هذا نص لتقرير أعده السيد عبدالعزيز جبريل (رحمة الله عليه) وكان في العشرينات من عمره وكان مديرا لمنطقة الفايدية في زمن الحرب العالمة الثانية حيث كانت برقة تحت الإدارة البريطانية وقد أرسله إلى متصرف منطقة شحات بتاريخ 15 يونيو 1943 أي 8 سنوات قبل استقلال ليبيا.
انظروا كيف يفكر هؤلاء الرجال الذين كانوا رجال دولة بامتياز ،، كانت لهم رؤى … وقبل ذلك ارادة وحكمة سياسية … كانوا يدركون صعوبة أوضاعهم .. وما يحيط بهم .. وكانوا محكومين باعتبارات المساحة الشاسعة وقلة السكان …. وافتقارهم الى كل شئ … لكنهم لم يتوقفوا عن الإبداع في ابتكار الحلول التي قد تبدو بسيط لنا.
هذا نموذج لطبيعة الجيل الذي حَلم بالاستقلال ودولته … وكيف كان الاستقلال والدولة الموحدة بالنسبة لهم. إنه جيل عصامي عملاق بامتياز
وهذا نص التقرير كاملا:
***
الإدارة البريطانية العسكرية
متصرفية شحات
مديرية الفايدية
الفايدية في 15 يونيو 1943
حضرة المحترم متصرف منطقة شحات
بعد التحية والإحترام
لي الشرف أن أعرض على حضرتكم التقرير التالي راجيا منكم التكرّم بابلاغه إلى سعادة البريجيدير (..) والي ولاية برقة الأكرم،
تعلمون حضرتكم أن الليبيين في المهجر قد شكّلوا الجيش السنوسي بقيادة صاحب السمو السيد إدريس السنوسي الذي رأى بحكمته الرشيدة محالفة بريطانيا العظمى في هذه الحرب العالمية لأجل تحرير بلادنا من نير الإستعمار الإيطالي، والآن ولله الحمد قد حُرّرت ليبيا كلها من الاستعمار البغيض ولا يسعنا الآن نحن الليبيين إلا العمل على استقلالنا ووحدة بلادنا بالتعاون من السلطات البريطانية المحتلة.
وجنابكم تعلمون أن الاقتصاد هو من أهم أسس الاستقلال السياسي، وما لم نعمل من الآن على إحلال محل الإيطاليين في الميادين الزراعية والتجارية والصناعية في جميع أنحاء ليبيا، فلا يمكن أن يكون لنا استقلالا صحيحا نظرا لفقر البلاد من المال والرجال الفنيين.
سيدي،
إنني بصفتي مديرا لناحية الفايدية وهي تشتمل على منطقة قرية “بتيستا” الزراعية التي تضم عددا كبيرا من البيوت الزراعية والتي كانت مسكونة من المعمّرين الإيطاليين، إنني بهذه الصفة أصارحكم بأنني قد تأثرت كثيرا لمنظر هذا العدد من المزارع والبيوت التي تُركت عند انسحاب الإيطاليين، في أيام قليلة، خالية ومهملة وبها جميع الأثاث والأدوات الزراعية والحيوانات التي يحتاج إليها المزارع في مسكنه وحقله.
وحضرتكم ولا شك أنكم على علم بتاريخ الجهاد في ليبيا بصورة عامة وفي الجبل الأخضر بصورة خاصة الذي دام إلى عام 1930 أي عند استشهاد المجاهد البطل عمر المختار، فكل ذلك كان دفاعا عن قوميتنا وعن أراضينا الغالية التي اغتصبها الإيطاليون وأبعد أصحابها الشرعيين إلى مناطق صحراوية وساحلية ضيقة كقرية الزهراء والفجر التي لا تصلح للإستثمار الزراعي، كما أنه لا يخفى عليكم أن الجبل الأخضر يعتبر العامود الفقري لاقتصاديات البلاد.
لذلك وجب علينا نحن الليبيين أن نتدارك الأمر ونعمل من الآن على استغلال هذه الثروة التي تركها لنا الإيطاليون بواسطة أيدي عاملة ليبية، حيث قد عقدنا العزم بعدم السماح للمزارعين الإيطاليين بالرجوع إلى الجبل الأخضر مرة ثانية بأي صورة كانت ولو أدى ذلك إلى القتال من جديد.
واعتقد أن السلطات البريطانية مدركة تمام لإدارة هذه الظاهرة الوطنية في سكان الجبل الأخضر في برقة بصورة خاصة.
هذا وإنني لا أخفي عليكم أن سكان الجبل الأخضر هم من البادية بعضهم رحّل والبعض الآخر انصاف رحّل وطريقتهم في الزراعة بدائية للغاية وهم يقومون بتربية الحيوانات على الطريقة البدائية أيضا نظرا لطبيعة حياتهم التي تعودوا عليها منذ قرون بعيدة مضت.
لهذه الأسباب اعترف أن هذا النوع من المزارعين لا يعتمد عليه في المحافظة على هذه الثروة الزراعية التي تركها لنا الإيطاليون في الجبل الأخضر، ولذلك قد اهتديت إلى حل جذري لهذه المشكلة بعد دراسة خاصة للموضوع قمت بها بمفردي نظرا لتأثري بالوضع أثناء تجوالي بين هذه المزارع في منطقة الفايدية، وإلى جنابكم الإقتراح التالي الذي سأوضح لكم فيه طرق الحل لهذه المشكلة.
قبل كل شئ يجب العمل على اختيار أحسن العناصر الزراعية من الوطنيين ولو أدى الأمر إلى البحث عنهم حتى في المدن البرقاوية، وذلك لتوزيعهم على جميع المزارع المنتشرة في الجبل في أسرع قوت ممكن، حتى يتسنى لهؤلاء المزارعين المحافظة على البقية الباقية من هذه الثروات الزراعية التي آخذة في التلاشي واعتبار هؤلاء المزارعين كمستأجرين فقط بإيجارات إسمية لمدة عشرة سنوات، وبهذه الكيفية سوف يتمكن المزارعون على المحافظة على المزارع، بل وإنني على يقين أنهم سوف يعملون حتى على نموها إذا وجدوا التعاون والتشجيع من قبل السلطات البريطانية.
إن هذا الحل اعتبره حلا مؤقتا فقط، وأما الحل النهائي للمشكلة فهو، يا سيدي المتصرف، خلق جيل جديد من المزارعين والمزارعات من نفس سكان الجبل الأخضر حتى نستطيع في المستقبل عندما تكون البلد مستقلة إن شاء الله، أن نخدمه ونستغل أراضيه الخصبة عن جدارة فنية تمكننا من دعم استقلالنا المنشود، بمعنى أن الحاسي يخدم أرضه والفايدي يخدم أرضه والبرعصي والدرسي والجبروني والعبيدي ..الخ
وطريقة الحل النهائي للمشكلة تتلخص في النقاط الآتية:
أولا ـ إنشاء مدرسة داخلية نموذجية في قرية “باتيستا” بغوط قرنادة لأبناء البادية الرحّل وأنصاف الرحّل حتى يستطيع التلاميذ الدراسة فيها مع الإقامة أيضا، وبالإقامة أقصد الأكل والنوم بدون الملابس التي يجب أن تكون على عاتق أولياء أمورهم، على أن لا تقل سن التلميذ عن 12 عاما وأن لا تزيد عن 15 عاما.
ثانيا ـ ستكون الدراسة بهذه المدرسة لمدة ست سنوات، يدرّس فيها المناهج للمدارس الأولية لمدة أربع سنوات طبقا لمناهج المدارس في المدن مع إدخال شئ قليل من مادة الزراعة ومع التطبيق العملي حتى يتعود التلاميذ من صغرهم على مهنة الزراعة، وأما بالسنتين الآخيرتين ـ أي السنة الخامسة والسادسة فيدرس منهاج زراعي محض وتربية الدواجن وطريقة صنع الجبن وغيرها من المهن الريفية المعمول بها عادة في المدن المتقدمة في هذا الميدان.
ثالثا ـ إنشاء مدرسة أخرى نموذجية لبنات الرّحل وأنصاف الرّحل من منطقة ثانية كقرية “مسه” أو “ماميلي” مثلا نظرا لعدم وجود قرية ثانية في ناحية الفايدية، على أن تكون تحت إشراف نفس المسؤول عن المدرسة الداخلية للذكور، تكون سنون الدراسة فيها ست سنوات يدرس فيها منهاج الذكور مع إضافة التربية المنزلية التي تدرس عادة في مدارس البنات كالخياطة وصنع الفانلات وغيرها من أعمال الإبرة، على أن تكون سن البنت نفس سن التلميذ المذكور أعلاه.
وأرى أن تكون التلميذات من اليتيمات إذ أتوقع صعوبات كبيرة في جمعها نظرا لعدم تعوّد الأهالي على هذه الطريقة في التعليم.
رابعا ـ عند تخرج التلميذات والتلاميذ أي بعد اجتيازهم لهذه المرحلة الدراسية يجب العمل على الجمع بين الخريج والخريجة في بيت زراعي حلالا عن طريق الزواج بواسطة هيئة أو لجنة تشكل لهذا الأمر، لا شك أنه عند تخرج أول فوج سوف تكون البلاد إن شاء الله متحصلة على استقلالها وتكون هناك حكومة وطنية مشرفة على مصالح البلاد، من ضمنها ستنشأ وزارة شؤون إجتماعية سيكون أول عملها زواج الخريجة بالخريج بمهور شرعية قليلة سوف تعمل هي على دفعها.
وستكون وزارة زراعة يكون من اختصاصها إصلاح البيوت وتأثيثها بالشكل المناسب مع مستوى هذه العائلة الزراعية أي حسب مستوى الأثاث الإيطالي المعروف لدينا، ثم العمل على تزويد هذه العائلة بالمساعدات المادية والفنية كآلة الحرث والبذر والحيوانات اللازمة وغيرها من المساعدات التي يحتاج إليها الفلاح في البلدان المتمدنة.
إنني على يقين بأن المسؤولين الوطنيين الذين سيتولون إدارة البلاد سوف يرحبون بهذه الثمرة التي سنقطفها بعد هذه السنين القليلة وسوف يعملون على توسيع هذا النوع من التعليم لأجل نشر هذه العائلات الزراعية الحديثة في جميع البيوت الزراعية المنتشرة في الجبل الأخضر، وبعد ذلك، أي مساعدة تقدم لهذه العائلات، سوف يكون لها أثرها الملموس في اقتصاديات البلاد التي تعتمد على الزراعة وتربية المواشي فقط.
كما إنني اقترح أن ترسل نسبة قليلة من هؤلاء الخريجين إلى مصر لدراسة فن الزراعة دراسة متوسطة وعُليا حسبما تتطلبه البلاد من موظفين فنيين مرشدين ومشرفين في قرى الجبل الأخضر أسوة بما كان يعمل به الأيطاليون، وبعد مرور سنين بعد الاستقلال أي عند الإكتفاء بهذا النوع من المزارعين، سوف يكون في استطاعة الحكومة التخفيض من نسبة الخريجين وتوجيه التلاميذ إلى ميادين ثانية من التعليم النظري والتعليم العملي، مثلا كالصناعة بأنوعها وغير ذلك من الفنون التي تحتاج إليها بلادنا.
إنني أستطيع أن أجزم أن الحكومة البريطانية الموقرة إذا ما وافقت على هذا المشروع سوف تقدم لهذه البلاد أكبر خدمة لن تنساها على مدى الدهر وسوف يكون لها أثر طيب في نفوس الأهالي وبصفة خاصة سكان البلاد من البدو الذين حرموا من التعليم طوال سنين الاستعمار.
إننا تحالفنا مع الحكومة البريطانية في الميدانين السياسي والعسكري واﻵن حان الوقت للتعاون معا في الميدان الاقتصادي حتى يتسنى لنا إعادة بناء البلاد على أسس متينة نستطيع بواسطتها أن نثبّت أقدامنا في جبلنا الأخضر وأن نقوي استقلالنا المنشود.
سيدي، إن تكاليف تأسيس المدرستين ستكون قليلة إذ باستطاعتنا أن نجمع أثاثا كثيرا من الأثاث الذي تركوه الإيطاليون بواسطة التبرعات من الأهالي، كما أنه توجد منه كميات كبير في مخازن الحكومة. وأما التكاليف الشهرية بخصوص التموين فهي أيضا قليلة، فمن التقديرات الأولية التي عملتها قد تبين لي أن مصاريف التلميذ لا تتعدى ثلاثة جنيهات شهريا. فإذا ما جمعنا مائة تلميذ وتلميذة في أول عام فإن المصاريف سوف لا تزيد على ثلاثمائة جنيها شهريا تدفع الإدارة النصيب الأكبر منها والباقي سأتعهد أنا بجمعه بواسطة التبرعات من الأهالي عن طريق التموين وغيره.
وإذا تأسس البنك الوطني الذي أمر صاحب السمو الأمير بإنشائه فسوف يكون من أول واجباته مساعدة هذا النوع من المدارس حتى إذا ما تمكن في المسقتبل من الاهتمام بميدان الزراعة سوف يجد الخريجين والخريجات جاهزين للعمل في الحقول، وعندئذ المساعدات والقروض التي سيقدمها ستكون لها نتائج إيجابية مضمونة بحول الله.
سيدي، لا أريد أن أطيل عليكم الكتابة في هذا الموضوع، ولكن إذا ما أقرت الإدارة العسكرية الموقرة هذا المبدأ ووافقت على تأسيس هاتين المدرستين فإنني على استعداد أن أتقدم ببيانات تفصيلية لحضرتكم وسيكون من الأنسب عقد اجتماع يحضره جميع المديرين في متصرفيتكم التي تترأسونها جنابكم وخلاله سأشرح للمجتمعين جميع التفاصيل التي أعدتتها والتي سأعدها في المستقبل.
إننا الآن في منتصف شهر يونيو ولذلك أرجوكم الإسراع في البت في هذا المشروع حتى إذا ما وافقت الإدارة الموقرة، نستطيع أن نباشر في التنفيذ قبل فتح المدارس في شهر اكتوبر المقبل. وإنني أتعهد من الآن بتطوعي للإشراف على هذا المشروع تحت مسؤوليتي بجانب أعمالي كمدير لمنطقة الفايدية إلى أن نقطف الثمار بعد ست سنوات إن شاء الله.
هذا وإنني لم أقم بنشر هذه الفكرة بين الأهالي للآن بل ولم أبلّغها للآن حتى لزملائي المديرين، لإنني أعتبرها سرا بيني وبينكم فقط. ولا أريد أن أذيعها للناس إلا بعد موافقة الحكومة عليها وذلك لأسباب أعرفها وسأشرحها لكم في أول فرصة.
وأخيرا سيدي بينما أكون في انتظار خطواتكم السريعة في هذا الصدد، تفضلوا بقبول فائق الاحترام ،،،
مدير منطقة الفايدية
أمضاء
عبدالعزيز جبريل
__________________________
انتهى التقرير
المحرر:
تواصلت مع الأخ فايز عبدالعزيز جبريل سفير ليبيا الأسبق في مصر، وذكر لي ما نصه:
تم بالفعل انشاء المشروع … بتبرعات الاهالي .. وكان معظم الناس من البدو.. وكانوا يرفضون إرسال ابنائهم … لا تصدق ان قلت لك ان الوالد … استخدم اسلوب الخطف !!! وكان احد المخطوفين الاستاذ المرحوم سالم عبد القادر الطرباقية … الذي تولى ادارة الرصد الجوي كان مديرا للارصاد الجوية … كذلك تخرج من المدرسة الأستاذ المرحوم سالم عطية الله بنويره.. الذي اصبح وزيرا للزراعة في حكومة عثمان الصيد … بل أن اليونيسكو اعتبرت هذه المدرسة أول مدرسة داخلية للبادية الرّحل في العالم العربي … واعتبرت ليبيا رائدة في توطين البدو الرحل عبر التعليم
تواصلت أيضا مع المهندس علي فرج جبريل (الناطق الرسمي لاتحاد الليبيين المغتربين) ، وذكر لي ما نصه :
قرأت تقرير عمي رحمه الله قبل 30 سنة وحدثني هو شخصيا عنه وعن تأسيس التعليم في مناطق الجبل الأخضر والمعاناة بسبب جهل الناس .. ومنها حكاية خطف النجباء من أطفال البدو .. كان عمي يزور النجوع على حصان ويقوم باستطلاع أولاد النجع ويحاول إقناع الأهالي بإرسال أولادهم الى مدرسة داخلية كي يتعلموا فيجد الصدود منهم. لكن كان لا ييأس واستخدم طرق عدة لالحاق الأولاد بالمدارس ومنها خطف الأولاد على ظهر الحصان والهروب به إلى المدرسة … وبعد سنوات تحسنت الأوضاع وبدأ ألناس يتقبلون فكرة التعليم،
______________
وللحديث بقية حول هذا الجيل المؤسس لدولة ليبيا الحديثة .