)، وكانت الحرب العالمية الثانية سببا في أن يبقى الطالب الشيخ إلى جانب أستاذه ينهل من معارفه ويستفيد من تجاربه.

ونظرا لمواهبه الفذة وقدراته المتنوعة، ولا سيما في ميداني الشريعة والأدب، أسند إليه الشيخ “بيوض” تدريس بعض المواد في معهد “الشباب”، حيث بقي سبع سنوات، كانت من أحفل سنوات عمره استفادة وعطاء.. كما اشتهر بأسلوبه المتميز بالنسبة لمنهجه الاسلامي في كتابة التاريخ.. فقد جمع اسلوبه بين الإثارة والبساطة، وبين مخاطبة العقول والقلوب بطريقة جذابة ساحرة.

ويواصل الدكتور ” محمد صالح ناصرحديثه قائلا:

وهو من ألمع الكتاب الإسلاميين في العصر الحديث، دعوة إلى الوحدة الإسلامية، بما وهبه الله من عقل نير، وبصيرة نافذة، وقلب مؤمن يسع المؤمنين جميعا.. كما ان اليد البيضاء التي قدمها الشيخ علي معمر، لن يستطيع تقديرها، إلا من اطلع على الجهد العظيم الذي بذله في مؤلفاته للتقريب بين وجهات نظر المسلمين.

ويقول الدكتور “محمد موسى“:

جمع الأستاذ “علي يحي معمر” إلى تواضعه وغزارة علمه، صفات عديدة، ولعل أبرزها بعد النظر وسعة الأفق، فنجده في جميع أعماله، يدعو إلى وحدة صف المسلمين، ونبذ الخلافات الجزئية.

وقيل عن كتابالإباضية بين الفرق الإسلامية“:

انه محاولة جادة لوضع المذهب الإباضي في مكانه الحقيقي من الأمة الإسلامية، ومحاولة من المؤلف لتصحيح بعض الأخطاء التي توارثتها الأجيال عن المذهب الإباضي، فجعلته في قفص الاتهام.

إذ يتتبع المؤلف كتاب المقالات، من القدماء والمعاصرين والمستشرقين، ثم يبين حقيقة فرق الإباضية، وآرائهم الفقهية، ومسائلهم العقدية، ومواقفهم السياسية، محاولا رأب الصدع في بناء الأمة الإسلامية، بوضع لبنة التقارب بين المذاهب.

اما موقع “ليبيا المنارة” فقد نظم ندوة، بعنوان الشيخ “علي يحي معمر.. سيرته وعطاؤه الفكري والتربوي والاباضي في ميزان النقد والتحليل”.

وذلك بمناسبة الذكرى الرابعة والعشرين على رحيل الشيخ. وقد جاءت صيغة الدعوة الى هذه الندوة، كالتالي:

رحل الشيخ عنا، وهو في الواحدة والستين من عمره، ملأها علما ومعرفة، وبحثا وتنقيبا، وفكراً وتربية وتعليما، وجاهد خلالها بقلمه ومداد حبره، من اجل وطنه الحبيب ليبيا، وضحى بنفسه وأبنائه وأسرته، من أجل كرامة وعزة شعبه، وتمنى الشهادة في سبيله، فساقها الله عز وجل، لثلاثة من أبنائه الأسود “محمد” و”خالد” و”يحي”.

وتواصل ” ليبيا المنارة” قائلة في نفس الدعوة :

ان الشيخ “علي يحي معمر”، هو الشيخ الذي يهمس الناس بذكراه في ليبيا، كلما هب نسيم ترحاله، وتعتقل كتبه، ويسجن مقتنيها، وهو الشيخ الذي بكته الكتب والقراطيس والأقلام والمنابر والفقه والكلم، وهو الشيخ الذي ترك لنا موروثا دينيا وفكريا ومذهبيا وحركيا، يستحق منا اليوم أن نقف على ضفاف نهره نعيد القراءة فيه من جديد .

ذلك بعض ما قيل في الشيخ وبعض ما قيل عنه، ولعل الوقت قد حان لنطلع على بعض اقواله، فقد نجد فيها ما يبرر جرائم النظام.

فيقول الشيخ متحدثا عن المذهبية :

إن المذهبية في الأمة الإسلامية لا تتحطم بالقوة، ولا تتحطم بالحجة، ولا تتحطم بالقانون، فإن هذه الوسائل لا تزيدها إلا شدة في التعصب وقوة في رد الفعل، وإنما تتحطم المذهبية بالمعرفة، والتعارف والاعتراف، فبالمعرفة يفهم كل واحد ما يتمسك به الآخرون، ولماذا يتمسكون به، وبالتعارف يشتركون في السلوك والأداء الجماعي للعبادات، وبالاعتراف يتقبل كل واحد منهم، مسلك الآخر برضى، ويعطيه مثل الحق الذي يعطيه لنفسه .

ويقول عن التاريخ:

أما الصورة الأخرى التي يكون فيها تاريخ الدولة هو تاريخ الأمة، فذلك عندما تكون الأداة الحاكمة خاضعة لقانون الأمة وشوراها، فلا تصدر إلا عن رأيها، ولا تمتاز بشيء عن أي فرد منها، وفي الفتوح الإسلامية، زمن الخلافة الرشيدة أمثلة واضحة لذلك. إن تاريخ الدولة في ذلك الحين، هو نفسه تاريخ الأمة، وذلك لأن ما يصدر عن الدولة هو ما يصدر عن الأمة، راضية به راغبة فيه

ويقول عن مفهوم “الوطن”.. في مقال له بعنوان “الوطن الاسلامي” :

إنني أعتبر الأرض الإسلامية وطناً واحداً بحدوده الشاسعة، وعندما أضطر إلى تتبع التقسيمات السياسية الموجودة الآن، أحس بالمرارة والألم، ولقد كان تاريخ الأمة الإسلامية في عصوره المختلفة، مرتبط الحوادث، متحد المشاعر، متوافق العواطف، مشتبك المصالح، متصل الأجزاء.

ورغم ما اصطنعته السياسة من حدود.. تشعر أنك تعيش في أمة واحدة ربطت بينها العقيدة، التي وجهت قلوب أفرادها جميعاً إلى الإيمان بالله، ومحبة الأخوان في الدين، وتجد التاريخ الحقيقي لهذه الأمة التي تنبسط على أكثر قارات العالم، في وحدة الشعور والعاطفة والعقيدة والأمل، وفي طريقة التفكير والكفاح والعمل، وفي الاتجاه الذي يتجه إليه الأفراد والجماعات، وفي عدم اعتراف هذه الأمة بالحدود التي تفصلها عن بعضها .

ويقول عن “الحاكم” في كتابه “آلهة من حلوى” :

وعندما يعرف الحاكم أنه عبد الله وليس إلهاً، وإنه يستوي في تلك العبودية مع أي فرد من أفراد شعبه، وأنه مخلوق من لحم ودم وليس من حلوى، وأنه ينبغي أن يتبع منهجا واضحاً وضعه عالم الغيب والشهادة، وأنه ليس مبتدعاً ولا خلاقاً ولا مبتكراً ولا آتياً بالمعجزات، وإنما هو منفذ فقط، وأن ما ينسبه الناس إليه من ذلك، إنما هم يكذبون فيه، ويعرفون أنهم يكذبون، كما يعرف هو نفسه، أنهم يكذبون.

ويقول عن “الحرية” في فصل “المعركة المفتعلة” من نفس الكتاب :

لا شك ان الله عندما خلق الإنسان، أنعم عليه بالحرية، في جملة النعم الكثيرة التي أغدقها عليه، ولكن تلك الحرية التي أنعم الله بها على الإنسان – ذكراً كان أو أنثى – إنما كان مراعى فيها – بطبيعة الحال- حدوداً معينة لا يصح تجاوزها، فليس من حق الإنسان أن يدَّعي باسم الحرية مطلقية التصرف، ليس من حريته أن ينكر النعم التي أسبغت عليه، ويتوجه بالشكر إلى من لم يقدمها له، وليس من حريته أن يقدم طاعته لمن لا يستحق منه الطاعة، وليس من حريته أن يعبث فيما يقتضيه نظام الحياة، وناموس الكون، وسبب العمران، وليس من حريته أن يطيع الشيطان، أو يعبد الأوثان، أو يزهق الأرواح، حتى روح نفسه.

وهكذا.. يمكننا بعد هذه الرحلة ان نستعرض قائمة الجرائم التي قام بها الشيخ “علي يحي معمر“:

فالشيخ استاذا وصديقا ومقربا للدكتور “عمرو خليفة النامي”، العملاق الحاضر دوما، والشيخ هو والد الشهيد “محمد” الذي هرب من سجون النظام، ثم قارعه في عقر داره، وهو والد لاثنين من الشهداء، قدموا انفسهم فداء للاسلام والوطن.

والشيخ مارس مهنة التدريس، وحرر واسس المجلات، وانشأ المدارس والمعاهد والجمعيات، وكتب الرسائل والمسرحيات والمقالات، واعد البحوث، والف الكتب، ونظم القصائد، والدروس والحلقات. فشيخنا الوقور.. دارسا وباحثا ومؤلفا.. ومعلما ومديرا ومفتشا.. ومصلحا وداعيا ومجددا.. وعلما في الفقه.. واديبا وشاعرا وموجها. وهو رجل.. بعيد النظر.. واسع الافق.. ذو اسلوب سهل متميز بديع. لكن اكبر جرائم الشيخ تتمثل في حبه لامته الاسلامية، فهو من احد رواد الدعوة الى وحدة المسلمين، ونبذ الفرقة، والخلاف بينهم.

من اجل ذلك.. استحق الشيخ غضب الثورة والثوار، واستحق ان يسجن مع ابنه في نفس الزنزانة، امعانا في الاذلال والاهانة.. واستحق ان يُقتحم بيته.. ثم يهدم فيما بعد.. وان يحلق شعر رأسه.. ولحيته.. وان يضيق عليه.. وان تحرق كذلك مكتبته.

فنظامنا.. وما ادراك ما نظامنا.. عدو الابداع والمبدعين.. وعدو لمن يحمل فكرة او رأيا او طموحا.. نظامنا يخاف.. ممن يحبه الناس.. وممن يستمع اليه الناس.. وممن يحبون الخير للناس.. يخاف ممن يقول كلمة الحق.. يخاف من الذين يحبون الاسلام والامة والوطن.. يخاف من الحرية.. وممن يدعون اليها.. يخاف من المجدين.. المثابرين.. الجادين.. يخاف ممن لا يخشون في الله.. لومة لائم.. نظامنا.. وباختصار.. شديد.. عدو للبشر.

لذلك كان رجل في مكانة ومقدرة وكفاءة واخلاص وجد ومثابرة وطموح الشيخ “علي يحي معمر”، ضحية لهذا النظام العبثي الفوضوي الجبان.

اما الشيخ “علي يحي معمر”، فقد ترك فكرا.. وعلما.. وتراثا.. ثم.. زين كل ذلك بدماء.. شهداء ثلاثة.. الواحد منهم.. بامة.. فبارك الله لك جهودك.. وجزاك الله.. عنا.. وعن الاسلام.. والامة.. والوطن.. كل خير.. فقد بلغت.. واعطيت.. وابدعت.. ووفيت.. وقدرك ومكانتك وعلمك.. في النفوس والقلوب.. وإنا لله وإنا اليه راجعون.. ولن يرضى وطن.. انت احد رجاله.. ان يُستعبد.. او يرزخ.. او يستكين.. لطغاة الارض جميعا . والله ولي التوفيق.

_________________

المصدر: كتاب “جذور الصراع في ليبيا” لمؤلفه الدكتور فتحي الفاضلي

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *