نبيل علي صالح

أمن الوطن يأتي فقط مع دولة العدل والحرية والمؤسسات:

وهكذا فعندما تبنى دولة المؤسسات والقانون التي يتنافس ويتسابق فيها الناس والمسؤولين والأحزاب لخدمة الصالح العام، يمكن أن تبنى رؤى جديدة لطبيعة عمل تلك القوى الأمنية، كما ويتم ترسيم حدودها قانونياً بالكامل، لتصبح خاضعة للقانون وحكم المؤسسات، ومراقبة من قبل أجهزة الدولة الرقابية، ولا تأتمر بأوامر الأشخاص والأفراد المتنفذون هنا وهناك، ولتتم مساءلتها ومحاسبتها علناً وباستمرار أمام البرلمان أو غيره من المؤسسات الرقابية العليا.

إن صياغة قانون جديد للأمن العام هو أكثر من مطلوب، بحيث يمكن من خلاله تنسيب الأفراد إلى هذه المؤسسة بطرق جديدة، على أن يتم إجراء دورات تدريبية حقيقية لرجالات الأمن في كيفية التعاطي الإنساني الحضاري مع الفردالمواطن وليس الفردالرعية؟

كما يمكن أن تتحدد مسؤولية عمل تلك الأجهزة في بناء وإشادة مظلة أمان مجتمعية فوق المجتمع كما ذكرنا، لحماية الناس من أعداء الخارج، وعدم التدخل بمصائر وشؤون الأفراد والمؤسسات الداخلية، حيث أنه في هذه الحالة فقط يكون عمل تلك المؤسسات أقل تكلفة مادية ومعنوية للوطن والمواطن.

ومن خلال هذا القانون الجديد نضمن أيضاً خضوع رجالات ومؤسسات الأمن الذي لا نشك في ولاء ونزاهة ووطنية الكثيرين منهم لبلدانهم، للقضاء والقانون والمحاسبة والمساءلة أمام السلطات القضائية والتشريعية مثلهم مثل باقي الناس الموظفين في دوائر حكوماتهم بعيداً عن هذه الحالة المتفشية حالياً التي يراها الناس جميعاً حيث تركت الساحة للكثير من تلك العناصر لكي يسرحوا ويمرحوا على هواهم في تدخلاتهم المباشرة في حياة الفرد والمؤسسات، فكانت النتيجة أن تلك الحالة من المناخ اللاقانوني وعدم ترسيم حدود وعلاقة الأمن بالناس والمؤسسات.

قد سمحت الدولة لهم بالنفاذ الآمن السهل وغير الخاضع لأي معايير قانونية إلى صلب وتفاصيل عمل المؤسسات والشركات والمواقع الاقتصادية من أدناها إلى أعلاها، الأمر الذي ترتب عليه سلبيات كثيرة تركزت حولها وفيها كثير من قضايا وملفات الفساد التي أزكمت الأنوف هنا وهناك التي تورطت بها تلك الأجهزة في غير مكان وزمان، ولم يترتب عليها محاسبة قانونية عادلة حتى الآن!!؟!!..

وهذه هي ربما النتيجة الطبيعية لهيمنة قوانين الطوارئ الاستثناء التي سادت لمراحل زمنية طويلة في بلداننا العربية، ولا يزال كثير منها قائماً بشكل وبآخر، بحيث أنها جعلت من تلك الأجهزة ممسكة بتلابيب الدول وقابضة على أمرها وحياتها وموتها بصلاحيات (قانونية!!) واسعة لا حدود أو ضوابط لها، أي من دون وجود قوانين حقيقية وليس ديكورية شكلية تحاسبها وتسائلها.

بل هناك فعلياً في بعض البلدان العربية قوانين ونظم تشريعية تحمي تلك الأجهزة والقوى الأمنية من المساءلة والمحاسبة إلا فيما ندر من حالات..

لا أمن واستقرار بلا حرية فردية حقيقة:

ولابد لنا من الإقرار هنا أن الأجهزة الأمنية العربية –التي شكلت الحامي والدرع الواقي لأنظمة الحكم السياسي العربيتمكنت على مدار عقود من الزمن من تحقيق وتكريس معادلة سياسيةمجتمعية تقوم على قاعدة الاستقرار في الاستبداد.

وهي نجحت في ذلك نجاحاً يحسب لها، حيث ساهمت تلك الأجهزة في تطويل فترة حكم أنظمة حكمها السياسية بالاستناد إلى تلك المعادلة القائمة على كم هائل من مفاهيم ووسائل الضبط والردع والكبت والقسر والضغط والفرض وكم الأفواه.

ونجاحها استند أيضاً على هذه المساومة والمفاضلة التاريخية بين بقائها كضامن للاستقرار أو رحيلها الذي سينتج الفوضى والخراب والدمار، ويفتح المجال للدخول في أجواء الحروب والصراعات الأهلية..

ولكن التغيرات الجذرية التي شهدتها منطقتنا العربية زلزلت أركان تلك المقولة وأعادت الاعتبار من جديد لمقولة الحرية مع الاستقرار، وأكدت على جوهرية ومركزية الاستقرار والحرية والكرامة والعدالة والأمن كغايات نهائية لكل نضالاتها وانتفاضاتها العارمة.. وأن الفردالمواطن لا الفردالعبد هو جوهر الاجتماع الديني والسياسي، وأن الحاكم هو مجرد مواطن سلمه الناس السلطة، وبالتالي فهو في موقع الخادم لهم لحين من الزمان وليس لكل زمان، ووظيفته تنحصر في الحفاظ على مصالح المجتمع، وليس لسيطرة عليه أو الاستبداد بأفراده ونهب ثرواته وموارده.

تقييد وقوننة عمل السلطة الأمنية:

كون أن الأمن جزء مركزي من منظومة السلطات العسكرية والبلدان ذات الطابع الشمولي المركزي، وهو معني بالمحافظة الكاملة عليها والدفاع المستميت عنها، وإخفاء عيوبها والتعمية على أخطائها، وتسمية الأشياء فيها بغير مسمياتها الحقيقية، في سياق دفن المشكلات والمعضلات الداخلية في تلك البلدان، والتظاهر بعدم وجودها عبر استخدام مختلف وسائل العنف والضغط والإكراه.

وذلك نظراً لتداخل وتراكب وتجذر شبكات المصالح والمنافع وتبادل الأدوار والمواقع النفعية الشخصية والعلاقات الزبائنية في تلك البلدان على حساب مستقبل ومصالح الناس والمجتمع ككل، فلن تقوم لدولة القانون والمؤسسات والعدالة والمدنية قائمة بأي صورة من الصور، ولن يكون لوجودها أي معنى بالبعد المؤسساتي الحقيقي.

لأنه وكما قالوا قديماً، “السلطة المطلقة، مفسدة مطلقة.. وهذه تعمي القلوب والأبصار، وتجعل كثيراً ممن هم في مواقع المسؤولية والقرار الأعلى في حالة من الخدر والسكر الشديد تفقدهم صوابهم وقدرتهم على اتخاذ القرارات الصائبة التي تعود بالنفع للصالح العام في كثير من الأحيان، خصوصاً إذا كانت لدى هؤلاء أساساً استعدادات للجنون والهوس الذاتي مثل صاحبنا “القذافي” أو “صالح” أو غيرهما..

من هنا ضرورة وجود قوانين ونظم تضبط وتقيّد سلوك وحركة وعمل تلك المؤسسات الأمنية، وتلزمهم بالخضوع القانوني التام للسلطات التشريعية والرقابية والقضائية، وتجعل الإعلام الحر قادر على الوصول الآمن إلى غرفهم السرية للكشف والتعرية والعرض والفضح أمام الرأي العام الذي من حقه الإطلاع الدائم عما يجري في مؤسسات شبه مخفية تعمل في الظل، ويصرف عليها المواطن من أمواله وضرائبه التي يدفعها للدولة..

وهذه هي الفائدة الكبرى من فكرة توازن السلطات، وفصلها عن بعضها، ورسم معالم واضحة لحدودها وعملها، وأن يكون جميع الناس تحت سقف القانون والوطن وليس فوقه!!.

في النهاية نؤكد ونذكر أن غاية المقالة هو تسليط الضوء على الخلل البائن القائم في العلاقة بين المواطن العربي وبين مختلف أجهزته الأمنية التي اشتغلت وتشتغل –في كثير م الأحايينعليه بدلاً من أن تشتغل معه وتعمل لصالحه.. وهذه العلاقة للأسف لا تزال غير مبنية على القانون بل خاضعة لاعتبارات أخرى تتضارب فيها الأنظمة النافذة بقوانين الطوارئ بالحالة المزاجية لهذا الجهاز الأمني أو ذاك..

من هنا حاجتنا الملحة لتصويب المسار، والبدء بزمن المحاسبة الحقيقية لتصحيح وقوننة تلك العلاقة لصالح الوطن والمواطن بما يضمن مشاركة الناس في بناء دولهم وعدم بقاء عنصر الخوف والرعب من تلك الأجهزة قائماً ومهيمناً على علاقة الناس بمؤسساتهم وبلدانهم..

فرجل الأمن هو في النهايةإنسان ومواطن مثل باقي الناس، ولكن بالنظر لحساسية موقعه ودوره، لابد من خضوعه التام والكامل للقانون والنظام والمؤسسات كي يكون عمله متوازناً ونافعاً للصالح العام وليس للنخبة فقط.

***

نبيل علي صالح ـ باحث سوري، حاصل على الإجازة (بكالوريوس) في هندسة الطاقة الكهربائية. مهتم بشؤون وإشكاليات الثقافة العربية والإسلامية.

___________

المصدر: منبر الحرية،21 سبتمبر/أيلول2011

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *