يزيد صايغ
تواجه الدول العربية التي تمر بمرحلة في مراحل انتقالية مهمة تبدو عصيّة على الحل: إعادة بناء مؤسّسات الدولة والعقود الاجتماعية في عصر التغيّر العالمي.
ومن المؤكد أن الفشل سيكون مآل المقاربات التقليدية لإصلاح قطاع الأمن التي تعجز عن فهم المعضلات والتحدّيات التي تعرقل هذا الجهد، أو التي تختزله في علاقة مبسَّطة بين إصلاح قطاع الأمن وإرساء الديمقراطية.
احتلّت الصراعات حول قطاع الأمن حيّزاً مركزيّاً في سياسات كل الدول العربية التي مرّت في مراحل انتقالية، غداة النزاعات المسلّحة أو الاضطرابات السياسية منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي.
وفي الأماكن التي لم تتم فيها إعادة تشكيل التحالفات النخبوية التي كانت قائمة قبل المرحلة الانتقالية، أو لم يتمّ استبدال هذه التحالفات، لم تعد قطاعات الأمن تخدم بوضوح نظاماً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً مُهيمناً.
في ضوء هذه السياقات، لاتستطيع النماذج النمطية المأخوذة عن الغرب لإصلاح قطاع الأمن، توفير حلٍّ مناسب لمعضلات كشفت الدول العربية التي تخوض مراحل انتقالية النقاب عنها، بل تقتصر قدرتها على تغيير هذه القطاعات بشكلٍ سطحي وحسب.
إذن، ثمة حاجة إلى تغييرٍ شامل، لكن الحالة السياسية والمؤسسية الهشّة التي تشهدها الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية تشكّل عقبة كأداء.
معضلات ضبط الأمن في الدول العربية التي تخوض مراحل انتقالية
الأُطُر الدستورية في هذه الدول مفكّكة والميدان السياسي يشهد استقطاباً حادّا، الأمر الذي يمنع بروز الحوكمة الفعّالة لقطاعات الأمن.
قدرات الدولة تتراجع، الأمر الذي يقوّض قدرة قطاع الأمن على المساعدة في الحفاظ على النظام الاجتماعي والاقتصاد العادل (أو مايُسمّى منذ القرن الثامن عشر الاقتصاد الأخلاقي).
إعادة تشديد هذه الحكومات على محاربة الإرهاب، فاقمت أنماط قديمة من السلوكيات العنيفة وإفلات قطاع الأمن من العقاب، مايعزّز مقاومة القطاع للإصلاح، في حين يدفع المواطنين إلى قبول عودة الممارسات السلطوية.
تفاقم تضاؤل موارد الدولة، وازدياد الاقتصادات غير الرسمية، وتراجع الشرعية، تكاليف إصلاح قطاعات الأمن وجعلها أكثر مهنيّة.
ودفعت هذه التطوّرات قطاعات الأمن إلى التورّط في الفساد والتواطؤ مع الشبكات الإجرامية والجماعات المسلّحة، ماعزّز مقاومة هذا القطاع للإصلاح.
لجأت أعدادٌ متزايدة من المواطنين إلى أشكال بديلة من ضبط الأمن المجتمعي وإلى آليات ترتكز على الأعراف، غير أن هذه الأنظمة تتآكل، ليحلّ محلّها في كثير من الأحيان هيئات هجينة تستند إلى الميليشيات.
مستقبل مليء بالتحديات
لايمكن أن يشقّ إصلاح قطاع الأمن طريقه، إلّا إذا رأت النخب السياسية والقوى المؤسّسية الرئيسة مصلحة مشتركة فيه. وبسبب غياب ذلك، انشقّت قطاعات الأمن وفق خطوطٍ طائفية وإثنية وحزبيّة، أو أكّدت على استقلالها الذاتي التام سعياً وراء أجنداتها الخاصّة.
قواعد الشفافية العامّة وآليات الإشراف النمطية التي تدعو إليها مقاربات الإصلاح التقليدية، لايمكنها أن تتصدّى إلى الفساد أو النشاط الاقتصادي غير الشرعي في قطاع الأمن.
أمّا الدول العربية التي تخوض غمار مراحل انتقالية، فهي على وجه الخصوص غير مستعدّة لأن تقوم بإصلاحات ضرورية لكن محفوفة بالمُجازفة، أو أن تفرض المساءلة.
تتطلّب إعادة تأهيل وإصلاح قطاعات الأمن مقاربة غير متحزِّبة، وتعتمد على التوصّل إلى توافق معقول حول مكوّنات النظام الاجتماعي وحول مبادئ الاقتصاد العادل المقبول.
في غياب ذلك، لن يكون للمساعدة التقنية والتدريب اللذين يُطرحان بشكلٍ روتيني في برامج الإصلاح من قيمة تُذكر.
ضبط الأمن في العمليات الانتقالية غير المُكتملة
كشف الربيع العربي بصورة مثيرة مدى الغضب الشعبي تجاه قوى الشرطة وأجهزة الأمن الداخلي التي حافظت على الأنظمة الاستبدادية وحكومات الحزب الواحد، أو الحكومات غير التمثيلية. بيد أن الاستياء العميق من سلطة الدولة القسرية شكّل أيضاً عمليات انتقالية حدثت سابقاً، لدى خروج مجتمعات عربية أخرى من النزاع المسلّح أو من الاحتلال المباشر.
اتّخذت كل حالة مساراً مختلفاً. بيد أن المرحلة الانتقالية لم تؤدّ في أي منها إلى توافق دائم بين الأطراف السياسية الفاعلة الرئيسة أو في المجتمع عموماً في مايتعلق بدور قطاع الأمن والحوكمة فيه؛ وهو القطاع الذي يتكوّن من قوى الشرطة ومختلف القوات شبه العسكرية وأجهزة الأمن الداخلي والاستخبارات والجمارك، وغيرها من الإدارات التي تعمل في الغالب تحت الإشراف المباشر لوزارات الداخلية.
ويبدو هذا جلياً في مايتعلق بضبط الأمن في أوسع معانيه: الدفاع عن النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي السائد؛ وقمع المعارضة؛ وإنفاذ القواعد الاجتماعية، وهو مايقوم به قطاع الأمن برمّته. وربما ينظر أفراد المجتمع عموماً إلى توفير مياه الشفة والكهرباء والخدمات البلدية بوصفها استحقاقات بديهية ومنافع عامة أساسية، ومع ذلك تتباين المفاهيم إلى حدّ كبير حول تحديد مايشكّل ضبطاً جيداً للأمن.
كشف الربيع العربي بصورة مثيرة مدى الغضب الشعبي تجاه قوى الشرطة وأجهزة الأمن الداخلي التي حافظت على الأنظمة الاستبدادية.
يتم استحضار هذه الاختلافات بقوة في مرحلة مابعد الصراع المسلّح، أو في أوضاع مابعد الاستبداد حيث تكون الدولة والعقد الاجتماعي منهارين، أو يجري إعادة التفاوض بشأنهما على كل المستويات، وغالباً وسط درجات متفاوتة من تدخّل القوى الإقليمية والدولية.
وهذا هو السبب في أن العمليات الانتقالية في الدول العربية أثبتت أنها معقّدة ومطوّلة، إن لم تكن مستحيلة. فقطاع الأمن متورّط بحدّة في صراعات أوسع نطاقاً حول الأطر الدستورية، وأساليب العمل السياسي وترتيبات الحكم، والعلاقات والمعايير الاجتماعية التي يجب أن يجسّدها كل منها، الأمر الذي يربك عملية الإصلاح إن لم يعرقلها تماماً.
يشكّل انسداد الأفق هذا تحدّياً أساسياً للحكومات الغربية والمنظمات الدولية والجماعات الحقوقية المحلّية التي أصبح من البديهي بالنسبة إليها منذ أواخر التسعينيات النظر إلى إصلاح قطاع الأمن باعتباره جزءاً لايتجزأ من عملية إعادة الإعمار في مرحلة مابعد الصراع، والتنمية، والانتقال الديمقراطي.
يركّز الإصلاح، بصورة تقليدية، على بناء المؤسّسات باعتبارها مفتاح ضمان التزام عناصر قطاع الأمن بسيادة القانون والإدارة الفعالة والمساءلة.
ولذلك، يركّز الإصلاح أيضاً على تطوير القدرات الفنّية وتقديم الضمانات الإجرائية لتطوير إدارة الموارد البشرية والمادية على نحو يتّسم بالكفاءة والشفافية.
وفي حين أن تجارب الدول العربية جديرة بالثناء من حيث القيم الأساسية والنتائج المرجوّة، فإنها تُظهر أن هذا النهج يخفق في معالجة المعضلات التي أحدثتها عملية الانتقال، ناهيك عن حلّها.
…
يتبع
_______________