محمد عبد الحفيظ الشيخ

أولاً: خريطة القوى السياسية في ليبيا بعد 2011

إثر سقوط نظام القذافي، أدت الثورة الليبية إلى إعادة تشكيل الخريطة السياسية الليبية بطريقة جذرية لمصلحة القوى غير الحكومية، التي أصبحت اللاعب والعامل الرئيس في المعادلة السياسية الليبية الجديدة.

وتتمثل هذه القوى بالمجالس المحلية والتجمعات القبلية والميليشيات المسلحة. حيث استطاعت هذه القوى المحلية أن تسيطر على الحياة السياسية في ليبيا وتهمِّش القيادات السياسية التي كانت تشكل المجلس الوطني الانتقالي السابق، والحكومات الانتقالية المتعاقبة، وتمكنت من زيادة نفوذها، والتأثير في المشهد السياسي والأمني الليبي، على حساب بناء مؤسسات على المستوى الوطني، وخصوصاً في قطاعي الأمن والجيش.

بعد انتهاء العمليات العسكرية مباشرة، بدأ الصراع على السلطة بين القوى المحلية والنخبة السياسية في المجلس الوطني الانتقالي في مرحلة أولى، ثم المؤتمر الوطني العام (البرلمان المنتخب) في مرحلة ثانية، ما دفع بعدد كبير من القيادات السياسية البارزة إلى الخروج من المعادلة السياسية بسبب ضغوط القوى المحلية، إما عن طريق الانتخابات أو الضغط الشعبي كما هي الحال بالنسبة إلى حكومتي محمود جبريل وعبد الرحيم الكيب السابقتين.

أقر المجلس الوطني الانتقالي تكوين المؤتمر الوطني العام من 200 مقعد، قُسّمت إلى 120 مقعداً للنظام الفردي، و80 مقعداً لنظام القوائم، وُزع إجمالي مقاعد المؤتمر الوطني العام على أساس جهوي، إذ استحوذت المنطقة الغربية على 100 مقعد، والمنطقة الشرقية على 60 مقعداً، والمنطقة الجنوبية على 40 مقعداً.

وبخلاف ما حصل في بلدان الربيع العربي الأخرى، جاءت نتيجة التصويت على القوائم الحزبية لمصلحة التيار الموصوف بالليبرالي بزعامة محمود جبريل أول رئيس حكومة بعد الثورة بواقع 39 مقعداً.

وجاءت نتائج الجبهة الوطنية المنسوبة إلى الجبهة الوطنية للإنقاذ بزعامة محمد المقريف دون التوقعات، حيث لم يحصل إلا على ثلاثة مقاعد فقط، لكنها نجحت في الحصول على رئاسة المؤتمر الوطني العام، وكذلك على رئاسة الحكومة بعد تحالفها مع حزب العدالة والبناء.

في المقابل، حصل حزب العدالة والبناء المنبثق من الإخوان المسلمين على 17 مقعداً، وحصل تياران إسلاميان آخران هما حزب الأمة الوسط بزعامة سامي الساعدي، والوطني الوسطي بزعامة علي الترهوني على مقعدين لكل منهما.

وحصل حزب الاتحاد من أجل الوطن بزعامة عبدالله السويحلي المنتمي إلى مصراته على مقعدين، في حين توزعت بقية المقاعد على عدة أحزاب صغيرة بمعدل مقعد لكل منها.

غير أن مسار الحياة السياسية لم يبقَ محكوماً بالمؤشرات التي أظهرتها الانتخابات الأولى، بل تحكمت به عوامل أخرى أبرزها الولاءات غير المعلنة للنواب الــ 120 المنتخبين على القوائم الفردية، والذين برزت أهميتهم عقب تزايد الاستقطابات بين الأحزاب والتيارات المتنافسة والفشل المستمر للحكومة، هذا إلى جانب قوة الميليشيات على الأرض وسعيها إلى فرض جداول أعمالها القبلية والجهوية والفئوية.

لقد أسفرت انتخابات المؤتمر الوطني العام في يوليو/تموز2012 عن هيمنة تحالف الإسلاميين المكون من حزب العدالة والبناء – الإخوان المسلمين – والجماعة الليبية المقاتلة السابقة وقوى «جهادية» انخرطت في العمل السياسي وتحالفات قبلية وميليشيات، على مؤسسات الدولة الانتقالية، ونجحت في تقليص المساحة السياسية التي حازها تحالف القوى الوطنية ذو التوجه الليبرالي.

ولم يمضِ وقت طويل بعد تشكيل الحكومة الليبية الأولى حتى بدأت شخصيات في الساحة السياسية تدفع باتجاه إدخال قانون من شأنه استبعاد كل من تورطوا مع النظام السابق وحرمانهم تولي مناصب في الحكومة وفي النطاق الأوسع للإدارة. بناء عليه، جاء «قانون العزل السياسي» الذي تم إقراره في كانون الأول/ديسمبر 2012، تحت ضغط الميليشيات المسلحة التي قامت بمحاصرة وزارتي العدل والخارجية، والهادف إلى حرمان أعضاء النظام السابق المشاركة في الحياة السياسية.

وقد اشتعل الخلاف بعد أن قام النواب بتجديد ولاية المؤتمر الوطني العام قبل فترة قصيرة من انقضاء فترة ولايته الأصلية في السابع من شباط/فبراير 2014‏.

ولا شك في أن هذا القانون سوف يكون له الأثر الكبير في الحياة السياسية في ليبيا واستقرارها، على المديين القريب والمتوسط بحسب الآلية التي سوف تعتمد من أجل الفصل بين من يستطيع أن يشارك في الحياة السياسية في ليبيا ومن لا يحق له المشاركة بموجب هذه القانون.

ومع تصاعد الأزمة السياسية أعلن اللواء المتقاعد آنذاك بالجيش الليبي، خليفة حفتر، عن إطلاق ما أسماها «عملية الكرامة»، في بنغازي في 16 أيار/مايو 2014، لمحاربة الإرهابيين والتكفيريين، وتبع ذلك هجوم لقوات «الزنتان» على المؤتمر الوطني العام في محاولة لاعتقال ممثليه وحله بالقوة.

في المقابل هاجمت قوات «فجر ليبيا» كتيبتي «القعقاع والصواعق» المتمركزتين منذ سنوات في مطار طرابلس الدولي وانتزعته منهما، لتبدأ مرحلة التغييرات الكبيرة. فقبل تلك العملية كان يسود البلاد صراع سياسي بين أحزاب ليبرالية وأخرى إسلامية داخل ردهات المؤتمر الوطني العام والحكومات المتعاقبة.

لكن بعد انتخاب مجلس النواب في تموز/يوليو 2014 (حل محل المؤتمر الوطني ثم قضت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستوريته)، أبدى المجلس، الذي يعقد جلساته في مدينة طبرق، دعماً لعملية حفتر بلغ حد اعتبار قواته «جيشاً نظامياً»، ثم ضم المجلس «عملية الكرامة» إلى عمليات ما يسميه بـ «الجيش»، وقرر إعادة حفتر إلى الخدمة العسكرية، بحيث أضحى هناك حكومة وبرلمان في طرابلس وحكومة وبرلمان في طبرق، فضلاً عن قوة عسكرية هنا وأخرى هناك يسميها كل فريق «الجيش».

فمع حكومة طرابلس يصطف 11 كياناً مسلحاً، هي: «قوات فجر ليبيا»، و«درع الغربية»، و«تنظيم أنصار الشريعة»، و«درع الوسطى»، و«ثوار مصراته»، و«كتائب الدروع»، و«مجلس شورى ثوار بنغازي»، و«كتيبة راف الله السحاتي»، و«تنظيم مجلس شورى مجاهدي درنة وضواحيها»، و«تنظيم شباب شورى الإسلام»، وأخيراً «كتيبة الفاروق».

على الجهة الأخرى، مع حكومة طبرق، يصطف 12 كياناً عسكرياً، وهي: ما يسمى «قوات رئاسة أركان الجيش»، و«قوات حرس المنشآت النفطية»، و«كتائب الزنتان»، و«درع الغربية»، و«كتائب ورشفانة»، و«صحوات المناطق»، و«كتيبة حسن الجويفي»، و«كتيبة 319 التابعة للجيش»، و«كتيبة 204 دبابات»، و«كتيبة 21 صاعقة»، و«قوات الصاعقة»، وأخيراً «كتيبة محمد المقريف».

تتقاطع القوى السياسية في الساحة الليبية مع تحالفاتها من الميليشيات العسكرية، فتتشابك السياسة مع القوة العسكرية لتنتج وضعاً فريداً ومقلقاً، ويعود ذلك إلى غياب واضح وخطير لمظاهر الدولة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية المبنية على أسس وطنية، وتقوم الدولة الليبية على ثلاث مرجعيات، القبيلة والمدينة والجهة (الإقليم). وتعبر الفئات عن ردود فعلها وقلقها عبر توظيف القوة وعمليات مسلحة واغتيالات ومحاصرة المؤسسات.

يتبع

***

محمد عبدالحفيظ الشيخ – عميد كلية القانون، جامعة الجفرة ـــ ليبيا

_____________

مركز دراسات الوحدة العربية

مقالات