أنيس العرقوبي

حين تُذكر حقبة الاستعمار في ليبيا يتبادر إلى ذهن القارئ مباشرة اسم المجاهد عمر المختار والمشهد الذي جسده الممثل أنطونيو كوين في ذلك الفيلم التاريخي وهو يتدلى من منصة الإعدام ونظارته الدائرية على الأرض، وعلامات النصر “المخزية” البادية على وجه الجنرال الإيطالي غراسياني، وقلّما يستحضر البعض شخصيات وطنية أخرى أو مقاومين معروفين بتضحياتهم، وإن مرت عليهم الذكرى فيكونون عادة في الهامش.

الملك ادريس السنوسي أول حاكم لليبيا بعد الاستقلال عن إيطاليا وعن قوات الحلفاء في 24 من ديسمبر/كانون الأول 1951 هو أحد الذين تم تهميش دورهم الريادي في محاربة الاستعمار وبناء دولة ليبية ذات سيادة، من خلال تزوير الحقائق وطمس أثره من الكتب والمراجع التاريخية، إضافة إلى مقررات ومناهج التعليم.

الملك ادريس

هو ابن المهدي ابن محمد بن علي السنوسي الخطابي الإدريسي ولد في الجنوب بشرق ليبيا 12 من مارس 1890 ونشأ في كنف أبيه الذي كان قائمًا على أمر الدعوة السنوسية في ليبيا، وعلى يديه وصلت إلى ذروة قوتها في شمال إفريقيا، والتحق الملك بالكتاب وأتم حفظ القرآن الكريم، ثم واصل تعليمه على يد العلماء من بينهم العلامة العربي الفاسي وأحمد أبو يوسف والعربي الغماري وحسين السنوسي وأحمد الريفي وأحمد الشريف السنوسي، ثم رحل إلى برقة عام 1902 وكان يحظى بمكانة مرموقة لدى مريدي الطريقة السنوسية.

قام الملك الليبي بأول زيارة خارج بلاده عام 1914 وكانت الوجهة مصر حينما عزم على الذهاب لأداء فريضة الحج، ونزل ضيفًا على الخديوى عباس الثاني في قصر رأس التين بالإسكندرية، وفي الحجاز التقى بالحسين بن علي شريف مكة الذي أصبح فيما بعد ملكًا للحجاز، وبعد عودته من مكة تولى الزعامة السنوسية عام 1916، ليقود المقاومة ضد الاحتلال الإيطالي الذي دخل ليبيا عام 1911.

مسيرة سياسية

بعد ترؤسه الحركة السنوسية دخل الملك في النصف الثاني من عشرينيات القرن الماضي في مفاوضات مع الإيطاليين في الزويتينة (من يوليو إلى سبتمبر 1916)، ومفاوضات في ضواحي مدينة طبرق منطقة عكرمة (من يناير إلى أبريل 1917)، ومفاوضات الرجمة (1914) وكان أهم شروطها الاعتراف بالسنوسي أميرًا لإدارة الحكم الذاتي وتشمل واحات الجغبوب وجالو والكفرة ويكون مقرها في إجدابيا، واتفاقية أبو مريم واجتماع إدريس السنوسي بوزير المستعمرات الإيطالية أمندولا عام 1922.

 لم تستمر حكومة إجدابيا طويلًا لأنّ إيطاليا أرادت التخلص من اتفاقاتها وذلك بعد زحف أرتال الفاشيين إلى روما، فقرر إدريس السنوسي الرحيل إلى مصر وكلف شقيقه الأصغر محمّد الرضا السنوسي وكيلًا عنه على شؤون الحركة السنوسيّة في برقة، وعين عمر المختار نائبًا له وقائدًا للجهاد العسكري في شهر نوفمبر 1922.

في مارس 1923 سافر عمر المختار رفقة ثلة من الوطنيين أمثال علي باشا العبيدي وخالد الحمري وإبراهيم المصراتي ليعرض على الأمير محمد إدريس نتيجة عمله، واتفق الاثنان على تفاصيل الخطة التي يجب أن يتبعها المجاهدون في قتالهم ضد الطليان وتشكيل المعسكرات واختيار القيادات، وبموجب الاتفاق كُلف المختار بالقيادة العسكرية، فيما تزعم السنوسي العمل السياسي من مصر.

وبعد إعدام عمر المختار واندلاع الحرب العالمية الثانية 1939، راهن السنوسي على الحلفاء وأعلن فيما بعد انضمامه إليهم وعقد اتفاقًا مع البريطانيين، ودخل إلى ليبيا بجيش أسسه في المنفى (الجيش السنوسي) في 9 من أغسطس 1940 لطرد الغزاة الإيطاليين، ومع انتهاء الحرب عاد الملك إلى بلاده في يوليو 1944، ودخلت ليبيا منذ ذلك التاريخ تحت حكم الإدارة البريطانية والفرنسية.

عاد السنوسي إلى ليبيا بعد انتهاء الحرب بهزيمة إيطاليا وخروجها من ليبيا، وفي يوليو أصدر دستور برقة متضمنًا 204 مواد منها كفل حرية العقيدة والفكر والمساواة بين الأهالي وحرية الملكية، كما نص على تأسيس حكومة دستورية قوامها مجلس نواب منتخب، لتعلن روما اعترافها باستقلال ليبيا عام 1946.

وبعد تأسيس أول جمعية وطنية تمثل جميع الولايات الليبية (برقة – طرابلس – فزان) في 25 من نوفمبر 1950، أعلن إدريس من شرفة قصر المنار في مدينة بنغازي في 24 من ديسمبر 1951، الاستقلال وميلاد الدولة الليبيّة المستقلة وذات السيادة كنتيجة لجهاد الشعب، واتخاذه لنفسه لقب ملك المملكة الليبية المتحدة، وأنّه سيمارس سلطاته وفقًا لأحكام الدستور.

بعد أن أعلن الملك ادريس السنوسي أن ليبيا أصبحت دولة ذات سيادة عقب إصدار الدستور انضمت إلى جامعة الدول العربية سنة 1953 وإلى هيئة الأمم المتحدة عام 1955.

بناء الدولة

واجه الملك الليبي محمد بن إدريس السنوسي أكثر المراحل تعقيدًا في تاريخ ليبيا الحديث، إلاّ أنّ القاعدة الوطنية التي أرساها في بلاده من خلال مشروع بناء دولة موحدة تُحافظ على قيمتها وتراثها، ساعده على السير نحو التخلص من الاستعمار الإيطالي.

لا يُمكن بحال من الأحوال تصوير الوضع في ليبيا غداة الاستقلال على أنّها مدينة أفلاطونية في عدلها ورخائها ونمائها، فأي دولة تخرج من بوتقة الاستعمار وأغلاله بحاجة إلى لملمة جراحها المعنوية (نزوح وضحايا ومفقودون) وكذلك إعادة البناء بكل ما تطلبه من إمكانات، ولكن الملك الليبي استطاع ولو جزئيًا في غياب الموارد أن يقود مسار إحياء أسس الدولة الجديدة.

عملت الدولة الوليدة على إحداث مؤسسات جديدة وتهيئة العمران وإعادة رصف الطرق التي دمرتها الحرب وتوطين السكان ومساعدة الأهالي على الاستقرار وإعمار المدن، وتشجيع الإنتاج والصناعات الوطنية وتنميتها، وكذلك البدء في استغلال الثروات الطبيعية والاستفادة منها في بناء المؤسسات، من خلال تأسيسه للمجلس القومي للتخطيط العام، الذي وضع خطة خماسية للتنمية تهدف أساسًا إلى تنمية الزراعة ومشاريع البنى التحتية.

من جهة أخرى، أولى الملك التعليم اهتمامًا خاصًا من خلال تعريب المناهج وتوسيع العلوم والمعارف المقدمة، وتنمية الخدمات في هذا المجال بأنواعها المختلفة، وتشجيع تعليم البنات، إضافة إلى إعداد معاهد للمعلمين والمعلمات، وانتداب كوادر من فلسطين ومصر.

أمّا فيما يخص المشهد السياسي في ليبيا بعد الاستقلال، فإنّ المملكة حرصت على ضمان الحد الأدنى ملحريات كالصحافة وحرية التعبير وإبداء الرأي، كما كان للمعارضة المجال الواسع لانتقاد السلطة، وكان تداول السلطة التنفيذية يتم بالطرق السلمية (11 حكومة في 18 عامًا).

من أقواله

إن الحضارة التي يريد الإيطاليون إدخالها إلى بلادنا تجعل منا عبيدًا للظروف، ولذا وجب علينا أن نحاربهم”.

 “أنصح العرب الأشقاء بالتمسك بالدين الكامل، والخلق الفاضل، والاتحاد الشامل؛ فلن يغلب شعب يحرص على هذه الأركان”.

الاتحاد العربي ضروري، والعصبية العربية مشروعة ومعقولة شريطة ألا تتعارض مع الأخوة الإسلامية، وألا تعتدي على حقوق الآخرين”.

يتبع

***

أنيس العرقوبي محرر في نون بوست

______________

مقالات