بقلم:  الأستاذ محمود محمد الناكوع

 مثقف واسع الاطلاع تخرج من كامبردج عام 1971م وعاد إلى بلاده داعية للحرية ومنافحا عن الثقافة الإسلامية. لكنه سرعان ما ذاق كلفة اختياراته، وتنقل بين السجون والمنافي، وحتى عندما هجر التدريس جملة واحدة وعاد إلى قريته راعيا للاغنام، لاحقته الأجهزة وضاع خبره عندها منذ 1986م، فلا أحد يعرف مكانه أو مصيره.. وهذه لفتة وفاء لكاتب كريم وشاعر حالم، وخاطرة أمل بأن يذوق طعم الحرية من جديد.

عندما أنهى الدكتور عمرو النامي دراسته في جامعة كامبردج سنة 1971م كان يحلم بمكانة مرموقة في الجامعة الليبية. وهو حلم يتناسب مع قدراته العلمية، ومواهبه الفنية، وتطلعاته الفكرية. انه مثقف واسع الاطلاع، متنوع القراءات. ويتمتع بذكاء أهله إلى درجة المتفوقين – في الدراسات الأدبية في كلية الآداب والتربية، الجامعة الليبية، ومقرها مدينة بنغازين سنة 1962م

. ووقع اختياره لبعثة دراسية لاستكمال الدارسات العليا.. كانت الجامعة الليبية في تلك السنوات في بداية عمرها الذهبي، إذ افتتحت أول جامعة ليبية في زمن الاستقلال سنة 1955م. (استقلت ليبيا سنة 1951م). و أهدى الملك إدريس قصره المتواضع، واسمه “قصر المنار” ليكون منارة لطلاب الدراسات الجامعية. ومن حسن الحظ، وحسن السياسة تمكنت الجامعة في عقدي الخمسينات والستينات من الاتفاق مع عدد من الأستاذة الجامعيين اللامعين وجلهم من جامعتي القاهرة، والإسكندرية. وكان بينهم الأستاذ الدكتور محمد محمد حسين، أستاذ الأدب العربي الحديث. وهو شخصية مثيرة، بأسلوبه النقدي، وبتمسكه ببعض القديم بما في ذلك “طربوشه” الذي يميزه عن سائر المدرسين الآخرين.

الأستاذ وتلميذه

كان الدكتور محمد محمد حسين شديد الإعجاب بذكاء عمرو النامي، فاهتم به وشجعه على المضي في طريق البحث والدراسة حتى يصبح يوما ما أستاذا جامعيا. وجمعت بين الأستاذ وتلميذه رابطة المنطلق والتوجه الإسلامي.. ومن الصدف الطريفة إن قسم اللغة العربية في تلك السنوات (1959-1962) جمع بين ثلاثة من الطلاب الأذكياء، وهم عمرو النامي، ومصطفى الهنقاري، وصادق النيهوم. وفي حين جمعت الصدفة بينهم في الدراسة، فقد كان لكل واحد منهم شخصيته الثقافية، وسلوكه الاجتماعين واختياره الفكري، وتباعدت بينهم الآراء والمعايير والمواقف حتى انعكست في أعمالهم الأدبية والنقدية، والتي سنذكرها فيما بعد، وبالتحديد بين عمرو النامي، وصادق النيهوم.

أحداث اعتقالات ” الإخوان” وخروج النامي من مصر

في سنة 1962م اكمل عمرو النامي تعليمه الجامعي في ليبيا، وبدأ يستعد لمرحلة الدراسات العليا. وتوجه في بداية الأمر نحو مصر، وبينما كان في تلك المرحلة وقعت أحداث 1965م وهي أحداث اعتقالات ” الإخوان” ومن بينهم محمد قطب وسيد . ونظرا لان عمرو النامي يقع في نفس الدائرة من حيث التوجه الفكري، وخشية من أن تمتد إليه يد الاعتقال ترك مصر، وترك شأن الدراسات العليا بها، وعاد إلى ليبيا لبعض الوقت، واستطاع إن يقنع إدارة الجامعة الليبية بتغيير مكان الدراسة من مصر إلى بريطانيا. وكان مدير الجامعة في ذلك الوقت المرحوم الأستاذ مصطفى بعيّو الذي قدر ظروف عمرو النامي، ووافق على إجراءات التغيير.

غربة والدكتوراه

في بريطانيا، وفي جامعة كامبردج قضي عمرو قرابة خمس سنوات كان حصادها التعليمي درجة الدكتوراه في الدراسات: ” العربية والإسلامية” وحصادها العام ثقافة واسعة، وتجربة حضارية، وعلاقات متنوعة مع أهل العلم والفكر ورواد الحركات الإسلامية من مختلف الأجناس واللغات والقارات. بينما كان عمرو النامي في غربته تلك من اجل العلم والدراسة (1967-1971م) كان يتابع أخبار الوطن وما يجري فيه من تفاعلات ثقافية وسياسية. وظل يرصد بعض ما تنشره الصحف الليبية من مقالات فكرية و أدبية، أو ما تنشره من شعر. ولا يفوته إن يقيمها، وان عبر عن موقفه من اتجاهاتها وما تعكسه من دلالات لا يرضى عنها في بعض الأوقات، وفي بعض ذلك الإنتاج.

النامي يكتب من الغربة

كنت أنا في تلك السنوات صحافيا في صحيفة “العلم” اكتب عادة عمودا يوميا. واكتب أحيانا مقالات في بعض الصحف والمجلات الأخرى، بعضها حكومية، وبعضها مستقلة. ونظرا لعلاقة الصداقة بيني وبين عمرو النامي، ونظرا لاهتماماتنا بالفكر والثقافة، وحواراتنا المتواصلة أحيانا، والمتقطعة أحيانا أخرى منذ كنا في الجامعة، فقد اتفقنا ان يكتب مقالات تنشر بصحيفة “العلم” ويمكن وصف عقد الستينات بالعصر الذهبي للصحافة الليبية، وحرية التعبير على صفحاتها، ما كان مها ناطقا باسم الدولة، او ما كان منها قطاعا خاصا، وغالبا يعيش بدعم من الدولة.

فصول من الجد الهازل

نشرت صحيفة “العلم” ما بين سنة 1968-1969م عددا من المقالات النقدية لعمرو النامي. كانت تدور حول: “الحضارة الغربية وموقفها من الإسلام والعالم الإسلامي”. “الشعر الحديث” نماذج ليبية، واختار لها عنوان “فصول من الجد الهازل” وعكست نقدا ساخرا ولاذعا لبعض الإنتاج الشعري الليبي الذل انفات من موازين الشعر العربي، وانفلت من ثقافة وقيم وصور البيئة العربية الإسلامية، وكثرت فيه على حد إشارات النامي “النواقيس” و “الصلبان وأشياء اخرى، وهي ثقافة تعلمها الشبان الليبيون من مجلات: الطليعة والكاتب والداب البيروتية.. وغيرهم. إما المقالات التي أثارت دويا هائلا في تلك الأيام، فهي المقالات التي أنشأها عمرو النامي بعنوان “رمز ام غمز في القرآن” وفيها رد على كتابات للصادق النيهوم، والتي نشرها في صحيفة الحقيقة. ونشر بعضها الآخر في صحيفة الرائد وكانت عن “الرمز في القرآن” ومن أكثرها جدلا مقالته بعنوان “إلى متى يظل المسيح بدون أب” حيث أحدثت ردود أفعال في عدة دوائر دينية وصحافية و أدبية.

ومن بين ردود الفعل تلك كانت مقالة عمرو النامي التي أرسلها من مدينة كامبردج ونشرت بـ”العلم” بتاريخ 18/4/1969م وجاء فيها: “ولو إنني اعرف الصادق النيهوم جيدا لكتبت غير هذا عن هذا الامر، فانا اعرف الصادق شخصا لا ينطلق من أسس واضحة فيما يفعل أو يكتب، وهو يصنع ذلك استجابة لما يقرأ او يطرأ عليه من أحوال تكتنف حياته التي لا يحكمها تصور واضح للحياة، أو سلوك ثابت محدود. ولذلك فعندما نشر بعض فصوله عن الرمز في القرآن، حسبت ذلك على ما قدمته من أحواله. وقلت نوبة ستمضي بما جاءت، وهو شئ غير ذي قيمة في الواقع لا من ناحية الجهل والدراسة والبحث العلمي السليم، ولا من حيث آثاره ونتائجه”. وكشف النامي أن ما يردده النيهوم قد سبقه إليه الباطنية نظريا وتطبيقيا. ولعله من المناسب ان نلاحظ إن النيهوم الذي يكتب مقالات في مجلة “الناقد” ما يزال يستخدم نفس الأسلوب، ونفس العناوين الاستفزازية فيما يصدر عنه من آراء بشأن قضايا الفكر الإسلامي.

ويبدو ان جو كامبردج، ومناخها الأكاديمي قد أشاع الاطمئنان والارتياح عند الدكتور عمرو النامي. فعندما حدث التغيير في ليبيا في 1/9/1969م، وانتهى النظام الملكي، وحل محله النظام الجمهوري كتب مقالة بعنوان: ” كلمات للثورة” نشرت بصحيفة “الثورة” في 14/11/1969م. ووضع فيها مبررات الثورة، ومهمة الجيش، وهي مهمة استثنائية ضرورية محدودة، يعقبها تسليم السلطة إلى الشعب، وهو الذي يختار أسلوب حياته السياسي والاجتماعي في الفترة القادمة.

وتناولت المقالة الاتجاهات الفكرية السياسية القائمة في البلاد في ذلك الوقت ورتبها في الشكل الآتي: 1- القوميون العرب، 2- البعثيون، 3- الناصيرون، 4- الشيوعيون، 5- الإسلاميون.

ووصفها بأنها تجمعات عقائدية ولذلك حسب تعبيره”فغالب الظن إنها لن تتخلى عن اتجاهاتها القائمة بل ستستمر في ارتباطها بهذه الاتجاهات والدعوة اليها، ونحن نعتقد ان لها جميعا حقا كاملا في اعتناق أفكارها وعرضها في نطاق الأخلاق العامة للشعب، بعيد عن التراشق بالتهم والكذب والإرجاف.. ويجب ان تتاح الفرصة الكاملة لهذه التجمعات للتعبير عن أفكارها وعرضها بكل الصور المشروعة التي تختارها. كما يجب الاستفادة من خبرات هذه الفئات جميعا على النطاق الفردي في الجهاز الإداري للدولة مع تجنب تمكين أي فئة منها من كل المراكز الحيوية التي تجعلها تستغل مرافق الدولة في سبيل أهدافها الخاصة”.

كما تحدث في مقالته الطويلة عن الثورة والإسلام، وأكد ان الإسلام هو الأصل وهو الأساس في أحداث الإصلاح المنشود في ليبيا. فلا توجد في ليبيا عقيدة غير عقيدة الإسلام. في صيف عام 1971م حزم الدكتور عمرو النامي كتبه أمتعته وعاد الى وطنه ليبيا ليحقق حلمه وليقف على منابر الفكر والعلم كاتبا وشاعرا واستاذا جامعيا. وبدل ان تفتح امامه ابواب هذه المنابر، استقبلته مراكز الشرطةن وغرف التحقيقن ومنها الى المعتقل. وجاء اول اعتقال كحالة انذار وتحذير ولم تستغرق مدته الا بضعة ايام، واستأنف حياته العادية، وبدأ نشاطه كأستاذ في الجامعة في بنغازي ثم نقل إلى طرابلس. وعندما جرت الاعتقالات الموسعة سنة 1973م تحت شعارات: “الثورة الثقافية” “من تحزب خان” “الثورة الادارية” كان عمرو النامي، واحدا من مثات المعتقلين من المثقفين والطلبة. وكنت انا احد المعتقلين في السجن الذي دام قرابة سنتين..ز وبعد الافراج عنان طلب من الدكتور عمرو النامي ان يغادر البلاد، واعطي حق اختيار منفاه في اليابان، أو اميركا اللاتينية، او افريقيا. فاتجه اولا الى الولايات المتحدة لتدريس اللغة العربية والاسلام في جامعة اميركية. ثم طلب منه الذهاب الى اليابان في سنة 1979م وفيها انشد يقول:

ودّعت دارك رغم الشوق للدار والدار ذات احاديث واخبار
يا دار امسيت بالاحزان غامرة تهدى همومك من دار الى دار
نفس الفداء لارض عشت محنتها ثم ارتحلت وحيدا غير مختار
مبدد الحول لا زاد ولا امل الاعلالات افكار واشعار
انّى ارتحلت فان القلب يعطفني الى الأحبة في شوق واصرار
بالامس كنت عرين المجد يا وطني وتدرج الفضل في سهل واوعار
رفعت الوية للفخر عالية وصغت اثار مجد أي أثار
وامهرت ارضك الابطال من دمها تسخو به بين انجاد واغوار
واليوم لاشيء غير الحزن يا وطني وغير أنات اطيار لأطيار

لانه شديد الحب لوطنه ولاهله ولمرابع طفولته وشبابه وذكرياته لم يطق حياة الاغتراب، وغلبته جاذبية الوطن، فعاد الى ليبيا قبل ان يدور العام دورته. وقرر ان يهجر العلم والتدريس وان يترك المدن الكبيرة وان يتحول من مهنة التدريس إلى مهنة رعي الأغنام لعل ذلك يجعل سدا بينه وبين “منكرات السياية”.. وكان جادا في هذا الاتجاه، واشترى قطيعا من الأغنام، وذهب إلى ظاهر “نالوت” مسقط رأسه، ومقر أسرته و أهله. وفي قصيدة في هذا الموضوع يقول:

يكفي أباك لكي يعيش مكرما عجفاء ثاغية وتيس اجرب
جيراننا وحش الفلاة فلا يرى وهناك لا نخشى سوى ذئب الفضا
والوحش وحش لا يلام لبطشه فلقد نعيش هناك عيشة هانئ
ونعيش في قنن الجبال تظلنا ويحيطنا بالحفظ قفر سبسب
فيها سوى سبع يسيح وثعلب يعدو على تلك الشياه فينهب
هو في طبيعته يغير ويغضب ولقد يسالمنا الشجاع المرعب

لم يتمكن الشاعر، والأستاذ الجامعي من تحقيق أمنيته، ومن إنجاز مشروعه، وليعيش حرا عزيزا كريما كما تطلعت نفسه. وفوجئ مرة ثالثة بأبواب السجن تفتح أمامه سنة 1981م انقطعت اخباره عن اهله واصدقائه. ولا يعرف مصيره حتى الآن.

عرفت عمرو النامي يوم كنا في مرحلة الدراسة الإعدادية الثانوية بمدينة غريان. وجمعت بيننا مرحلة الدراسة الجامعية في بنغازي. وتوثقت علاقتنا بروابط العقيدة والفكرة والوجهة الإسلامية الواحدة. وعشنا محنة السجن معا في سنة 1973-1974م. وعرفت فيه الذكاء، والإيمان العميق، والشجاعة، وصلابة الموقف. والرجل كان فعلا يريد ان يعتني بوالديه، وان يعيش بعيدا عن السياسة ومآسيها، وهو يدرك تماما الأبعاد الدولية للصراع في المنطقة.. ولكن يبدو انه لم يفهم من قبل الأجهزة في ليبيا. ودفع ثمن حسن نواياه. كما دفع نفس الثمن كثيرون آخرون. ان الدكتور عمرو خليفة النامي مثل للإنسان المثقف الجاد، وشديد الإخلاص لوطنه و أمته.

ولو كانت السلطة السياسية تتصرف بمنطق العقل والحكمة والنظر البعيد لما وقفت منهم موقف المطاردة والملاحقة والاعتقال. بعد ان أكد انه لا ينوي الانخراط في حركة معارضة. واختار ان يتفرغ للعلم والتدريس أولا، ثم بعد ان حيل بينه وبين ذلك اختار ان يعيش في عزلة يرعى شويهاته في أرض ليبيا الواسعة.. ولكن يبدوا ان ليبيا صارت ضيقة‍‍

لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها    ولكن أخلاق الرجال تضيق

هذه خطرات في سيرة رجل ارتبط بالفكر والثقافة،و كانت له مواقفه الصارمة التي لا تقبل الاحتواء، وان قبلت الانزواء في وديان وشعاب نالوت..كان عمرو النامي كاتبا وناقدا ومحاضرا وشاعرا. وخلال سنوات الاعتقال كتب عشرات القصائد. وألف في السجن(1973-1974م) كتابه الوحيد “ظاهرة النفاق في إطار الموازين السلامية” وصدرت طبعته الأولى سنة 1979م.. وشاءت الأقدار أن يغيب عن مسرح الحياة الثقافية في ليبيا، قبل أن ينجز إعماله الفكرية، بل شاءت الأقدار أن يغيب عن الأنظار والأسماع منذ سنة 1986م. والسؤال المطروح: أين الدكتور عمرو النامي؟

—————–
المصدر:  موقع الاستاذ محمود محمد الناكوع

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *