“إنني أعلم أنكم معنا تستمعون الان الى ما أقول، فارجو كتابة ذلك عني: أن السنة تعتبر أصل من أصول التشريع، وأن منكرها كافر، وأنني لا اخافكم، ولا أهابكم، ولا أخشى في الله لومة لائم، وإنني اتحداكم، من على هذا المنبر، جميعكم، وبدون استثناء

***

اقتحمت مجموعة مسلحة من افراد الامن واللجان الثورية والمخابرات مسجد القصربطرابلس، والقت القبض على إمام المسجد الشيخ الجليل محمد عبد السلام البشتي، والذي اُخرج من المسجد بالقوة، مجرورا من لحيته، ثم حُمل، وقد بلغ من العمرعتياً (80 عاما ويزيد) مضروباً هو وباقي المصلين، الى مقر اللجنة الثورية في احد احياء مدينة طرابلس، يرجح انها مثابة اللجنة الثورية بشارع الزاوية. كان ذلك يوم الجمعة الموافق 21 نوفمبر 1980م، وبالتحديد بعد الانتهاء من صلاة العصر، وانتقال الشيخ الى خلوة المسجد. واعتدوا، بالاضافة الى الشيخ، بالضرب على جميع المصلين، بما في ذلك احد الشباب الذي كان يساعد الشيخ الجليل، من حين الى اخر.

ثم اتسعت دائرة الضرب والقبض، فشملت تلاميذ الشيخ، بل وكل من كان يتردد على المسجد. وعقدت للشيخ داخل السجن، وبين وجبات التعذيب، ندوة تنازل، حضرها بعض الشخصيات المحسوبة على هنا وهناكلم تسفر الا على اصرار الشيخ على مبادئه، بالرغم مما تعرض له، ولا يزال مصير الشيخ مجهولاً، وإن كانت الاخبار ترجح استشهاده.

وشيخنا الفاضل هو الشيخ الجليل العالم المجاهد محمد عبد السلام البشتيولد في اواخر العشرينات بمدينة الزاوية، وتخرج من كلية الشريعة بالبيضاء، ورحل الى مصر لمواصلة دراسته ثم فضل ان يعود الى ليبيا. والشيخ متزوج وله احد عشر طفلاً.

كان افراد الحملة الاستراتيجية العظمى، في اعلى حالات الاستنفار والتحفز والاستعداد والترقب والحماس، فقد اقفلوا جميع المنافذ المؤدية الى المسجد، بما في ذلك بالطبع الشارع المنكوب الذي يقع فيه المسجد. بل حاصروا المنطقة باكملها.

وكانت الحملة مزودة بشتى انواع الاسلحة الخفيفة والمتوسطة، ومزودة، كذلك، بمختلف وسائل الاتصال بين افراد الحملة، ومركز ادارة المعركة ضد المصلين. ووسائل اتصال اخرى بينهم وبين مركز القيادة العليا، وبالطبع كانت الحملة مزودة، بالاضافة الى كل ذلك، بقافلة من السيارات، من كل حجم ونوع ولون. وعندما حانت ساعة الصفر الرهيبة، اقتحمت الحملة، بيت الله، وسط دهشة واستغراب المصلين، واغلبهم، من عابري السبيل، الذين ادوا الصلاة في مسجد القصر لاول مرة في حياتهم.

وهكذا، اقتحم النظام الليبي، بيت من بيوت الله، في حركة اعلامية سينمائية درامية رديئة، اريد بها، دون جدوى، تركيع ليبيا من جهة، وفرض ارهاب الدولة من جهة اخرى.

اما عن قادة وابطال هذه العملية..

فقد اوردت مجلة المسلمقائمة باسماء بعض العقولالمدبرة، والعضلات المنفذة، لهذه العملية التاريخية” “الرهيبة، ضمت كل من: النقيب بشير احميدة، والنقيب محمد المجدوب، وموفق السراج، وعلي فارس، وادريس الطويل، وموسى الزلوم، والنقيب سعد (يدعي في ذلك الوقت انه طالب في كلية التربية)، وعلي الراجلي، وعلي شتوان، وزيدان (طالب في كلية النفط)، ومحمد اللموش، ونصر المبروك، وفتحي الشواشي، وعلى زكري، ومعتوق محمد معتوق، بالاضافة الى بعض طلبة الجامعة من اعضاء اللجان الثورية.

كما اورد موقع ليبيون من اجل العدالةضمن القائمة السوداءالتي نشرها الموقع، عدة اسماء تورط اصحابها في هذه الحادثة، إما بالوشاية والتعذيب او بالقبض والقتل والتحقيق، وهؤلاء هم: حمد محمد الشريف السويني (اللجان الثورية، المؤتمر الشعبي بحي الاندلس)، واسماعيل الكرامي عقيد (الامن الداخليقسم المعلوماتمكتب الاتصال)، وير الميدة (هكذا ورد الاسم اللجان الثورية)، وجمعة بيوك (اللجان الثورية طرابلسمتورط في جريمة اعدام الشهيد كعبار احد تلاميذ الشيخ)، وسالم المشاي (متورط في جريمة اعدام الشهيدين كعبار والمدني وهم من تلاميذ الشيخ)، وعبد الحميد الكميشي (اللجان الثوريةمجموعة التعذيب)، وعلى الشريف التاجوري (اللجان الثورية)، وعلى فارس (اللجان الثورية)، وعمار عبد الحميد احتيوش ( لجان ثوريةامين العدل بالزاوية)، ومحمد على زيدان المدني البوعيشي.

كما اضافت مجلة الانقاذ، في عددها الخاص بحقوق الانسان في ليبيا، عبد السلام الزادمة، كاحد الذين ساهموا في تعذيب رواد المسجد والشيخ وتلاميذه. وهذا بالاضافة الى العشرات الذين شاركوا في هذه العملية. لقد كان النظام برمته متورطا في هذه الجريمة النكراء، بما فيهم رأس النظام، معمر، والذي شوهد في المسجد اثناء احد دروس الشيخ او احدى خطبه متخفيا.

اما لماذا تم ذلك الاقتحام البطولي.. ولماذا الشيخ محمد البشتي بالذات..

فلقد وقف الشيخ محمد البشتي إمام مسجد القصرمدافعاُ عن السنة النبوية الشريفة.. جهاراً.. نهاراًً.. بصورة فيها من القوة والصراحة.. ما لم تعهده ليبيا في ظل النظام القائم، حتى ارتبط اسم هذا الشيخ بـمعركة السنة في ليبيا“. تماماً.. كما ارتبط.. اسم الامام احمد ابن حنبل.. رضي الله عنه.. بمعركة خلق القرآن. فالشيخ محمد البشتي هو ابن حنبل ليبيا“.

يقول الشيخ الجليل عن هذه المحنة “.. إننا نعيش الان فتنة إنكار السنة التي هي اخطر من فتنة خلق القرآن، وكان يوجد يومها علماء أعلام عاملون مجاهدون تصدوا للفتنة ومثيريها فبينوا الزيف وردوا على الضلال، اما اليوم، فأين الرجال..”.

وعندما اتهم الشيخ بالحزبية، رد قائلاُ لسنا حزبيين ولا نعرف ما هي الاحزاب بالمعنى الذي يعنون، انما يبشرنا الله سبحانه وتعالى بأن حزب الله هم الغالبون وهم المفلحون ونحن لا نعرف سوى هذا الحزب..”.

ودأب الشيخ الجليل على معارضة قرارات السلطة التي خالفت الاسلام وتعاليمه، وخالفت السنة النبوية الشريفة، في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. كما دأب الشيخ على تحذير الشعب من مغبة هذه القرارات، ومغبة هذه الرؤى، داعياً الناس الى التمسك بسنة الرسول الكريم، واحاديثه الشريفة، وداعياً الى إستنكار ومقاومة ونبذ الاراء الشاذة التي ابتدعها النظام الليبي عن السنة الشريفة.

حدث ذلك بينما كانت السلطة، مثمثلة في اجهزة النظام، من اعلام ولجان ثورية، وامن ومخابرات وقادة وقيادة، تشن أكبر حملة تضليل ضد السنة النبوية بصفة خاصة، وضد الاسلام بصفة عامة. وقد شملت تلك الحملة ما تيسر من سخرية، وانكار، وتهكم، وتكذيب، وهجوم، واستهزاء، بالكلمة والصورة والرسم الساخر، والنكتة السمجة المملة الوقحة، التي لا تخدم إلا اعداء هذا الدين الحنيف.

وحدث ذلك ايضاً، اي صدع الشيخ الجليل بما صدع به، بينما كان النظام في قمة طغيانه وعنجهيته، فقد كانت ليبيا تعيش اقصى درجات الارهاب، مع غياب الضغط النسبي على النظام، من الداخل والخارج، وغياب منظمات ولجان حقوق الانسان، وغياب التغطية الاعلامية، بصفة عامة، فلا انترنت، ولا فضائيات، ولا مفاوضات، ولا ترغيب، ووعود، وترتيبات، واغراءات، بل رعب وترهيب وارهاب وتخويف.

وصدع الشيخ الجليل بما صدع به، وهو يدرك طبيعة النظام الذي كشر مبكراً، وقبل حادثة مسجد القصر بسنوات، عن انيابه، فاعدم، واغتال، وشنق، وداهم، وسحق، ومحق، وقتل، وظلم، سراً وعلانية.

وحدث ذلك ايضاً، بينما لا يفصل مسجد القصرعن المثابة الرئيسية للجان الثورية، إلا جدار المسجد نفسه. فقد كان المسجد ملحقاً بقصر الملك ادريس (رحمه الله). ذلك القصر، الذي تحول الى المقر الرئيسي للجان الثورية. كما احيط المسجد، من جميع الجهات، بمراكز الامن والشرطة والمخابرات. فالشارع المنكوب، الذي شهد تلك الاحداث، كان يعج بمؤسسات ومقار ومراكز النظام الامنية، وكان شيخنا الفاضل يدرك ذلك جيداً، ومع ذلك انطلقت كلماته مدوية، دفاعاً عن الرسول الكريم، ودفاعاً عن سنته المباركة.

ليس ذلك فحسب، بل حدث ذلك، والعديد من رجال الامن واعضاء اللجان الثورية والمخابرات، كانوا لا تفوتهم خطبة من خطب الشيخ، ولا حلقة من حلقاته، بل اخبرني احد الثقاة، ان رأس النظام، معمر، كما ذكرت، حضر احد دروس الشيخ، متخفيا. وكان الشيخ، برغم ذلك، يدعو وبحضورهم، الى مواجهة النظام والتصدي له، وكان لا يزيده حضورهم، إلا اصراراً على رسالته، فكان يردد من على منبره، واثناء خطبه، انني اعلم انكم معنا تستمعون الان الى ما اقول، (يقصد رجال المخابرات واعوان النظام واذياله) فارجو كتابة ذلك عني: ان السنة تعتبر اصل من اصول التشريع، وان منكرها كافر، وانني لا اخافكم، ولا أهابكم، ولا اخشى في الله لومة لائم، وانني اتحداكم، من على هذا المنبر، جميعكم، وبدون استثناء.

وللشيخ اشرطة مسموعة، وزعت اكثر من مرة، وفي عدة مناسبات، وفي اكثر من مؤتمر ولقاء ومدينة، ونسمع في هذه الاشرطة، صوت الحق، صريحاً، واضحاً، يدرك معه المستمع ان صاحبه، لا يخشي في الله لومة لائم. وقد حوت تلك الاشرطة، على عدة محاضرات وخطب واحاديث للشيخ، في العقيدة والفقه والعبادات، بالاضافة الى دروس وخواطر اخرى عن حرية الرأي، والعلاقة بين الدولة والمواطن. وسياتي اليوم، ان شاء الله، الذي تُفرغ او تحرر فيه محتويات هذه الاشرطة كتابة، وتُنشر للجميع حتى تعم الفائدة من جهة، وحتى يدرك القاريء طبيعة وشجاعة وجراءة الشيخ البشتي من جهة اخرى.

اما مجموعة التهم العظمى، التي اُتهم بها الشيخ، فانها اقرب الى قمة الجهل والتناقض والغباء من اي شيء اخر، فقد اتهم الشيخ الجليل بتوزيع المطبوعات التي تحتوي على الصور الخليعة، وبالتجارة في الحشيش، والانضمام الى الحزب الوهابي لقلب نظام الحكم في ليبيا!!!!!. ناهيك عن الاعترافات المزيفة التي يكتبها ضباع النظام، عن الشيخ وتلاميذه، لارضاء الوثن من جهة، ولتبرير جرائمهم من جهة اخرى.

ولا ادري هل كان الشيخ مشغولا في توزيع الصور، وبيع الحشيش، ام مشغولا في التخطيط لقلب نظام الحكم!!!.

ليس ذلك فحسب.. بل احضروا، للشهادة بذلك، شلة ممن باعوا دينهم وماتت ضمائرهم. ولم يدركوا انهم، بشهادة الزور هذه، يجدون مبررا، ولو نظريا، لجرائم النظام، ورأس النظام، بل يعتبرون شركاء في هذه الجريمة البشعة، وشركاء في غيرها من الجرائم، التي اقترفها هذا النظام ضد الوطن. بل ان طبيعة نشاط الشيخ الجليل تدل على كذبهم، فنشاطات الشيخ جميعها علنية، خطب، ودروس، وحلقات، ومحاضرات، وهي ثانيا تقام في المسجد، فهي مفتوحة للجميع. بل كان يحضرها كما ذكرنا رجال النظام بكاملهم.

فاين العمل السري!! واين الخطة الحزبية لقلب نظام الحكم!!!.

ثم ان هذه ليست الجريمة الاولى التي يرتكبها النظام ضد الرموز الاسلامية الوطنية الرائدة، فهل كان الشيخ الشهيد المبروك غيث المدهون والدكتور عمرو النامي والشهيد محمد مصطفى رمضان والشهيد محمد مهذب حفاف وغيرهم من شهداء الوطن، ينتمون الى احزاب وهابية، تخطط لاغتيال معمر، راس النظام، ولقلب نظام الحكم.

جانب اخر عجيب في حياة هذا الشيخ الفاضل وتلاميذه، لا يمكن ان نمر عليه بسهولة، وهو ان القوة والجراءة وعزة النفس التي تميز بها الشيخ البشتي، تميز بها تلاميذه ايضاً، فمواقف تلاميذه، وصمودهم وايمانهم، هي صورة طبق الاصل من مواقف وصمود وجراءة وتصميم وايمان وقوة شيخهم.

ومن تلاميذه: الشاب الشهيد لطفي امقيق، الذي اصر على ان السنة النبوية الشريفة، مصدر من مصادر التشريع.. وان منكرها.. كافر.. وكان يردد ذلك وهو معلق من يديه في الهواء اثناء التعذيب، وكانوا كلما واصلوا التعذيب، كلما ردد، وبدون توقف، ما يؤمن به من مباديء وقيم وعقائد.

ومن تلاميذه ايضاً: الشهيد محمد رشيد منصور كعبار، الذي اعتقل لنفس التهم العظمى (الدفاع عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم) وبقى في السجن لمدة اربع سنوات، يساومونه من اجل ان يتنازل عن مبادئه مقابل اطلاق سراحه، لكنه لم يتنازل.. رغم العذاب والتعذيب.. لم يتنازل.. حتى بعد ان هُدد بالشنق والقتل والذبح.. والسلخ. وشنق الشهيد.. فعلاً.. في حرم الجامعة لانه حمل فكراً يختلف عن فكر الثورةالتي جاءت لتحرر الانسان من الظلم والغبن والقهر.

لقد كان الشيخ محمد عبد السلام البشتي.. اذاً.. احمد ابن حنبل ليبيا.. وكان رجل الساعة.. ورمز المرحلة. فهنيئاً لشيخنا الفاضل.. وهنيئاً لتلاميذه.. فالرجال مواقف.. والعلماء مواقف.. والجماعات مواقف.. وانك.. يا شيخنا.. قد اعدت.. صولة احمد ابن حنبل.. واحييت.. بكلماتك.. ومواقفك.. أمة كاملة.. بل انك رجل.. بامة.. مازلت تصنع الاحداث حتى يومنا هذا.. وستصنعها.. باذن الله.. الى ان يرث الله الارض وما عليها.. ولا اقول.. إلا كما قيل فيك من قبل: لن تُخذل امة انت ابن من ابنائها.. وهنيئا لك ايها الوطن.. بمثل اولئك الرجال الاسود.. فلا نامت اعين الجبناء.

____________

المصدر: د. فتحي الفاضلي

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *