سالم الكبتي
إفتتــاح المجلس:
بعد مضي أسابيع معدودة من إجراء الأنتخابات النيابية أفتتح المجلس في مقره ببنغازي يوم 18 شعبان 1339 هـ الموافق 28 أبريل 1921، وأختير السيد صفي الدين السنوسي، أخ المجاهد أحمد الشريف “وعدو الطليان القديم” في معركة القرضابية بعد ست سنوات من وقوعها (28 ابريل 1915)، رئيساً للمجلس.
وحضر الضيوف والأعضاء والمسؤولين، في برقة، ومثّل إيطاليا الأمير أوديني وتبودلت الخطب، وشرع المجلس في أعماله، وأصدر نظامه الداخلي الذي صدق عليه النواب في جلسة يوم 27 اكتوبر 1921، وقد نشر بالعربية في مارس 1922 في كتيب إحتوى ثلاثة عشر صفحة واشتمل تسعة فصول وخمس وأربعون مادة.
ومن بين ما ورد في هذا النظام: (أن الأكثرية المطلقة لأعضاء المجلس تتكون بواحد فوق نصف عدد الأعضاء المنتخبين والمعينين عدا الذين سقطوا من نيابتهم أو حصلوا على الأجازة وفقاً للأصول، وأن الرئيس ونائبه والكاتب ومعاونه يشكلون دائرة الرئاسة..
ويحفظ الرئيس النظام ويسترعى الأصول ويأذن بالكلام ويدير المناقشة ويخفف شدة المجادلة ويضع المسائل على بساط البحث ويؤذن بنتيجة التصويت وهو خطيب المجلس لدى اللزوم وكذلك يراقب أيفـاء الكتبة لواجباتهـم ويعتني بحسن سائـر الأعمال ..
ولا يجوز للنواب أن يتغيبوا إلا بعد الحصول على الأجازة الأصولية وتعتبر الأجازة معطاة إذا لم يعترض عليها أحد عندما يبلغها الرئيس للمجلس، ولا يجوز لأحد أن يتكلم بدون إذن الرئيس ويجب إستماع الأعضاء الطبيعيين كلما طلبوا ذلك ,,
وإذا حصلت غوغاء في المجلس فللرئيس أن يوقف الجلسة أو يفضّها ويؤجلها إلى يوم آخر، ولا يجوز لأي شخص خارج عن المجلس أن يدخل لأي سبب ما في المكان المخصص للأعضاء، ويتأتّى للنواب دخول المجلس بأن يبرزوا للحرس القائم عند الباب علامة تعريف مخصوصة توزعها عليهم الحكومة ..
ويجب على الأشخاص الذين يجلسون في أروقة المجلس أثناء الجلسات أن يحفظوا الأدب ويلزموا السكوت بدون إبداء علامة إستحسان أو إستهجان، وأن تحرير التراتيب واللوائح الواجب النظر فيها وإعطاء القرار من المجلس عائد للحكومة فهي التي تقدمها للرئاسة بصورة مواد مع بيان وجيز للأسباب والرئيس يبلغها للمجلس موزعاً صوراً منها ويدرجها في برنامج أول جلسة تسمح بذلك).
وجعلت للأعضاء القادمين من خارج المدينة إستراحة للأقامة خلال أيام الأنعقاد (قصر الأعيان)، واستمر هذا المجلس في إنعقاده من أبريل 1921 إلى بدايات 1923 حيث أغلق وأوقف عمله حين وصل الفاشيون إلى السلطة في روما بقيادة موسليني ورفاقه ، وخلال ذينك العامين ظلت أمام المجلس قضايا شائكة حاول أن يعالجها وفي مقدمتها ما يتعلق بثنائية الحكم في البلاد (السلطة الإيطالية وزعامة الأمير)، كما يقول برتشارد، ولم يستطع الوصول بشأنها إلى حلول ناجعة.
لكنه نجح في مناقشة بعض الجوانب المالية (الميزانية) وتعيين القضاة وتنظيم المحاكم الشرعية ومنهج المعارف العام، وهي موضوعات تعتبر من (تحصيل الحاصل) عند مناقشتها مع السلطات الأيطالية قياساً ببعض القضايا ذات الشأن الكبير مثل (الأدوار المختلطة) والكيفية التي تشكل بها من الجانبين المحلي والإيطالي في الأبيار وتاكنس وسلنطه والمخيلي وعكرمة وفقاً لاتفاقية بومريم المنعقدة في 30 سبتمبر 1921.
لقد عجز في الواقع عن حسم هذه الأمور لأسباب كثيرة منها تمسك الأهالي والمقاومين بأسلحتهم وعدم التخلي عنها، ويبدو أن حكومة إجدابيا ظلت تناور بها مع الإيطاليين رغم إلتزامها ببنود الأتفاقية.
ويلاحظ عند تعيين لويجي بونجوفاني حاكماً لبرقة في 1923 (بعد وصول الفاشيين إلى السلطة) إصراره العنيد لتفكيك المعسكرات والأدوار ومخاطبته المجلس بشراسة في هذا السياق لكنه تلقى رداً سلبياً إذ وجد أن أغلب النواب الليبيين في المجلس يبدون تعاطفاً مع عدم تسليم السلاح.
كانت الفترة الأولى عموماً، هادئة لم ينتابها شئ، وقد حاول الأيطاليون – قبل المرحلة الفاشية – أن يضربوا بها مثالاً، تبين فيما بعد أنه مجرد خديعة، لتعليم أهل البلاد دروس الديمقراطية وتلقينهم فن وأصول الحياة النيابية.
كما حاولوا التقريب والألتقاء للوصول إلى أهدافهم بطرق لم تكن مقبولة من قبل المجلس، الذي كان أغلب أعضائه، على ما يبدو، حذراً في التعامل المباشر مع إيطاليا – إلاّ فيما ندر – وموافقتها على ما تريد (موضوعة الأدوار المختلطة على سبيل المثال)، وربما كانوا يعرفون في أعماق أنفسهم أن ذلك لن يدوم طويلاً.
لقد كان الأيطاليون يبحثون عن فرصة لكسب الوقت أو “لقلب الطاولة” ذات يوم، وقد وقع ذلك بالفعل: حدث الأنقلاب الفاشي في روما، فأوقفت إيطاليا المجلس وأغلقت أبوابه، وأعادت احتلال إجدابيا، وطاردت بعض أعضائه السابقين، وألغت تعهداتها مع الأمير إدريس وحكومته الذي غادر إلى مصر.. وبعده بفترة رئيس المجلس (صفي الدين) الذي استمر في قيادته (للمنطقة الغربية: مصراته، سرت، ترهونة) نائباً عن الأمير.. ثم تكون دور الجبل الأخضر بعد معركة بير الغبي في مارس 1923.. وإلتهب القتال في كل المناطق..
الفتــرة الثانيـــة:
أعادت السلطات الإيطالية (التجربة البرلمانية) في برقة، تهدئة للخواطر على ما يبدو أو في إطار (النفاق السياسي) و (اللعب على الحبال)، بطريقة تختلف عن السابقة، فاستدعى من بقي من الأعضاء السابقين لمواصلة عضويتهم، وأضيف في الأمكنة الشاغرة مجموعة أخرى من الأعيان والشيوخ منهم: سعيد خليل المالح، ويادم بوجلاوي، وحسن نجم، وخليفة بورحيم، وسليمان سعيد العرفي (الذي أعدمته إيطاليا لاحقاً) ومطرود بوشنيف اللواطي .. وغيرهم.
وأفتتح المجلس أعماله في يونيو 1925، واختير أحمد البناني رئيساً له وسعيد المالح نائباً، وحضر النواب ببرانيسهم الحمراء المزركشة، وألقى الجنرال مومبيلي خطبة الأفتتاح بالإيطالية وترجمها بالعربية باسيلي خوري.
كانت هذه الفترة قلقة، والقتال يتصاعد ضد الجيش الإيطالي، ولم يكن من المجدي نجـاح (العملية الديمقراطية) في مواجهة ديكتاتوريـة موسوليني التي تنادي الآخر (با سمع وأغلق فمك !).
وقد نُشرت بعض المحاضـر الخاصة بالاجتماعـات وأخبار المجلس في صحيفة بريد برقة، وكذا مجموعة من المناقشات والقرارات التي كانت تصب في خانة الموالاة للسلطة.
لقد كتب على المجلس (غصبا عنه) في هذه الفترة أن يسمع ويوافق وينفذ، ومنح لأعضائه المرتبات والمهايا، وكانت خطب مومبيلي تعتمد الأفتخار بالمجلس وتقديره لأعضائه من الإيطاليين وتوجيه رسائل (خلف الحدود)، ومن ذلك:
(.. إنه ليسرني كثيراً أن أرى هنا اليوم بينكم الوجيه سولاتسو الذي بصفته أعظم نذير ومبشر للحزب الوطني الفاشستي راجعاً بعد طول الغياب إلى هذا المحيط المعروف منه حق المعرفة حيث به يجد ذاته في درجة أحسن بكثير من كل مرة سبقت، ويثبت بأنه بواسطة أعمال حكومتي النشيطة وباشتراككم الفعلي قد برز إلى حيز الفعل بروغرام التأكيد والمكانة والأقدام بحماسة.,,
ذلك البرغرام الذي خصصته الحكومة الوطنية لهذه المستعمرة وها هي النتائج المتحققه يوماً بعد يوم تدل على أنها وطيدة الأركان دائمة مدى الزمان وبذا يحق لنا اليوم أن نتباهى ونفتخر بامكاننا الثابت الأكيد بأن السلام وهو أعظم أماني الأهالي وغايتها.. هذا السلام المنشود قد أصبح لدينا على أهبة الأستباق النهائي..).
وشارك (سولاتسو) بخطاب أمام النواب جاء فيه:
(.. بتأسيس مجلس النواب منذ اليوم قد أصبح ذي مكانة لدى الحكومة المحلية من كان مجرداً عنها حتى الآن.. أعني بذلك ممثلي القبائل في البادية التي كانت عانت حتى الآن أكثر من غيرها مصائب حرب غير منتظمة تملل شياطين الجحيم فهؤلاء إذا أرادوا إلتزام السكينة والراحة وجب عليهم أن يفرضوا إحترامهم على الجمعيات السرية الدينية وعلى عصب المفسدين الذين دأبهم العيش، في المدن خاصة، آمنين مطمئنين بفضل المشاغبات الداخلية… يجب على نواب القبائل الداخلية إذا قصدوا حمل سواهم على طاعتهم أن يتظافروا ككتلة واحدة.
فبعد مضي سنتين أتت الوقائع محققة تحقيقاً بليغاً ما كنت أنادي به فهو أن السنوسيين أعلنوا الخيانة ونكثوا معاهدة الرجمة واستفتحوا بالأعمال اللصوصية بابرامهم الأتفاق مع جمهورية مصراته الميتة المقبورة…
إن السنوسيين وأعوانهم قد نبذوا اليوم نبذ النواة من حياة هذه البلاد المدنية غير أن هذا الشئ غير كاف وعلى رأيي أن يتحتم على القبائل بأن تتيقن بأنها هي وحدها المتحملة مغبات المشاغب والفتن كما أنها هي المتنعمة أكثر من غيرها بثمرات الراحة والسلام…
قليل من يعلم منكم يا رفقائي الكرام أنني مضاد للأنتخابات على أنواعها ولكافة المجالس النيابية ولكن في المستعمرات أميل لأسلوب مجالس الشورى السائرة أحسن سير في البلدان الأخرى المسكونة من العنصر الأسلامي ومحاسن هذا الأسلوب متوقفة على تعاون أبناء البلاد مع حكومة المستعمرة تعاوناً مستمراً غير متقطع).
…
يتبع
_______________