فتحي الفاضلي
طلبت من الشهيد “محمد يحيى معمر“، نجل المرحوم الشيخ “على يحيى معمر“، نبذة عن والده من أجل أن أوردها في كتابي “جذور الصراع في ليبيا“، فأرسل الي حينئذ بكلمات، قال فيها:
اعتقل الوالد، في شهر مايو 1973م، بعد ما سمِّيَ بالثورة الثقافية، وسجن في سجن الحصان الأسود، بـ“باب بن غشير” بمدينة طرابلس، ومكث في القسم رقم “3”، أحد عنابر السجن، وقد قام السجانون بحلق لحيته، التي لم يدخلها مقص مطلقاً منذ أن نبتت، وذلك بأمر من معمر القذافي نفسه، لما علمه ما يسببه ذلك من ألم نفسي، حيث يعتبر الإباضية، كما هو الحال في أغلب المذاهب الإسلامية، أن حلق اللحية حرام. والداعي الذي دفعهم إلى ذلك (أي إلى حلق اللحية) كتيب صغير أصدره الوالد– رحمه الله– تحت عنوان “مسلم ولكن يحلق ويدخن“.
ورغم أن الوالد كان محاطاً بالرعاية الكاملة والاحترام الكبير من جميع المعتقلين، بل وحتى من العسكريين المكلفين بالحراسة، إلا أن سنه وصحته لم تكن تسمح ببقائه في المعتقل، وكثير من رجال المباحث والتحقيق اعتبروا اعتقاله فضيحة للنظام، وليس إهانة للوالد، أو حطاً من شأنه.
وقد اضطر النظام إلى إخلاء سبيله بعد سبعة أشهر، وعندما عاد إلى البيت، طلب الخويلدي وزير الداخلية (في ذلك الوقت) زيارته في مكتبه، وأعتذر له قائلاً: “والله يا شيخ ما كنا نقصدك أنت، واحنا غلطنا فيك“، فكان عذراً أقبح من ذنب.
ويواصل الابن حديثه عن والده قائلاً:
لم تكن المعاناة التي قاساها الشيخ، في اعتقاله أو في اعتقال ابنه وابن أخته وبعض أقاربه، واعتقال الدكتور “عمرو خليفة النامي“، تلميذه وصديقه وأقرب المقربين إليه، وإنما كانت المعاناة في المضايقات التي كان يقوم علية القوم الظالمين، حيث كانوا يمنعون الشيخ من الخروج من مكتبه في شهر رمضان، حتى يكتب شيئاً عن الانقلاب الذي يسمونه ثورة، وقد رفض الشيخ ذلك مراراً، وكانت شدة “الازمة” (ضيق التنفس) التي يعاني منها، تزيد في معاناته. وأشفق عليه أصدقاؤه ومحبوه وأقسموا عليه تلبية طلب ما يسمى بـ“الثورة“، فكتب مقالات أراد بها طالبوها التمجيد لانقلابهم والدعاية له، إلا أن كل من يتأمل فيها يتأكد بأنها جاءت بما يكشف عن فساد نظام القذافي.
انتهى سرد الابن.
ولم تنته قصة هذا الشيخ الوقور، عند سجنه مع ابنه في الزنزانة نفسها، وحلق لحيته، إمعاناً في إهانته وإذلاله، بل وضع، بعد إطلاق سراحه، تحت المراقبة الشديدة، كما هوجم المسجد الذي كان يلقي فيه دروسه (مسجد الفتح بمدينة طرابلس)، ثم ضيق عليه إلى أن وافته المنية يوم الثلاثاء 27 صفر 1400هـ الموافق 15 يناير 1980م، أثر نوبة قلبية، ودفن في مقبرة “سيدي منذر” بطرابلس. وللشيخ الجليل، سبعة أبناء هم: محمد ويحي وخالد وحسن وفريد وعيسى وعبد الله.
أما الابن الشهيد “محمد على يحيى معمر” والذي سُجن مع والده، فقد حكمت عليه المحكمة بالبراءة، وأطلق سراحه، ثم قبض عليه في اليوم نفسه، حيث أُعيدت محاكمته، مع مجموعة من زملائه، فحكم عليهم بخمسة عشر عاماً، تغيرت، وكالعادة، وبقدرة قادر، إلى المؤبد. لكنه استطاع الهرب من السجن والانضمام إلى قوى المعارضة، حيث شارك في تأسيس “الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا“، وأصبح عضواً في اللجنة التنفيذية للجبهة، وأميناً لأمانة اللجنة نفسها، ونائباً لرئيس المجلس الوطني الثاني، ورئيساً للمجلس الوطني (1990م) ورئيساً للمكتب الدائم للجبهـة (1992م)، وعضواً في الهيئة القيادية.
وكان الشهيد الابن قلماً مبدعاً، تألق في الدعوة إلى محاربة الظلم والإطاحة بالظالمين. توفي (رحمه الله) في7 يوليو 1994م، بعد عمر من البذل والعطاء والنضال، ودفن بمدينة “ليكسنتون” بولاية “كونتاكي“.
ولم يجف نبع هذه العائلة الكريمة، بل قدمت شهيدين آخرين هما “خالد على يحيى معمر” و“يحيى على يحيى معمر” شقيقي المرحوم “محمد“، فقـد كانوا ضمن شهداء عملية مايو 1984م، فقام النظام إثر ذلك بتهديم بيتهم في مدينة “نالوت“، واعتقل في تلك الأحداث باقي أخوتهم “حسن” و“فريد” و“عبد الله” و“عيسى“. وهكذا قدمت هذه العائلة الكريمة، الغالي والنفيس، فجاهدت في سبيل الله والوطن، بالنفس والكلمة والمال.
…
يتبع
***
د. فتحي الفاضلي ـ عضو هيئة تدريس كلية التربية طرابلس– ومستشار بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي وكاتب وناشط سياسي ومقدم برنامج في فضائية التناصح.