(المحرر: قدم المناضل بشير العامري، رحمه الله، هذه الورقة في سبتمبر 1993، ولذلك على القارئ أن يقرأها في سياقها التاريخي)

هذه الورقة تناولت كمحاولة لعلاج ثلاث مواضيع أساسية في أجندة المعارضة الليبية في الخارج، وهي: اولا، تقييم عقد ونصف من النضال من أجل الحرية، وثانيا، التطورات التي طرأت على أسس استراتيجية النضال، وثالثا، تصور جديد لقيادة النضال من أجل تحرير الإنسان الليبي وتمكينه من أن ينال حقوقه الطبيعية.

الجزء الرابع

نظرة في المنهج

يلتقي الناس حول مبادئ وأهداف وقيم ورسالات سماوية وبشرية آملين بل مؤمنين بتحقيق كلا الإثنين، والرخاء والرفعة لأنفسهم ولأوطانهم وللبشرية جميعا وفي سبيل تحقيق ذلك يختارون لأنفسهم استراتيجية ومنهجا. والثبات على المبادئ السياسية لا يقتضي بالضرورة الإصرار على المناهج والاستراتيجيات، فتلك سبل ووسائل لتحقيق الأهداف وتغيرها بفرضه تغيرالواقع الزماني والمكاني، والمنهج مثل الاستراتيجية يجب أن يعرض لإعادة النظر من قبل الملتقين عليه بين الفينة والأخرى للإطمئنان على أن ظروفه لا تزال ملائمة.

فإذا صح ما أوردناه من حصانة القذافي للتغيير الخارجي ومن استحالة أن يقبل هو بالتغيير طوعا وأن الإطاحة به لا تكون إلا بالقوة من داخل النظام نفسه أو بشن الحرب عليه جهادا في سبيل الله، كان لزاما علينا أن نعيد النظر في رؤيتنا للآخرين ممن يشاركوننا العداء للقذافي خاصة من لهم موقف ظاهر، كما يتعين علينا أن نعيد النظر في مواقع انطلاقنا,

في ضوء المنهج الجديد لن يكون الرجوع إلى الوطن عملا سلبيا ولن يكون الإلتقاء مع الآخرين وإكبارهم وذكر مناقبهم في منتدياتنا السياسية ضعف في الولاء للتنظيم حتى وإن كانوا هم غير قادرين على مبادلتنا نفس الشعور وإلا فكيف نستطيع أن نكون أكبر من غيرنا. ألا ترى أن الاسلام وهو أكبر نظام روحي وفكري وتنظيمي في تاريخ الإنسان مثلا يسع المنافق والفاسق والتائب والعابد والمجاهد ألا يقال لهؤلاء جميعا ويعاملوا جميعا (أعضاء) كمسلمين، وهكذا هو كل عمل رائد وهكذا هي الثورة ومن لا يستطيع الإرتقاء فوق صغائر الأمور والرد على السفهاء لا يستطيع نيل إعجاب النبلاء وقيادتهم.

إذا كان الهدف كما نأمل من المعارضة هو تحرير الإنسان من القهر والاستبداد وإرساء دعائم الحرية والعدل في المجتمع ووضع الأساس الحضاري يبعث الشعور بالعزة والرفعة في نفوس الناس فكيف يكون المدخل إلى هذا كله أيكون بالارتباط بالغرب وجعل مصير كل أعمالنا رهينة بمصالحه أننا ننطلق مندفعين بواعز من عفويتنا مستلهمين أسباب النصر من تاريخ أمتنا والدور الذي لعبته في رفعة البشرية.

وإذا كان هدفنا تغيير نظام الحكم في بلادنا والوصول إلى أصل القوة فيها، فهل نستعين بقومنا الذين يشاركوننا الأمل أم نلجأ إلى ما نقوله على السياسة الدولية ودورنا ودور القذافي فيها إنما نخادع به أنفسنا، ونهدر به طاقاتنا وسيتبين لنا ذلك طال الزمان أو قصر، لذلك فعلينا أن ننشد استراتيجية جديدة لا مكان فيها لأجنبي لا يشاطرنا الأمل والألم الذي نعانيه، وأهم معالم هذه الاستراتيجية الجديد، هيك

أـ تقريب الشقة بين المعارضين مهما تباعدت افكارهم السياسية ومهما اتسع البون بينهم، كما سيرد في موضع آخر من هذه الورقة.

ب ـ تصحيح الإنتماء الفكري حتى تبنى حركة التقارب هذه على أكبر قدر من عوامل الإلتقاء، وتزداد درجة الإعتزاز بما تقوم به من مجاهدة.

ج ـ تصحيح نظرتنا إلى الغرب “على الأقل في دوائرنا المغلقة” بالقاء الضوء على تاريخه في بلادنا ومخططاته المستقبلة للكيان العربي والإسلامي وما يكنه لدورنا الحضاري.

د ـ علينا أن نعوّد أنفسنا على الاستغناء على كل أسباب المدد المادي والمعنوي الذي لا نستطيع الحصول عليه إلا بالتنازل أو السكوت عن بعض ما نعتبره قضايا مصيرية أو قيم أصولية.

الخلاصة

أوردنا فيما سبق أن المعارضة الليبية تتشكل من الليبراليين الديمقراطيين والإسلاميين الأصوليين، وأن كلا الفريقين يهدف إلى مجتمع ديمقراطي حر وحياة سياسية دستورية وأوردنا أن الإختلاف بين الفريقين لا أساس له ويمكن تجاوزه والوصول بالفئتين الى الالتقاء على صعيد العمل الوطني البناء، وإذا اعتبرنا خبرة الجبهة الرائدة في هذا المضمار لم يعد من الصعب تصور إعادة إحياء المد التحرري الذي أوجدته الجبهة في بداية تكوينها، وروح الجهاد التي سادت كل مناشطها السياسية والعسكرية.

هذا البعث الجديد سيكون الاستراتيجية الجديدة وهو الأصل في العدد والمدد مع الإبقاء على العلاقات السياسية ودور القوى الكبرى كأداة ضغط على النظام، أما أداة التغيير فهي الأداة الوطنية المتمثلة في القوى الموحدة.

هذا التصور يتطلب أو قل سينتج بالضرورة تجديدا في إعلام المعارضة بحيث يخرج من دائرة تعرية النظام والدعاية السياسية للمعارضة إلى تناول قضايا الأمة المصيرية وتاريخها وأبطالها مما يجعله أكثر شمولا وأكثر تعبيرا على مطالب الشعب الليبي ويرسي الدعائم الحقيقية لا الدعائية للمشروع الحضاري ويظهر إنتماء المعارضة الليبية وأصالتها.

لا يمكن الاكتفاء في هذا التصور بالأسس المختصرة التي أقيمت عليها الجبهة كـ “اللقاء على أساس وطني بحث” بل يقتضي الأمر دستورا يبين ما تهدف إليه المعارضة ويحدد القضايا النضالية كما تحدد فيه معالم الأسس الفكرية والسياسية للبديل.

لعل أول ما يرجى من مثل هذا المدد أن تترسخ المبادئ التي تنادي بها المعارضة فالاسلام والديمقراطية ـ وهما ليس نقيضان في فكر الجبهة ـ لم يتجاوز كونهما شعارين مرفوعين مثل ما ترفعهما الأنظمة الحاكمة في العالم العربي، الأمر الذي جعل الجبهة لا تختلف عن هذه النظم في أعين الليبيين الحريصين على الإسلام والديمقراطية. فالانتخابات الصورية التي لا تنتج تغييرا حقيقيا في العناصر القيادية ولا في أسلوب عملها ولا في ارتباطات التنظيم السياسية لا تدل على الديمقراطية الحقيقية مهما ادعى أصحابها ذلك ومهما جاؤا به من مبررات لما هم عليه.

والفصيل الذي يرفع شعار الديمقراطية ويمارسها فعلا ومع ذلك يحافظ على جميع قيادييه في مواقعهم القيادية ويحافظ على استراتيجيته وعلى منهجه في الإدارة لسنوات وسنوات كيف يستطيع إقناع الشعب بأنه إذا وصل إلى السلطة فسوف يتخلى عنها وتنتقل ديمقراطيا إلى غيره، تلك دعوى يصعب تصديقها.

وما يقال عن الديمقراطية يقال عن الدين فمن يرغب في التمكين للدين عندما يحكم لابد أن يظهر ذلك في بناء قواعده وفي اتصاله بمن يشاركونه الهدف وإنتمائه إنتماء فعالا للتيار الديني ورموزه أثناء مرحلة النضال وإلا فإن كل ما يقال عن الرغبة في التمكين للدين فيما بعد لا يعدو أن يكون ضربا من الدعاية السياسية التي تقوم بها الحكومات المستبدة في العالم العربي بهدف تهدئة المشاعر والحد من غضب العامة وتبرير البطش بالمتدينين.

فإذا كان الثائرون على القذافي اليوم هم المحيون للإسلام والمناصرون للديمقراطية فإن على أي تنظيم معارض يريد مناصرة هؤلاء له ان يكون صادقا فيما يدعيه من ولاء للإسلام وإيمانا بالديمقراطية وأن يبرهن على صدقه بالعمل لا بالدعاية والشعارات.

انتهى

____________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *