د. يوسف محمد الصواني
تمهيد:
بداية لعلّ من المفيد الإشارة إلى أن التعابير السياسية الساخرة والنكتة لم تشكل في الماضي مكوِّناً بارزاً في الثقافة الشعبية وتمثلاتها اليومية في الحوار الشعبي، كما أن الليبيين لم يتداولوا خلال أربعة عقود خلت الطرفة أو النكتة بقدر كبير.
يرتبط ذلك في الحقيقة بكون نظام القذافي فرض سيطرة شاملة جعلت الليبيين يحجمون عن المخاطرة بمخالفة الرواية الرسمية، ويفضلون الهمس على التصريح كلما اتصل الأمر برؤاهم أو مواقفهم السياسية بوجه عام.
وضمن ترتيبات الدولة الشمولية المتسلطة وسعيها الدؤوب للهيمنة والتغلغل في بنى المجتمع وفئاته المختلفة، قامت السلطة بإنشاء إدارات متخصصة بالتعبير الشعبي تجاه السياسة سواء في شكل النكت أو الملح والطرائف والتعابير السياسية الساخرة أو في بث ومقاومة الإشاعات ذات الطابع السياسي أيضاً.
كما كان اختصاص متابعة ورصد وتحليل الرأي العام واتجاهاته وتعبيراته الظاهرة من اختصاص الأجهزة الأمنية.
من هنا انصرف الليبيون عن هذا الصنف من التعبير وخلت الحياة اليومية في حواراتها الشعبية تقريباً منه ومن النقد السياسي، وهو ما عكس بوجه عام ما يمكن للدكتاتورية أو النظم الشمولية فعله ليس بالحريات فقط، بل بالمزاج الشعبي أيضاً.
إن فهم هذه الظاهرة يقع عموماً ضمن ما قدمه علماء السياسة والاجتماع من نظريات وتحليلات تتعلق بكل تعبيرات الدكتاتورية والشمولية، وهو ما برز بصورة خاصة في الدراسات المتعلقة بشرق أوروبا؛
وقد سجل الدارسون التقنيات والآليات التي استخدمتها هذه النظم ليس في قمع أي تعبير للرفض أو المعارضة فقط، بل إعادة إنتاج الثقافة السياسية في بلدانها جملة وتفصيـلاً. ومن المؤكد هنا أننا سنستحضر كتابات جورج أورويل الشهيرة مثل مزرعة الحيوانات و1984 وغيرها من الأدبيات التي سجلت سطوة القمع على إنسان العصر وأساليبها المختلفة.
رغم ذلك فقد تمكنت تلك الشعوب من خوض غمار الثورة وإسقاط الشمولية، ولاحظنا كيف أمكن لما أسماه فاتسلاف هافيل «قوة من لا حول لهم» إنتاج ثقافة المواجهة التي كانت تنمو تحت الأرض وبخاصة في المساجد والنقابات لتنتج مزاجاً وروحاً شعبية كانت انتفاضتها التعبيرية الثورية عارمة بالقدر الذي كان كافياً للإجهاز على الشمولية.
ولعل من المفيد هنا أن نذكر أن الدراسات المعاصرة للثقافة السياسية في هذه البلدان تظهر خلوَّها تقريباً من أي مكونات ذات صلة بعمليات التوجيه والتنشئة التي باشرتها الشمولية بشكل يوحي وكأن تللك النظم لم تقم أصـلاً.
إن اللجوء إلى التعابير الساخرة، أو النكتة والطرفة السياسية، أثبت في مختلف التجارب الإنسانية أنه وسيلة تعبير عن المعارضة في حدها الأدنى في مواجهة النظم التسلطية ولم تتجاوز كونها سلاحاً لمن لا حول ولا قوة لهم أمام ملاحقة تلك النظم للإنسان بحجج ودعاوى مختلفة ارتدت في أغلب الأحيان قفازات الأيديولوجيا بمستوياتها وتمثلاتها المتعددة.
لذلك تكون التعابير السياسية الساخرة أبرز مظاهر التعبير عن الواقع السياسي وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكومين وما يمكن أن يكتسي تلك العلاقة من توتر أو تصادم.
بهذا التوصيف تتأرجح هذه الأصناف من الثقافة الشعبية بين «الدفاع عن الذات ومحاولة المقاومة والتعبير عن الرفض وعدم التقوقع، وبين الانسحاب الفعلي والانكفاء نحو مناطق أقل ضرراً والاكتفاء بالقليل».
تنظر هذه الدراسة في التحول الذي طرأ على التعابير الساخرة التي أنتجها الليبيون، وبخاصة في عهد القذافي وفي عام سقوط نظامه مقارنة بما تم إنتاجه بعد سبع سنوات من انطلاق الاحتجاجات عام 2011 وسقوط النظام وانحدار البلاد إلى حالة هي أقرب ما تكون إلى الدولة الفاشلة والحرب الأهلية متعددة المستويات.
وتسعى الدراسة لبيان التحول الكيفي في التعابير الساخرة في الثقافة الشعبية الليبية عبر ما تم تبادله من رسائل نصية عبر الهواتف المحمولة وبخاصة ما يتعلق بعيد الأضحى وبالأضحية ذاتها، علاوة على الحالة الاقتصادية المتردية.
كما تهدف الدراسة إلى تقديم تفسير لهذا التحول ومضامينه وصلته بالوضع السياسي.
…
يتبع
***
د. يوسف محمد الصواني ـ أستاذ جامعي ذو خبرة طويلة في البحث العلمي والاستشارات. مختص بالسياسة والعلاقات الدولية مع اهتمام خاص بالشؤون الليبية وخاصة السياسة الخارجية والأمن .
_______________