يزيد صايغ
ضبط الجريمة، تجريم ضبط الأمن
الكثير من المواطنين والمقيمين في الدول العربية، خصوصاً ولكن ليس حصراً تلك التي تمرّ في مراحل انتقالية، يعتبرون أن الوحشية والإفلات من العقاب والفساد أمور متأصلة في قوى الشرطة الوطنية.
صحيح أن أشكال وحجم الفساد من حالة إلى أخرى، لكنها تشمل عموماً انتزاع الرشاوى نظير الخدمات الإدارية، وعمليات الابتزاز الصغيرة وفرض الخوات على المتاجر والشركات، وتزوير سجلات الموظفين وجداول المرتبات، والاحتفاظ بأموال سرية لصالح كبار الضباط، وشراء الترقيات والتعيينات لتأمين الحصول على رواتب أعلى أو مُغرِيَة لاستغلال المنصب العام لتكوين دخل خاص.
يكشف ما أطلقت عليه سارة تشايس، مؤلفة كتاب “Thieves of State” (لصوص الدولة) “التكامل الرأسي لشبكات السرقة” من أسفل إلى أعلى التسلسل الهرمي في قطاع الأمن، بروز تحوّل إجرامي لضبط الأمن سبق في معظم الحالات هذه المراحل الانتقالية في الدول العربية، لكنه ازداد بعدها.
وهذا يرسّخ معارضة قطاع الأمن للإصلاح، في الوقت الذي يؤدّي فيه وهن مؤسّسات الدولة التي تمرّ في حالة انتقالية إلى تقويض قدرة أقسام التدقيق الداخلي المتواضعة في وزارات الداخلية وأجهزة الرقابة الحكومية والسلطة القضائية على مراقبة الممارسات والحدّ من التجاوزات.
الكثير من المواطنين والمقيمين في الدول العربية يعتبرون أن الوحشية والإفلات من العقاب والفساد أمور متأصلة في قوى الشرطة الوطنية.
تكشف استطلاعات رأي المواطنين وقطاع الأعمال عن المدى الذي يعتبر فيه الفساد متفشياً في صفوف الشرطة. فوفقاً لـ“بوابة مكافحة الفساد في مجال الأعمال” على الإنترنت، كان غالبية المواطنين المصريين، في العام 2013، يعتبرون أجهزة شرطتهم فاسدة، كما هو حال ثلث العراقيين.
وفي العام نفسه، صنّف أكثر من ثلثي التونسيين شرطتهم على أنها مؤسّسة الدولة الأكثر فساداً، وقال 10 في المئة من الذين شملهم الاستطلاع إنهم دفعوا رشوة لضابط شرطة. وبالمثل أفاد المركز اليمني لقياس الرأي أن 75 في المئة من المشاركين في استطلاع أجري في العام 2014 قالوا إنهم لايثقون بقطاع الأمن بسبب “الفساد الصارخ والمحسوبية” فيه.
في حين أظهر استطلاع منفصل أن الأغلبية الساحقة من المواطنين في ثماني عشرة من محافظات البلاد الإحدى وعشرين لم يلجأوا إلى الشرطة أو وكلاء النيابة أو المحاكم لتجنّب الابتزاز المالي.
يُعتبر تدنّي الأجور أحد الأسباب الرئيسة للفساد بين معظم ضباط الصف. في مصر، على سبيل المثال، حصل ضباط الشرطة من ذوي الرتب الأدنى على رواتب شهرية تبلغ حوالى 800 جنيه مصري في العام 2014 (115 دولاراً في ذلك الوقت)، مادفع الكثيرين للتعويض عن ذلك عن طريق المطالبة بخدمات وسلع مجانية من الجمهور، خاصة في المناطق ذات الدخل المحدود، أو انتزاع الرشاوى الصغيرة عن طريق تهديد الناس بالاعتقال.
وانتشرت ممارسات مثل “الدرج المفتوح“، والتي ينتزع فيها العاملون الإداريون في وزارة الداخلية رشاوى في مقابل تجهيز بطاقات الهوية ورخص القيادة وسواها من المستندات اللازمة للمواطنين.
اختفت هذه المنافع الإضافية على الخدمة، إذا جاز التعبير، عندما تراجع قطاع الأمن في أعقاب انتفاضة العام 2011 وفقد قدرته على ترويع المواطنين. أضعفت الخسارة تماسك القطاع، فقد امتعضت الرتب الدنيا في نهاية المطاف من المرحلة الانتقالية لأنه لم يتم اقتناص الفرصة للقيام بإصلاحات شاملة.
وقد أضربت الشرطة المصرية مراراً وتكراراً على مدى العامين التاليين، إلا أن وزارة الداخلية أبقت على الحظر على تشكيل اتحادات الشرطة، وبالتالي بقيت الجهود التي بذلتها الشرطة ضمن إطار محلّي متفرِّق للغاية ولم تمتد إلى كل أنحاء البلاد.
مصر ليست وحدها في مكابداتها. ففي تونس، وعلى الرغم من أنه تم إضفاء الصبغة القانونية على اتحادات الشرطة بسرعة التي ضغطت على الفور تقريباً بهدف رفع الأجور وتحسين شروط الخدمة، أصبح الفساد على المستويات الدنيا والخوات متوطِّنَين.
وفي الوقت نفسه، عوَّضت الشرطة في اليمن ضعف الأجور عن طريق العمل الإضافي، وفي بعض الحالات عن طريق التسجيل في وظيفة ثانية في جهاز الدولة الإداري سيئ التنظيم. وفعل الآلاف من رجال الميليشيات الذين تحوّلوا إلى رجال شرطة في ليبيا الشيء نفسه، وكانوا يحضرون إلى أماكن عملهم لاستلام رواتبهم وحسب.
وفي العراق، حيث قيل إن ضباط الشرطة من ذوي الرتب الدنيا الذين كانوا ملزمين بتسليم جزء من رواتبهم لرؤسائهم، وهو العبء الذي عانى منه أيضاً نظراؤهم المصريون، سعوا إلى تعويض خسائرهم عن طريق ابتزاز المال من المعتقلين الذين هم في عهدتهم.
وفي الجزائر، يُزعم أن الشرطة تأخذ الرشاوى بصورة روتينية لتزوير الوثائق، مثل تقارير الحوادث والتوسط في التسويات بعيداً عن السجلات الرسمية في الحالات التي تندرج في العادة ضمن اختصاص المحاكم الجنائية، في حين أن دائرة الاستعلام والأمن (التي تغيّر اسمها إلى “مديرية المصالح الأمنية” في كانون الثاني/يناير 2016) أوجدت دخلاً عبر تيسير الوصول إلى الخدمات الطبية والإدارية للمواطنين، والتأثير على القضاة.
بالمقارنة، يتّسم الفساد في الرتب العليا، سواء في الشرطة أو الفروع الأخرى من قطاع الأمن والجهاز الإداري لوزارات الداخلية، بطابع أكثر مؤسّسية. وبالتالي فإن نطاقه وحجمه يبدوان أشمل ونتائجه أكثر خطورة.
وكما يتّضح من حالة العراق، ولاسيما اعتباراً من العام 2011 فصاعداً، فإن القادة في وضع يسمح لهم باختلاس الإمدادات واللوازم مثل الطعام والزي الرسمي والمعدات وحتى الأسلحة لبيعها في السوق السوداء المحلية، الأمر الذي أوصل السرقات الصُغرى التي يقوم بها ذوو الرتب الدنيا إلى مستويات خيالية.
وفي الوقت نفسه، باع نظراؤهم في اليمن الخدمات للمجتمعات المحلية والحماية للشركات. على سبيل المثال، أجّر القادة اليمنيون وحدة خفر السواحل الصغيرة التابعة لوزارة الداخلية للشركات الأجنبية العاملة في قطاع تصدير الغاز الطبيعي، وهو تقليد بدأ قبل عشر سنوات على الأقل من انتفاضة العام 2011.
هذا الفساد على المستوى الأعلى يتخذ أشكالاً عديدة في سياقات مختلفة. ففي مصر، وبمستوياتها الأعلى من التنظيم البيروقراطي في القطاع الحكومي، تستخدم الأرصدة السرية والصناديق السوداء – يندرج بعضها في الواقع في الميزانية العامة – لإعطاء المنح لكبار الضباط.
ووفقاً لبعض التقديرات، فإن لدى وزارة الداخلية 174 صندوقاً خارج الميزانية يعتقد أنها كانت تحوي 15 مليار جنيه مصري في العام 2015 (ما قيمته 2 مليار دولار آنذاك)؛ وعلى حد تعبير ضابط كبير في الشرطة مِن فاضحي الفساد، عبد الهادي بدوي، فقد بلغ سوء استغلال الأرصدة مستوى الوباء.
هذا، وقد تكشّف حجم سوء الاستخدام المحتمل من خلال محاكمة حبيب العادلي، وزير داخلية الرئيس السابق حسني مبارك، وأكثر من 100 من المسؤولين الآخرين الذين اتهموا جماعياً باختلاس مايقرب من 2.4 مليار جنيه مصري (306 ملايين دولار بالأسعار الحالية) من أرصدة الوزارة، والمحاكمة كانت لاتزال جارية حتى آذار/مارس 2016 21; وبرأي الناشط الحقوقي المصري كريم عمارة، لم تكن الشرطة أبداً جهاز إنفاذ قانون مهنياً، وبدلاً من ذلك “كانت تتصرف كعصابة مسلّحة أو ميليشيا لها مصالحها التي تحاول حمايتها“.
وبمعزل عن ذلك، فإن لدى وزارة الداخلية المصرية ذراعها التجارية والاستثمارية، حيث تتعهّد شركات مثل “المستقبل” مشاريع مربحة مستخدمة الأرصدة الخيرية وأرصدة الرعاية لمختلف فروع قطاع الأمن كرأس مال لها.
وعلى الرغم من أن الذراع التجارية والاستثمارية توصف رسمياً بأنها “الكيان الاقتصادي الرسمي” للوزارة، فإن انعدام الشفافية يعني أنه يجوز استثمار الأرصدة السرية وكذلك الأرصدة المسجّلة رسمياً.
ويبدو هذا الأمر أوضح في مديرية المخابرات العامة التي ظلت لعقود تستثمر في شركات توفّر لها الغطاء لتنافس للحصول على عقود تجارية، حيث تحتفظ المديرية بالعائدات. كما تفرض المديرية الأعضاء المُنتَدَبيْن على شركات القطاع الخاص في بعض مجالات اهتمامها، مثل التكنولوجيا المتقدّمة والاتصالات والتجارة الخارجية.
يعتبر التوظيف غير الرسمي مصدراً هاماً إضافياً للدخل غير المشروع. فقد خلص فريق العمل العسكري والأمني المنبثق عن مؤتمر الحوار الوطني في اليمن في أواخر العام 2013 إلى أن 100 ألف فقط من أصل 500 ألف من أفراد الجيش والأمن المسجلين، كانوا يحضرون لأداء الخدمة.
من بين الذين لايحضرون كان هناك حوالى 100 ألف ممن يسمَّون الجنود ورجال الشرطة “الأشباح“، الذين تركوا الخدمة أو لم يكونوا موجودين على الإطلاق، غير أن القادة واصلوا سحب رواتبهم.
تم حلّ بعض الوحدات خلال المراحل الأولى من إعادة هيكلة الجيش في 2012-2013، بما في ذلك عدد من جنود القبائل الذين تم وضعهم على جدول الرواتب العام لحماية شيوخهم، الذين كانوا لايزالون يحصلون على الميزانيات نفسها عندما بدأت العملية الانتقالية في العام 2014.
ولذلك ليس من المستغرب أن قطاع الأمن اليمني اعترض عندما اقترحت الولايات المتحدة وحكومات غربية أخرى تطوير نظام الهوّية الوطنية الجديد وقاعدة البيانات الحيوية الخاصة بموظفي القطاع الحكومي (لضبط والحد من هذه الممارسات)، بحجة أن من شأن ذلك أن ينتهك سرّية عامليه وأفراده.
من المفارقات في دولة لاتزال في طور التكوين أن قوات أمن السلطة الفلسطينية كشفت عن أنماط مماثلة، وإن على نطاق أضيق. ففي السنوات العشر التي سبقت انقسام قطاع الأمن في العام 2007 بين الإدارتين المتنافستين للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وحماس في غزة، تم تشجيع قادة قوات الشرطة والأجهزة الأمنية التي يزيد عددها عن اثنتي عشر على سدّ النقص في ميزانياتها من مصادر دخل غير رسمية.
أدى ذلك إلى وجود مايوازي أرصدة سريّة، وفوائد للمقرّبين، ودفع الرواتب لموظفين لايحضرون إلى العمل. وتورّط بعض كبار الضباط في نهب الرمال من شواطئ غزة وتم بيعها إلى وِرَش البناء.
ووصل الأمر ببعض كبار القادة الأمنيين إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث فرضوا رسوماً على الواردات بصورة علنية لدعم ميزانيات الأجهزة التابعة لهم، في حين كانوا يجمعون سراً ثروات شخصية عن طريق إجبار المستثمرين والمتعاقدين من القطاع الخاص على عقد شراكة مع ممثلين يعملون كواجهة لهم.
إحدى نتائج هذه الاتجاهات تمثّلت في أنه أصبح شائعاً في العديد من الدول العربية أن يشتري الضباط الترقيات أو التعيينات للرتب والوظائف التي توفر مصادر الدخل الأكثر ربحية.
في تونس، على سبيل المثال، دفع ضباط قطاع الأمن الأموال لكي يعيَّنوا في المناطق الحدودية حيث يمكنهم الحصول على رسوم من تجارة التهريب المزدهرة. وهناك نمط مماثل مُطبَّق في العراق، حيث أكّدت مصادر عديدة أن الضباط اشتروا مناصبهم عن طريق رشوة السياسيين، في حين يدفع ضبّاط آخرون لقادتهم رسماً شهرياً لتأمين الحصول على تعيينات في مهام تدرّ أكبر المداخيل والأرباح.
شملت هذه الامتيازات تعيينات تُتيح توظيف موظفين أشباح. ففي كانون الأول/ديسمبر 2014، قدّرت الحكومة العراقية أن هناك ما لايقل عن 50 ألفاً من هؤلاء في القوات المسلّحة وحدها. وقد أثّرت هذه الظاهرة أيضاً على قطاع الأمن، على الرغم من عدم توفّر أرقام قابلة للمقارنة.
أصبح شائعاً في العديد من الدول العربية أن يشتري الضباط الترقيات أو التعيينات للرتب والوظائف التي توفر مصادر الدخل الأكثر ربحية.
في حين تفيد هذه الأشكال من الفساد في الغالب كبار الضباط ومسؤولي وزارة الداخلية، فإن ذوي الرتب الصغيرة والمتوسطة متورّطون فيها أيضاً. ففي العديد من الدول العربية، توفّر بعض الخدمات الإدارية المخصّصة للشرطة فرصاً للمطالبة برشاوى كبيرة.
في لبنان، على سبيل المثال، تم نقل صلاحية إصدار رخص البناء وإنفاذ قوانين الاستخدام العقاري، الهادفة إلى منع عمليات البناء غير الشرعية أو الاستخدامات غير المرخّصة، إلى الشرطة للحدّ من حصول السلطات البلدية على الرشوة، وهي التي كانت تؤدي هذه المهام في السابق.
إلا أن هذا التغيير نقل ببساطة الممارسات الفاسدة نفسها إلى الشرطة. الأمر نفسه ينطبق على تونس، حيث تستغلّ الشرطة سلطتها في إصدار التراخيص لابتزاز أصحاب المتاجر والمصالح الصغيرة، وتهدّد من يرفضون دفع رشاوى بالإغلاق.
…
يتبع
***
يزيد صايغ ـ باحث رئيسي, مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط
__________________