رامز رمضان النويصري

حسم الأشياء التي تتعلق بمستقبل هذا البلد في يد الشعب ، وإذا كان على هذا الشعب أن يتخذ قراراً مصيرياً وصعباً ينبغي أن يتحمله بشجاعة ومسؤولية ، فإنّه أي الشعب وحده يستطيع أنْ يقول الكلمة الفصل ، عندها وحسب يكون مؤهلاً أن يمتلك كل السلطات وأنْ يكون جديراً ببناء دولة عصرية في مواجهة نواميس الغلاة والعنف المدمر الذي ينتهك حقوق المواطنين ويستهجن بامتهان آدمية الإنسان.

ماذا يضير هذا البلد إذا استحضر لحظة تاريخ الشروع في البدء في تأسيس مشروع بناء الدولة – رغم القطيعة البشعة التي أستس لها الإنقلاب العسكري – وذلك من أجل الحفاظ على ذلك الإرث والبناء عليه ومن أجل أن يكون هذا الشعب أهلاً له.

وإذا كان الأمر يبدو كذلك ، فما الذي يجعل هذا البلد ليس من أمامه إلا الطاعة الصامتة والسير على ما سوف ترسمه وتسنه له النخب العشائرية عبر عقد تحالفاتها المستوحاة من تجاربها القديمة وركوب جناح الدرجة الأولى في قطار ” الديمقراطية” والفردوس الحداثوي على الأرض.

فما الذي والحال هذا ذلك الذي لا يعوّل عليه في هذه اللحظة التاريخية المليئة بالمداورة والمناورة وبنظريات المؤامرة البائسة؟

1- الثقافة التي تمحو ذاكرة المخيال الجمعي الليبي دون البحث عن الأساس التاريخي لدستور 1951، لا يعول عليها:

في خضم مأزق الواقع ينتصر المثقف النخبوي والسياسي الاكاديمي لإختياراته الفكرية المتحيزة لإقرانه الفئويين – حسب انماطها المؤدلجةمتماهياً مع فرادة قراراته وانتمائيه السياسي القديم تعبيراً عن القناعة بما يمليه عليه الوعظ في الكلام السياسي، وقد أصبغ عليها اطلالة مبتسمة باسمال جديدة مزدانة بعلم الإستقلال من اجل اقتسام خيرات الثقافة السياسية الجديدة ذات الروح الفضائية وذات الفيض الإلكتروني الغامر بترف الحكمة غير المتناهية في الخرس في واحاتها المتناثرة في الفضاء السديمي واقتسام خيرات النفط سطواً ولصوصية في تبادل المنافع من سفراء انتهازيين ومارقين وملحقين عسكريين لم ينجحوا في البحث عن السبل التي يمكنها أن تساهم في الحرب ضد غياب الأمن داخل ليبيا إلى انتهاكات خارج نطاق العدالة والتحصن بها.

2- كل فكرة دستور جديد تلغي دستور 1951 وتقفز بزهوٍ فوق كل تضحية قدمها أباء الإستقلال فداءً له ،لا يعوّل عليها:

 هذا الإنتصار لفكرة استبعاد وعزل دستور 1951 مع الإلحاح عند هذه النخب على صياغة دستور جديد هو موقف ينطوي على احتقار للإرث التاريخي الدستوري الذي شيده الرواد المؤسسين.

ثمّ أنّ الحرص على ” دستور جديد” حيث تغطيه الكلمات والشعارات وكل ضروب المعاندة المبشرة بدولة مدنية دستورية فلا يبقى له من أي مدلول حقيقي وواقعي فيما هكذا تظل غطرسة هذه النخب الفئوية تلغي دستور 1951 وتنصاع لفكرة الإنقلاب العسكري لتكرار نفس الخطئة بطرق مختلفة وهي خطئة عانى منها هذا البلد طوال العقود السوالف.

وهو حرص ينطوي فوق ذلك على بتر الواقع ولا ينفتح على كل شرائح المجتمع وثقافاته ولغاته ومذاهبه لمعرفة ماالذي يفكر فيه الرأي العام المتعدد في شأن دستور 1951.

3- الدستور الجديد الذي لا يشهد الحق في مواده إذا إقتبس من دستور 1951 وبرقع مواده به لإزاحته وطمسه أصلاً ولا يصرح بذلك وإن جعله أحد مصادره التي يتفضفض بها ، لا يعول عليه:

 وفي خضم حصر دستور 1951 في خانة المجهول بالبنان الواضح والفصيح تمّ السطو على بعض مواده نسخاً ولصقاً حيث اُدرجت ضمن مواد ” الإعلان الدستوري” الذي صدر عن ” المجلس الإنتقالي” عن جدارة واستحقاق من دون مراعاة الإشارة إلى المصدر.

والحال هذا ، فهل يرضى الساسة الديمقراطيون وأهل العقد والحل ” الهيئة السياسية” بالتنازل عن بعض كبريائهم الفكري والأيديولوجي والسياسي ويعترفوا أمام هذا البلد بأنّ عملية سطوٍهم الكسولة لبعض مواد دستور 1951 على أنّها بعض مصادر دستورهم إنْ هي إلا همة عالية ونافذة على الغائه مرة أخرى إسوة بفعلة الإنقلاب العسكري سنة 1969م كأن شيء لم يحدث؟

4- كل تجمع سياسي أو مؤتمر وطني أو هيئة تأسيسية تتحرك بشهوة السلطة والهيمنة والمناهج الإحتكارية لإلغاء دستور 1951 ، لا يعول عليه:

دعاة الدستور الجديد يحكمون على الإرث الدستوري انطلاقاً من مفاهيم غير نابعة أصلاً من صلب دستور 1951 وإنّما من مكابرة عنيدة ورثتها من اشتات الأيديولوجيات المبعثرة العتيقة والبائسة التي برع فيها الخطاب العربي السياسي المعاصر ومن وثائق بالية لا ينفعها الترقيع ولا الترميم ولا تقول ايما شيء أصلاً ، وهي مكابرة تزداد غرقاً في المبهمات والمجهول في واقع ملتبس لا يفتأ يتجاهل هذا الدستور.

 فالتفكير في بناء دولة حسب اهواء النخب الفئوية هو تفكير بكائن لا وجود له وتربيع للدائرة ، تفكير يصلح لايما موضوعات ومشروعات أخرى سوى موضوع بناء الدولة بالذات.

 فماذا يعني، إذن، تحت راية الإعراض والتناسي والإلغاء في ساحة المجال السياسي التلاعب بمصائر الناس ؟

  • ماذا يعني التفكير في المستقبل إذا غاب عن ذهن هذا البلد إحدى أهم اللحظات التاريخية في التاريخ الليبي المعاصر ، لحظة الشروع في بناء كيان سياسي جديد حديث كان قد قام على دستور 1951 الذي تعمّدّ بالدم ثمّ إغتالها العسكر بغتةً؟

  • ماذا تعني هذه الهوة السحيقة الساحقة بين ما أنجزه مؤسسي ذاك الكيان وواضعي ذلك الدستور وبين ما تراه هذه البلد الآن من تكرار لما جناه الإنقلاب العسكري بشأن دستور 1951 على نحو يختلف شكلياً ويوافقه في الجوهر؟

  • ماذا يعني عندما يبدأ الساسة بالتعبير عن اعجابهم ببعض مواد دستور 1951 والسطو عليها لتزيين ” الإعلان الدستوري” ثمّ ينتهوا برميه في عالم النسيان عبر التمويه والمدارات والتحايل والحذلقة السياسية أما الآن فيتبجحون بجعله أحد مصادر دستورهم الجديد؟ أليس في هذا خيبة هذا البلد وفي آماله !

  • ماذا تعني المطالبة بصياغة دستور جديد عبر حجب الواقع والشروع في حالة سياسية خيالية تقطع مع أصل بنية الكتاب السياسي الليبي ، دستور 1951، بل من يصدق وضع صياغة دستور جديد بدون التفاتٍ إلى مغزى هذه الصياغة التي قد لا توافق استعداد أغلبية الناس بالقبول بها أو حتى الإلتزام بما تعتقد فيه؟

  • ماذا تعني مصادقة المجلس الإنتقالي والمؤتمر الوطني الجماعية على خطيئة انقلاب سبتمبر التي ارتكبها في حق الدستور بل ماذا يعني في اللحظة الراهنة عند الهيئة التأسيسية المزعومة أن تجعل من دستور 1951 أحد مصادرها؟ وكيف تتوقعون بعدها من المواطن احترام دستوركم أو أي دستور آخر بالخطأ أو العمد ومن ثمة التعامل معه بالوعي الملتزم والحريص ليكون المرجعية الكبرى فوق كل المرجعيات ؟

  • ماذا يعني وأد دستور 1951 داخل قاعة فسيحة أو تحت قبة فارغة ترفرف عليها وبداخلها – ويا للمفارقةمادة من مواده في كلّ زاوية وركن ، مادة علم الاستقلال/علم الثورة (المادة السابعة/7) ، والتي يتزين السادة الأعضاء بها على صدورهم في محافلهم واداء شعائرهم وهم فرحين بثمار الوانها ويرسمونهاعلى الأوراق الرسمية التي يُكتب عليها قرارات هذا الؤاد ويخط عليها تشكيل الوزرات المتتابعة وكأنه متاع خاص يمكن نقله من سياق إلى آخر قفزاً على أبسط أعراف الإنصاف والتثبت، إن لم يكن هذا يعني النفاق والتذاكي الأحمق في أعلى مراتب تجليه في عالم السياسة، فماذا يعني ، إذن، بحق هذا البلد؟

يتلخص الأمر في:

بالإمكان تفهّم دوافع المقبور في سبتمبر 1969 ، ولكن لا يمكن – على الإطلاقفهم مبررات المؤتمر الوطني العام والهيئة التأسيسية ونوادي ” المجتمع المدني” ومنتديات المواطنة الهزيلة في التعامل مع دستور 1951بهذا الكم من الجحود والإستعلاء والعدوانية والعداء والجهل المركب المجاور لنظرية المؤامرة السقيمة!

هذا البلد يمرّ الآن بمرحلة بناء قيم ورؤى جديدة للقطع مع العقود التي زرعها الإنقلاب العسكري ورأسه المقبور من إجل إعادة الثقة للمواطن في هويته الوطنية والإنتماء إليها وللوطن.

ألا يتأتى ذلك بتوطيد وترسيخ كل ما من شأنه أن يسهل ذلك على المواطن عن طريق المحافظة على مكتسباته التاريخية من استقلال وعلم ودستور ونشيد وطني ووصلاً بإنجازه العظيم في ثورته الظاهرة ، ثورة 17 فبراير ، وربطاً بتاريخه القديم وإنجازاته الفعلية، تاريخ أجداده في حربهم ضد الإستعمار وفي كفاحهم سعياً لبناء دولة حديثة حتى يغدو عند المواطن العادي وعند المجتمع بأسره سلسلة متواصلة من الأشياء الملموسة دستورياً يتماهى معها ويفتخر بالإنتساب إليها ويتباهى بها جيل بعد جيلٍ حتى يسهل عليه الإنسلال والإنعتاق من إنتمائه الجهوي أو القبلي أو العشائري او المليشياتي المستبد لصالح الإنتماء للوطن بكل أعراقه وتعدده الثقافي.

ومهما يكن من المشقة واستغراق الوقت الطويل والتأني في هذه المهمة فإنّ النهج على نهجها يخلق لهذا البلد تقليد سياسي قابل للتطور والتعديل والنمو والإستمرارية ورفع رصيد الحريات للحفاظ على الدولة وعلى العلاقة الدستورية بين المواطن الحر الواعي وبين الوطن.

فكيف التوقع للوصول إلى هذه الإستمرارية الحياتية الدستورية إذا كان ثمة هناك من إصرار عنيد على عزل هذا المواطن والمجتمع عن ماضيه وإرثه التاريخي المتمثل في دستور 1951إما بالغائيه أو بتأثيمه على أنه صنعية غربية لخدمة أهداف استعمارية. يا للهول ؟

يبقى إذن عندما يحمل هذا البلد هذه المسالة محمل الجد ويتحرى المنطق وحسب ودون البحث عن وثائق مزورة هدفها التشكيك في انجاز الرواد واخلاصهم لهذا الوطن.

فلايمكن لدستور الإستقلال أن يبعد بهذه السّهولة إلى مجرد وثيقة قديمة لا قيمة لها وخارجة عن نطاق التاريخ أوأنّها مضادة لحقوق الإنسان كما يعتقد أقران القذافي وانصارهم المتمرسين خلف خرافات يرفعونها إلى حد القدسية ، وبرغم هذا الإصرار على إبعاده والتشكيك فيه بكل الصور الحمقاء والتعسفية فإنّ هوية الشجرة الضخمة يندرج في بذرتها، وتاريخ ليبيا الحديث يندرج في دستور 1951 الذي لا يلغي مقدسات الآخرين ولا يخذل احلام الناس إنْ اتبعوا سيرته.

_____________

مقالات