د. حامد عبدالعاطي آلعبيدي

تعليمات جديدة

أرسلت بالفعل في اليوم الأول من وصولي رسالة إلى جميع مساعدي العرب أطلب منهم أن يجدوا لي مستودعات بنزين أو وقود كبيرة (إن أمكن بدون حراسة) وقد أعطيت نفس التعليمات لكل مخبر عندما دخل إلى معسكري يحمل أخباراً؛

لقد أرسلت من رجالي ما استطعت إلى أجزاء مختلفة من الجبل في مهمة مماثلة. ولمنع اكتشاف النوايا، والذي قد تكشفه وتسببه أي تحقيقات وأعمال انتقامية، جعلت الجميع يعتقدون أنه عندما يتم العثور على مستودعات البنزين، فسوف يتم قصفها من الجو.

وبمجرد أن تمكنت من تحرير نفسي من الواجبات الإدارية، ذهبت واستدعيت عبدالجليل بوالطيب، مستشاري الروحي، وأقنعته بضرورة مهمتي. لقد تذكر أنه ربما يعرف رجلاً سيكون قادرًا على مساعدتي، ووعد بإرساله بمجرد العثور عليه.

بعد يومين، في مقري الرئيسي، أحضروا لي عربياً رث الثياب قصيراً نحيفاً إلى حد ما. لقد تجاوز عن كل المقدمات ما عدا المجاملات البسيطة، وبصوت خفيض ومتعمد بشكل غريب قال إن اسمه محمد العبيدي، أرسله الشيخ عبد الجليل بو طيب، وإنه يعرف مستودعاً للوقود الإيطالي في جوار مكان يُدعى القُبة (أو كما يسميه الإيطاليون: جيوفاني بيرتا)، وإن خيمته ليست بعيدة عن المستودع، وإنه يعرف المنطقة جيداً. وبعد أن قال كل هذا، وقف صامتًا منتظرًا.

كان وجهه متأملًا، وبدا وكأنه يتبع نمطًا معقدًا من التفكير الداخلي. رجل جاد، قاتم، قليل الكلام، عندما يكون راضياً أو سعيداً، وهو ما يحدث نادرًا، لا يضيء ملامحه سوى طيف ابتسامة.

كان جنديًا عجوزًا، أمضى حياته في قتال الإيطاليين، وكان يعرف فضائل الصبر الطويل والعمل السريع على حد سواء. لقد أحببته منذ اللحظة الأولى.

أخذ الاستجواب مجراه:

هل تعرف مستودع الوقود؟

نعم.

هل رأيته بنفسك؟

كنت فيه.

كيف تعرف أنه يحتوي على البنزين؟

لقد رأيت البراميل السوداء.

كم عدد البراميل الموجودة؟

لا أعرف.

هل يوجد ألف برميل مثلاً؟

أجرى عملية حسابية ذهنية وقال: “أكثر“.

ألفان؟

لا أعرف.

متى تم إنشاء مستودع الوقود هذا؟

في الشتاء، بعد وقت قصير من عودة الإيطاليين بعد رحيل القوات البريطانية.

هل تم استخدامه منذ ذلك الحين؟

لا.

أين يقع مستودع الوقود؟

قرب منازل القبة إلى الشرق. جنوب الطريق.

كم يبعد عن المنازل؟

لا أعرف. قريب!

هل تستطيع رؤية المنازل من مستودع الوقود؟

يمكنك رؤية الحصن.

هل يوجد حارس؟

لا، يوجد سياج سلكي شائك على الأعمدة.

هل يوجد أي قوات في الحي؟

هناك معسكر الخيام شمال الطريق. في القرية توجد الورش حيث يصلح الإيطاليون الشاحنات، والمتاجر حيث يوزعون الحصص الغذائية. في الليل، تدخل الشاحنات التي تسير على الطريق إلى موقف السيارات (كانت القبة في ذلك الوقت نقطة انطلاق على خط الاتصال الألماني الرئيسي).

هل يمكن رؤية مستودع الوقود من الجو؟

لا أعرف.

هل براميل البنزين مغطاة؟

لا. ولكن هناك أشجار والمكان كله مغطى بالشوك.

هل يمكنك أن تأخذني إلى مستودع الوقود؟

يمكنني أن آخذك داخل السلك ليلاً. لا توجد صعوبة.

حتى لو كنت أرتدي الزي العسكري؟

حتى لو كنت بالزي العسكري.

أحببت محمدالعبيدي أكثر فأكثر. كانت معلوماته دقيقة ومباشرة. كُنت متأكدًا من أنه لا يمزح. وإذا كان هناك حقًا أكثر من ألف برميل من البنزين سعة أربعين جالونًا في ذلك المخزن ونجحت في تفجيره في اللحظة المناسبة، فقد يكون هناك قدر ضئيل من الذعر واليأسفي معسكر العدو بعد كل شيء.

لقد أخبرت تشاپمان أنني سأغادر إلى القبة. بعد ظهر اليوم التالي، اصطحبت شيڤالييه معي وأحد العرب، وطلبت منه أن يرسل فرقة تفجير وتدمير مكونة من ثلاثة عرب تحت قيادة شورتن تكون على اهبة الاستعداد حتى أرسل التعليمات. كان شورتن في مخزن المؤنة في وادي القرنه، ولكن من المقرر أن يعود بعد يومين.

أنشروا الذعر واليأس
في تلك الليلة، وصلتني رسالة على اللاسلكي، مفادها: “أنشروا الذعر واليأس“. لذا فقد حان الوقت، كما اعتقدت، حيث بدأ الجيش الثامن الهجوم. كان التاريخ، على ما أعتقد، 18 أيار (مايو) 1942. في اليوم التاسع عشر، في وقت متأخر من بعد الظهر، انطلقت مع شوڤالييه ومحمدالعبيدي وأحد العرب من الرّتيّم.

تم توقيت الرحلة لتأخذنا عبر طريق مرتوبة حوالى الساعة الثانية صباحًا والوصول إلى سيدي بوحلفايا قبل شروق الشمس. عندما وصلنا هناك، أخذنا محمدالعبيدي إلى خزان مياه روماني ضخم جاف محفور في الصخر يقع أعلى نتوء صخري. تم ترك الخيول للرعي، استرخينا وشربنا الشاي في الخزان المكون من ثلاث غرف، والذي كان من المقرر أن يكون منزلنا للأسبوع التالي.

عند الفجر، شققت طريقي بحذر إلى الحافة الغربية للنتوء.

على بعد بضعة أمتار من فتحة الخزان، كان ينحدر جرف عمودي على ارتفاع ثلاثمئة قدم إلى الوادي أدناه. على يساري، على بعد نصف ميل على الجانب الآخر من الوادي، كان بإمكاني أن أرى مستودع ذخيرة إيطالياً مع شاحنات محملة، وإلى اليسار، امتدادًا من طريق مرتوبة الالتفافي حيث بدأت القوافل اليومية تثير الغبار. إلى اليمين، انفتحت بانوراما واسعة على الأفق على بعد ستة أميال.

أمامنا النصب التذكاري الإيطالي الطموح الذي يقف على التلال خلف القُبه. كنا نتناوب أثناء النهار، أنا وشيڤالييه، على النوم ومراقبة مستودع الذخيرة الإيطالي من خلال نظاراتنا.

استطلاع الهدف

قد يوفر هذا المستودع هدفًا بديلًا مفيدًا، إذا لم يكن من الممكن، لسبب ما، محاولة الوصول إلى مستودع البنزين في القبه، وطلبت من شيڤالييه استطلاعه عن قرب في ساعات الظلام من الليلة التالية، آخذًا معه جندينا الليبي، بينما ذهبت إلى القبة مع محمد العبيدي.

بدأت فور حلول الظلام مبكرًا جدًا حقًا لأننا كنا منزعجين جدًا من نباح الكلاب واضطررنا إلى استعمال طرق ملتوية متكررة لتجنب الخيام العربية حيث لم يكن السكان نائمين بعد. لم أكن أرغب في أن يراني أي شخص على مقربة من مركز مهم للعدو.

ومع ذلك، بالكاد كان من الممكن تجنبه وعندما ظهر فارس قادمًا نحونا مباشرة، كان علينا التوقف والترحيب به، لأن أي مسار آخر كان سيجعلنا مشبوهين. وبينما كان محمدالعبيدي، الذي تغير سلوكه الصامت المعتاد، ينخرط في حديث طويل مع الفارس (عربي عائد إلى خيامه بعد يوم قضاه في القبة)، أطلقت بعض العبارات غير مفهومة وانجرفت بعيدًا عن الأنظار في الظلام:

سمعت محمدالعبيدي يشرح سلوكي الفظ قائلاً إنني تاجر ثري من واحة جالو أسافر إلى درنة وأنني غاضب جدًا وجائع لأن محمد، مرشدي، قد أخطأ وضل طريقه.اعتقدت أن القصة لن تصدق، لكن الرجل الآخر تقبلها بلباقة وتعاطف مع محمدالعبيدي بشأن المتاعب التي يواجهها المرشد.

عرض أن يأخذنا إلى خيمته ويقدم لنا وجبة، لكن مرشدي تمكن من التحرر بأدب وانضم إلي، بضحكة مكتومة. يجب أن ندرك أن محمد العبيدي هو الرجل الذي خاطر بحياته في هذه المغامرة، وليس أنا: إذا حدث الأسوأ، أصبح شخصياً أسير حرب محترمًا، ولكن صديقي الذي يصحبني كان هناك احتمال قوي أن ينتهي مُعَلقًا بخُطاف حديدي في الفك (تعليق من يتعاون من البدو الليبيين بخطاف من الفك وهم أحياء كانت هي الطريقة المفضلة لدى المستعمر الإيطالي لردع تعاونهم مع الإنجليز والحلفاء. لقد كانت تلك هي الطريقة الإيطالية اللطيفة في التعامل مع العرب الساخطين او العاصين).

بعد ذلك بقليل، نزلنا إلى خيمة شقيق محمد العبيدي، حيث تركنا خيولنا ومشينا لمدة عشر دقائق إلى مستودع الوقود.

كانت الخيمة محاطة بسياج ريفي من ثلاثة أسلاك تغطي حوالي عشرة أفدنة من الأرض الشائكة، المرصعة بالأشجار والمغطاة بأشواك جافة طويلة.

كان البنزين موضوعًا في مجموعات من 25 إلى 30 برميلاً ملقاة بالقرب من بعضها البعض على الأرض. كانت المجموعات متناثرة بشكل غير منتظم بين الشجيرات، ولكن لم يكن من الصعب تمييزها، حتى في هذه الليلة التي لا يشرق فيها القمر. لمدة ساعتين مشيت ذهابًا وإيابًا داخل السلك، أحصي المجموعات وأدون ملاحظات ذهنية عن المعالم.

وجدت 96 مجموعة: بمعدل 27 برميلاً لكل مجموعة، تحتوي كل منها على أكثر من مئة ألف جالون من البنزين. بدا الأمر جيداً تساءلت عن أي عقبة قد تواجهنا؛ باستثناء واحدة أو اثنين، كانت جميع البراميل التي رفعتها ثقيلة وممتلئة على ما يبدو. باستخدام أداة أحضرتها معي، قمت بفك بعض السدادات وتأكدت من أن المحتويات كانت بنزيناً بالفعل. لقد افادني وخدمني محمد العبيدي في هذا جيداً.

يتبع

***

د. حامد عبدالعاطي آلعبيدي مستشار في الشأن الجيوسياسي. ابن رئيس وزراء ليبيا الاسبق الراحل الاستاذ عبدالعاطي ابراهيم آلعبيدي

_______________

مقالات