مصطفى عمر التير
مناقشة ختامية
انضمت ليبيا إلى بلدان الربيع العربي، وأصبحت ثورتها تعرف بثورة 17 شباط/فبراير 2011. ومع أنها تقع جغرافياً بين تونس ومصر، إلا أن أسلوب انضمامها اختلف عما حدث في جارتيها بحيث تحولت الثورة وبسرعة إلى حرب أهلية، واتخذت مسار ثورتي سورية واليمن.
أحدثت الثورة تداعيات اجتماعية كثيرة كانت الهجرة القسرية من بين أهمها. آلاف الأسر اضطرت إلى ترك منازلها والتحقت بأعداد المهجّرين قسرياً خلال فترة الحرب، التي اشتعلت منذ الأسبوع الأول لانطلاق الثورة.
بعضهم غادر الأراضي الليبية إلى تونس أو مصر، والأغلبية انتقلت إلى مدن ينتمون إليها أصـلاً، ويملكون فيها منزلاً أو أرضاً زراعية وبها بعض أقاربهم، أو بها أسر يرتبطون معها بعلاقات مصاهرة، ومع ذلك اضطرت أسَر كثيرة إلى الإقامة في مخيّمات أُعدت على عجل.
نسبة كبيرة من الذين غادروا خلال هذه الفترة عادت إلى البلاد قبل الإعلان عن يوم انتصار الثورة أو بعده مباشرة. وفي المقابل، بدأت أسَرٌ أخرى رحلة الهروب من مساكنها أثناء الأسابيع القليلة التي سبقت ذلك اليوم.
جميع أعضاء هذه المجموعة تركت ليبيا إلى دول الجوار، أو بلدان الخليج، وكذلك تركيا، ونسبة صغيرة فضلت أوروبا وأمريكا؛ وهي النسبة التي لها جنسيات مزدوجة.
يوم الإعلان عن انتصار الثورة كانت ليبيا عبارة عن ركام؛ بنية تحتية متهالكة، نسبة كبيرة من المباني العامة دُمرت، والتي لم تدمَّر دخلتها الميليشيات واستقرت فيها.
بلد بلا جيش نظامي أو شرطة أو جهاز إداري يزاول مهماته. بلد غارق في فوضى عارمة، ظهرت بوضوح في الاحتفال الذي أطلق عليه الثوار يوم التحرير. لعل الوصف الذي كتبه عبد الرحمن شلقم، من بين أدق الأوصاف التي كُتبت، عما كان يخطط له أن يكون بداية نظام سياسي جديد، يخلف نظاماً فوضوياً دام أربعة عقود، عندما وصفه: «لقد كان ذك اليوم الأحد 23/10/2011، يوم إعلان التحرير، نعيقاً فوق مئذنة». ومع ذلك استطاع المجلس الوطني الانتقالي المؤقت – يوم 22/11/2011 – اعتماد أول حكومة مدنية بعد الثورة، أطلق عليها الحكومة الانتقالية.
أعطيت لها فترة زمنية لا تتعدى سنة واحدة، لتنفذ مهمات بعينها أهمها: إجراء انتخابات لاختيار أول لجنة تشريعية، تقوم مقام مجلس البرلمان، إلا أنها وجدت نفسها غارقة في التعاطي مع عدد من الملفات الشائكة، التي تتطلب حلولاً سريعة، وكان من بينها ملف النازحين والمهجَّرين.
المقيمون في الخارج، من مؤيدي النظام السابق، لن يفكروا في العودة – خوفاً من الانتقام – قبل استقرار الظروف السياسية في البلاد، وتنفيذ برنامج لمصالحة مجتمعية.
لكن المقيمين في الداخل، يرغبون في العودة إلى منازلهم في أسرع وقت ممكن، إلا أن تلك الرغبة، تصطدم بواقع على الأرض، يتطلب تجاوزه جهداً يتجاوز إمكانيات الأسرة.
وتصبح الحكومة مسؤولة عن اتخاذ الكثير من الترتيبات، لتكون عودة المهجرين ممكنة وآمنة. الكثير من المنازل إما تهدمت بالكامل، وإما تصدعت بنسبة كبيرة، كما أن البنية التحتية من شوارع وصرف صحي ومياه تعرّضت هي الأخرى في الكثير من المناطق للتدمير.
وكان من بين أول قرارات الحكومة الجديدة إنشاء جهاز إداري جديد، لم تعرفه ليبيا من قبل، أطلق عليه: جهاز شؤون النازحين والمهجرين، تولى رئاسته وزير دولة، وأوكلت إلى هذا الجهاز مسؤولية حل مشكلات الذين اضطروا إلى ترك منازلهم، بسبب الحرب الأهلية التي انزلقت إليها الثورة الليبية.
وقد اعتمدنا في هذه الدراسة التصنيف الذي أقرّته الحكومة، الذي لا يفرق بين المفهومين (النازحين والمهجَّرين). وفي هذا الشأن نتفق مع الذين يوسعون مجال المفهوم بحيث يشمل أنواعاً من الهجرة، بدلاً من جعل صفة القسرية محصورة بفئة معينة تتوافر لها ظروف بعينها، ومع الاعتراف بأن للهجرة التي تصنف قسرياً أكثر من سبب، المهم أن المعني هنا هو ذلك الشخص الذي ضاقت دائرة خياراته، ولم تعد تتوافر له بدائل أخرى مقبولة غير مغادرة مسكنه.
لذلك عند استعراض الأرقام لا نفرق بين النازحين والمهجرين ولا بين ما بين تلك التي قد تبدو أنها اختيارية ولو خلال فترة معينة من الزمن، وتلك التي يضطر فيها الشخص إلى الإسراع في مغادرة المكان خوفاً على حياته، أو تعرُّضه لظروف مقلقة مثل الإهانة أو الضرب أو التعذيب أو الاحتجاز.
كما لا نفرِّق بين من غادر مسكنه لأن ساحة الحرب اقتربت من مقر سكناه وقد لا تصل في النهاية إلى مقره، وبين الذي غادر تحت تهديد السلاح. ومع أنه كان من الصعب عند تسلُّم الحكومة الجديدة مهمات عملها معرفة العدد الدقيق للنازحين والمهجرين، إلا أن الجهاز المكلف بهم اعتمد عندئذ الرقم الذي قدره المركز الدولي لمراقبة النازحين، وكان ما بين 100,000 إلى 150,000.
عدد المهجَّرين قسرياً المشار إليه آنفاً ليس كبيراً، وكان بالإمكان – نظرياً – تسوية أوضاعهم خلال فترة الحكومة الانتقالية، لولا وجود مشكلتين رئيسيتين: أولاً، أن النسبة الكبرى من ذلك الرقم تخص سكان المدن والبلدات التي أصبحت مدن أشباح، وتتطلب إعادتهم إلى مناطقهم الأصلية موافقة سكان المدن التي تسببت في طردهم.
وثانياً، لم تتخلص البلاد من السبب الرئيس وراء هروب السكان من مناطقهم المتمثل بالصدامات المسلحة. لقد رفع الثوار، وخصوصاً الشباب الذي أطلق الثورة، أثناء تظاهراتهم، شعاراً سُمع في جميع أركان البلاد «الليبيون قبيلة واحدة».
ينتمي الليبيون إلى قبائل متعددة، وكان الهدف من رفع الشعار: الدعوة إلى الوحدة في التصدي لكتائب القذافي الأمنية. لكن الذي حدث: اتحدت الميليشيات المسلحة أثناء الحرب، واختلفت وتفرقت فور غياب القذافي.
هل كان العدو المشترك السبب الوحيد لوحدتهم إذاً؟ وأن بعض الميليشيات لم يعنيها الشعار في شيء؟ وكان همها الوحيد هو: القضاء على القذافي، لوقوفه حجر عثرة في سبيل الوصول إلى أهدافها الخاصة؟ بعبارة أخرى، لم تحارب من أجل رفعة وطن، ولتخليصه من حكم دكتاتوري أساء إلى الشعب، وأدى إلى نشر التخلف.
نجح المجلس الوطني الانتقالي المؤقت في الحصول على اعتراف حكومات البلدان المؤثرة في السياسة الدولية، وأن يصل بالثورة بمساعدة الأجنبي إلى تحقيق هدفها الرقم واحد وهو تغيير النظام، ولكنه فشل في التعامل بمهنية مع الميليشيات المسلحة. لم يتنبه للخطر الذي قد تتسبب فيه الميليشيات المؤدلجة فيما بعد، علماً بأن أهدافها كانت واضحة منذ البداية، وانعكست في تصرفات لا تخطئها العين.
لم يعتمد المجلس إجراءات لتنظيم وتقنين عمل الميليشيات المسلحة، ولم يستطع تصور الكوارث التي يمكن أن تحدث عندما ينتشر السلاح خارج سلطة الدولة.
كانت الميليشيات المسلحة التي انتشرت في ليبيا عبارة عن تجمع لعدد كبير من المتناقضات، بسبب ارتباط بعضها بتيارات فكرية وأيديولوجية متناقضة، وتجاذبات قبلية ومناطقية، وبغض النظر عن تلك التناقضات، توجهت بعد انتصار الثورة نحو الهدف نفسه، ألا وهو الحصول على أكبر حصة ممكنة من دخل النفط.
لذلك تسابقت للسيطرة على الوظائف المؤثرة في القرارات المهمة، وخصوصاً المتصلة بالمال. وبمرور الزمن تغولت بعض الميليشيات في هذا الشأن، وأصبح الذين يتصدرون المشهد من كبار الموظفين ومديري بنوك ووزراء ورؤساء وزراء، عبارة عن واجهات لزعماء الميليشيات القوية. ومع أن البعض يحاول تمثيل الدور وكأنه هو الذي يدير المركب، يعترف البعض الآخر بهذه الحقيقة، وإن جاء ذلك بعد الخروج من المنصب.
وقد أدى تكالب الميليشيات على السلطة والمال العام، إلى تكاثر عدد الصدامات المسلحة بينها، وبدلاً من تمكن الليبيين من بناء دولة ما بعد الصراع، استمر الصراع وتعاظم، وتنوعت نتائجه السلبية. فتصاعدت أعداد الصدامات المسلحة في كل سنة من السنوات الأولى من تاريخ الثورة، وعدد القتلى الذين تم إحصاؤهم بطريقة رسمية، وأعداد المهجَّرين قسرياً، وبالطبع كان التهجير القصري للسكان أحد الظواهر التي صاحبت كل صدام مسلح.
كان عدد الصدامات خلال سنة 2012 أقل من نصف الصدامات التي حدثت في السنة التي سبقتها، لكن العدد تضاعف في السنة التالية عام 2013، وتضاعف ثانية في السنة التي تلتها. وبالطبع ارتفع الرقم الدال على عدد الهجرين، وبدلاً من أن تتخلص البلاد من هذه المشكلة تحولت إلى مشكلة مزمنة تتعقد بمرور الزمن.
الذين تعرضوا للتهجير القسري نجوا من القتل، ولكنهم تعرضوا لمشكلات كثيرة ارتبطت بعمليات التهجير. وصفوا من قبل من تسبب في تهجيرهم بأبشع الأوصاف، لذلك نقلوا من خانة الجار وما يتعلق بهذا الموقع الاجتماعي في الثقافة العربية الإسلامية من علاقات حميمية، إلى خانة العدو، وعليه استبيحت منازلهم، ونهبت جميع ممتلكاتهم، وفي كثير من الأحيان لم يبقَ شيء من المنزل سوى الجدران التي هي الأخرى لم تسلم – في بعض الحالات – من التدمير.
قامت الميليشيات التي دخلت إلى المدن والبلدات – في كل مرة – بالأفعال نفسها المتمثلة بالاستيلاء على المال الخاص والعام، وتدمير المباني والبنية التحتية والقتل والخطف، وجميعها أنماط سلوكية تعكس درجة عالية من العداوة والكراهية. المباني القائمة في كل بلدة أو قرية أو مدينة إضافة إلى أنها وحدات تخص سكان المنطقة إلا أنها في الوقت نفسه عبارة عن جزء من رأس المال الاقتصادي للمجتمع وأغلبها عبارة عن مشاريع نفذتها الدولة.
أما كان بالإمكان الاستفادة من المباني من قبل آخرين كإقامة مهجرين مثـلاً، أو توظيفات مؤقتة أو حتى لعمليات تخزين مواد أو إقامة حيوانات. يعبر حرق وهدم الوحدات السكنية وبقية المنشآت، عن رغبة لدى الجماعة المعتدية في إقصاء الآخر إقصاءً تاماً، مع أن المعتدى والضحية في جميع الحالات التي استعرضناها، باستثناء حالة قرية بئر عجاج، كانوا جيراناً.
لقد عادت نسبة كبيرة من الذين هجروا قسرياً إلى قراهم ومدنهم، ولكن عودتهم ليست كعودة من ارتحل بعيداً من مقر سكناه ثم عاد بعد فترة من الزمن، ليجد جيرانه فرحين ومرحِّبين بعودته بعد أن اهتموا بالمحافظة على منزله وبقية ممتلكاته.
هي عودة غير طبيعية؛ فلم يعد المكان هو نفسه، ولا الجيران الجيران أنفسهم، وهو ما سيفاقم من درجة غضب ونقمة المتضررين على الذين كانوا السبب، ويضاعف من حالة تفكك العلاقات الاجتماعية، أو حالة تشظي النسيج الاجتماعي.
في الختام
حالة الانقسام أو التشتت والتشرذم التي أصبحت عليها العلاقات الاجتماعية في هذا المجتمع، لا تساعد الباحث على رسم مشهد يعود فيه المجتمع الليبي في القريب المنظور إلى سابق عهده.
وفي ضوء المتغيرات التي على الأرض، فإن الوضع الحالي يميل بدرجة كبيرة، إلى المزيد من التشرذم، وإلى انقسام ما كان يعرف بالدولة الليبية على اختلاف مسمياتها، وتحولها إلى دويلات قزمية، إلا إذا كان للدول المؤثرة في السياسة الدولية رأي آخر، وخصوصاً أن ارتباط مستقبل ليبيا السياسي بالدول العظمى له تاريخ طويل، يرجع إلى ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة.
***
د. مصطفى عمر التير ـ باحث ليبي في علم الاجتماع، نال شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة مينيسوتا الأميركية (1971). درّس في جامعات ليبية وأميركية مختلفة، وكان مديرًا لمعهد الإنماء العربي، وعضوًا في اللجنة الاستشارية بالهيئة القومية الليبية للبحث العلمي، وعضوًا في منتدى التعليم العالي بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو).
________________