يوسف لطفي
المرحلة الثالثة من الثورة الليبية
مثَّل تاريخ 19 مارس 2011 بداية المرحلة الثالثة من عمر الثورة إذ شهد في نصفه الأول مواجهات عنيفة ودامية مع قوات النظام شرق البلاد وغربها ثم شهد نصفه الثاني بداية من الساعة 6 مساءً انطلاق عملية “فجر الأوديسا” أو “الحامي الموحد” لتحالف الناتو بموجب القرار 1973 لمجلس الأمن والتي تولى تنفيذها بشكل أساسي كل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، وكانت هذه بداية التدخل الأجنبي الذي قلب الموازين العسكرية لصالح الثوار.
استمرت ضربات التحالف من الطائرات والبوارج الفرنسية والأمريكية والبريطانية، لكن كانت فرنسا الأكثر مشاركة وحماسة ففي حين أحجمت أوروبا والولايات المتحدة عن التدخل العسكري دفعت فرنسا بقوة نحو هذا الخيار، ونجحت في تمرير القرار بدعم بريطاني\أمريكي –لاحقا– كما أنها كانت أول من اعترف بالمجلس الانتقالي كممثل شرعي وحيد لليبيا.
وكانت فرنسا سباقة في إرسال وفودها للبلاد، ولم تتردد –في مرحلة متقدمة من عمر الثورة– في تجاوز حدود تفويض عملية فجر الأوديسا لتنقل المهمة من حماية المدنيين وفرض حظر جوي إلى “إسقاط النظام” عبر تكثيف الضربات الجوية والبحرية على معسكرات قوات القذافي، وإرسال خبراء ومستشارين عسكريين لتقديم الدعم للثوار .
تكبدت قوات القذافي خسائر كبيرة وأُجبرت على التراجع على إثر ضربات التحالف، ورغم تضعضع قوات القذافي وتراجعها، إلا أن ضربات التحالف في الجبهة الشرقية شهدت جمودا لفترة من الزمن، وتبع هذا الجمود ظهور خلافات بين أعضاء التحالف للعلن، فأعلنت الولايات المتحدة عن سحب معظم قواتها من المهمة وواجهت على إثر ذلك انتقادا فرنسيا لاذعا، لتعلن بعدها بأيام أنها لم تنسحب من المهمة بالكامل.
ومن خلال المواقف الدولية التي أحاطت بالأحداث آنذاك يمكن استشفاف أن الدول الرئيسية في التحالف لم تتفق على استراتيجية موحدة لهذه العملية، وفي مرحلة لاحقة بدا واضحا أن “المجتمع الدولي” لم يهدف ابتداءً لإسقاط النظام وإنما لإضعافه عسكريا والضغط عليه عبر العقوبات لإيجاد “حل وسط”.
ويعزز هذه المزاعم أن التدخل العسكري الغربي جاء بعد مرور أكثر من شهر على اندلاع الثورة وسط تردد وعزوف معظم الدول عن العمل العسكري.
وقد سبق التدخل العسكري مساع دبلوماسية ومطالبات دولية وإقليمية متكررة للقذافي بالتنحي عن السلطة للوصول لحل وسط، فبعد اجتماع الاتحاد الأفريقي مع مسؤولين بريطانيين يوم 7 مارس 2011 أصدر بيانا يدعو فيه للحل السلمي في 11 مارس 2011، ودعت الجامعة العربية أيضا في اليوم التالي لإيجاد “حل وسط”.
كما أكد على هذا المسار رئيس الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي في 13 مارس2011 بعد اجتماعه مع الجامعة العربية في القاهرة. وتتابعت الدعوات من أطراف دولية وإقليمية لدعم هذا المسار. ويبدو أن القذافي أوحى للأطراف الدولية عبر قنوات التواصل أن هذا ممكن حيث صرح رئيس الوزراء الفرنسي فرنسوا فيون، الذي أقرّ بأن مبعوثي حكومة القذافي على اتصال بالعديد من أعضاء حلف الأطلسي، أن “حلًا قريبًا بدأ يتبلور”.
وبالنظر لموقف فرنسا الحماسي من التدخل العسكري مقارنة بالدول الأخرى كانت هذه التصريحات تعبيرا واضحا عن غياب إجماع دولي على ضرورة إسقاط النظام.
لم يعارض المجلس الانتقالي –ممثل الثوار السياسي– هذا المسار إلا أنه تكتم على هذه النوايا حتى جاء إعلان مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا عبد الإله الخطيب الذي تحدث فيه عن نية الطرفين في الشرق والغرب البحث عن حل سياسي للأزمة.
كما صرح مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الانتقالي في وقت لاحق أنه كان يأمل أن يتم التوصل لحل وسط حيث قال في لقاء مع صحيفة المجلة في 21 أكتوبر 2013 : “كنت أعول على أن يكون خطاب سيف متوازنا فلو خرج به على عامة الشعب لكان بإمكانه أن يخلف والده”.
كما ذكر في نفس اللقاء أن مبعوث الأمم المتحدة عبد الإله الخطيب عرض عليه المصالحة مع النظام، فاشترط عبد الجليل إيقاف إطلاق النار وإخراج القذافي قواته من طرابلس.
كما صرح أنه كان يعول على مسؤولين من النظام لتولي زمام الأمور في المنطقة الشرقية وضرب مثالا بأبوزيد دوردة رئيس الوزراء الأسبق ومسؤول الأمن الخارجي في النظام وأكد أنه لو تولت هذه الشخصيات زمام الأمور لتمت المصالحة على حد تعبيره.
يؤكد هذا مسار الأحداث على الأرض، حيث شهدت عمليات حلف الناتو جمودا لفترة طويلة مما عطل تقدمات الثوار في الجبهة الشرقية. وقد ظلت الجبهة الشرقية مجمدة لفترة طويلة لأسباب مجهولة. وتم تعليل هذا الجمود آنذاك بكونه ضمن استراتيجية التدرج التي يتبعها الناتو.
كما تم استهداف آليات الثوار حين حاول بعضهم التقدم دون تنسيق مع التحالف، وصنفت هذه الضربات المتكررة كضربات خاطئة لحلف الناتو.
جمود الجبهة الشرقية وشدة المعارك في مصراتة وتزايد أعداد القتلى فيها، دفع العديد من المقاتلين من شرق البلاد للتوجه نحو المدينة المحاصرة عبر البحر. ومع انتقال تركيز النظام من الشرق إلى الغرب ونقله قواته من سرت إلى مصراتة لاستعادة السيطرة على المدينة، واستمرار تدفق الثوار عليها وشراسة المقاومة، فُرض واقع جديد أصبحت فيه المعركة على المدينة عامل حسم في نجاح الثورة أو فشلها.
ورغم شدة المعارك منذ الأيام الأولى إلا أن حلف الناتو لم يبدأ بتوجيه ضربات لقوات القذافي المحاصرة للمدينة إلا يوم 12 إبريل 2011، وهو ما قوبل باستهجان من الثوار”.
وفي المجمل فإن الموقف الدولي من التدخل شهد ترددا وعزوفا كبيرا من معظم الدول –حتى تلك التي شاركت في القصف– كما أن الخلافات الدولية على قيادة العملية وتذبذب الموقف الأمريكي الداخلي سبب ربكة، وربما لولا الإصرار الفرنسي والتماهي البريطاني الأمريكي معه لم نكن لنشهد تدخلا عسكريا البتة.
مع سقوط المنطقة الشرقية في يد الثوار برزت الحاجة لتمثيل سياسي يعبر عن مطالبهم. فأُعلن عن تأسيس المجلس الوطني الانتقالي يوم 28 فبراير 2011 بعد اجتماع في مدينة البيضاء يوم 23 فبراير 2011 عقده عسكريون ومسؤولون منشقون عن النظام وقادة قبائل وشخصيات محلية أخرى تفاوتت بين محامين ورجال أعمال ونشطاء.
تشكل المجلس في معظمه من شخصيات منشقة عن النظام، فكان على رأسه مصطفى عبد الجليل –وزير العدل سابقا–، ووزير الداخلية عبدالفتاح يونس الذي أصبح قائدًا عسكريًا –إلى أن اغتيل في 28 يوليو 2011.
وتولى إدارة المجلس التنفيذي محمود جبريل –أمين مجلس التخطيط والتطوير الاقتصادي– كما ضم المجلس معارضين مغتربين كعلي الترهوني ومحمود شمام وغيرهم من شخصيات لازالت مجهولة حتى اليوم، فالمجلس بدأ بثلاثين عضوًا وتضخم حتى تجاوز ثمانين عضوا كما أنه أبقى على سرية بعض أعضائه لأسباب أمنية آنذاك.
شاب هذا التمثيل الكثير من الغموض ونتج عن هذا توتر وانعدام ثقة في المجلس من قبل أهالي بعض المناطق ومعظم الثوار المقاتلين ،إلا أن ضرورة المرحلة دفعت الجميع للتغاضي عن مخاوفهم المشروعة حتى يتم التحرير. وقد نجح المجلس الانتقالي على الصعيد الخارجي بسبب الدعم الدولي إلا أنه كان فاقدا للشرعية الثورية في الداخل لاكتظاظه بمسؤولين من النظام السابق وشخصيات أخرى صنفت “غير ثورية” في تقييم الشارع الليبي.
وكان هناك فصام واضح منذ الأيام الأولى بين التمثيل السياسي للثورة وقواها العسكرية على الأرض. ومع سقوط نظام القذافي وتحديد منتصف 2012 موعدا للانتخابات، بدأت عمليات الاستقطاب السياسي والمناطقي وآثارها تظهر بوضوح.
…
يتبع
_______________