فاضل المسعودى
وكانت الأخبارالتي تصلنا من ليبيا تؤكد تواطؤ الحكومة الليبية وتهافتها على ابرام المعاهدة ولم نكن نصدّق ما تدّعيه من عجز مالي وعدم القدرة والامكانيات على قيام الدولة وتحقيق الاستقلال وصدقها فى عدم التورّط فى إبرام هذه المعاهدة المشينة .
ولم نصدّق ما تدّعيه الحكومة الليبية عن موقف مصر والعراق وتخليهما عن مساعدة ليبيا على تجاوز العجز المالي وخذلانهما ، كما لم نصدّق الشروط المهينة التي تقدمت بها مصر مقابل اقراض ليبيا ( مليون جنيه مصري ) ومطالبتها بتعديل الحدود والتنازل على واحة جغبوب واشراف مستشارين مصريين على الميزانية الليبية !!
وكان يقوّي من معارضتنا ويرفع من معنوياتنا ما يصلنا من أخبار مُبالغ فيها عن الموقف المعارض لنواب المؤتمر الوطني فى مجلس النواب وموقف جمعية عمر المختار فى برقة الرافض لعقد المعاهدة . وأن الملك ادريس نفسه ليس من المتحمّسين لعقد معاهدة مع الانجليز ليست الجارة مصر راضية عنها .
وكان مما يعزز من الحملات التي يقوم بها تكتلنا الطلابي ضد المعاهدة موقف اذاعة ( صوت العرب ) التي كانت يومها في بداية إنشائها ، وليس بها سوى أحمد سعيد والسيدة نادية توفيق والأديب صالح جودة وشخص رابع يراجع المادة التي نقدمها قبل السماح باذاعتها ! ولكننا اكتشفنا شخصيته فيما بعد وعرفنا أنه ” الصاغ أركان حرب ” فتحي الديب ، مدير المخابرات العسكرية للشئون العربية !
وكان أحمد سعيد يُقدّمني للمستمعين : في جميع الخطابات التى أوجهها الى ليبيا ” بإبن ليبيا البار ” وكنت أنا ، الشاب الصغير السن ، المحدود الوعي والتجربة .. أصف بكل جرأة ووقاحة التطرّف والحماس المتشنّج ، الرّجل الذي لم أكن أعرفه ولا أعرف ما يخوضه من ظروف صعبة وهو يحاول أن ينقذ بلاده : المرحوم محمود المنتصر ، أصفه ” بالرجل غير المحمود .. وأصرخ بتشنّج ، عبر ميكروفون صوت العرب انه : » محمود المنكسر» !
ولكي تدركوا حجم الحقائق فيما كان يقوم به هذا الذي يطلق عليه ” ابن ليبيا البار ببساطة ” صفة المنكسر ، دعوني أنقل لكم ما ورد في ( مذكرات المرحوم محمد عثمان الصيد ) عن المعاناة والكفاح الشاق المرير الذي خاضه فى سبيل إبرام المعاهدة التي اضطرّ أن يبرمها من أجل إنقاذ الدولة الليبية ، وتحقيق وجودها المستقل ، وتتمكن من دفع رواتب موظفيها !!
كتب محمد عثمان الصيد فى مذكراته يقول :
« خلال المفاوضات ، اقترح الجانب الليبي أن تشتمل المعاهدة على نصّ يقضي باحترام ميثاق جامعة الدول العربية ، فى حين أصرّ الجانب البريطاني على أن يقتصر الأمر على احترام ميثاق الأمم المتحدة فقط !
ومن النقاط التي استغرق النقاش حولها وقتًا طويلا ، رغبة بريطانيا فى أن تُستعمل القواعد العسكرية من طرف حلفائها أيضا ، في حين تمسّك الجانب الليبي بأن يقتصر إستعمال القواعد على القوات البريطانية فقط .
وثمة مسألة أخرى استغرقت وقتاً طويلاً من النقاش تتعلق بمحاكمة الجنود البريطانيين الذين يرتكبون مخالفات أو جرائم فى ليبيا، اذ أن الانجليز أصرّوا على محاكمة هؤلاء أمام محاكم بريطانية فى حين تمسّك الليبيون بمحاكمتهم أمام محاكم ليبية .
وبعد مفاوضات طويلة توصل الجانبان إلى حل وسط يقضي بمحاكمة الجنود أمام محاكم بريطانية إذا أُرتُكبت المخالفة داخل القاعدة العسكرية في حين تتم محاكمتهم أمام محاكم ليبية إذا وقعت المخالفة خارج القاعدة العسكرية » .
ويضيف محمد عثمان الصيد عن هذه المفاوضات التي يقودها رئيس الحكومة الاتحادية الليبية مع بريطانيا فيقول: كان محمود المنتصر الذي يقود المفاوضات بصبرٍ وأناءةٍ ، حين يتوصّل إلى اتفاق حول أحد بنودها يعرضه على مجلس الوزراء لدراسته ، وبعد إقراره يستأنف التفاوض .
وقبل التوصّل إلى الصيغة النهائية للمعاهدة تقرر أن يُسافر السيد محمود المنتصر إلى بريطانيا لبحث كافة التفاصيل واستكمال الجوانب المتعلقة بالإتفاقية المالية التي إقترح الجانب البريطاني ان تكون مُدتها خمس سنوات ويُعاد النظر فيها بعد كل خمس سنوات على ضوء الإحتياجات الليبية وكذا على ضوء إمكانيات الحكومة البريطانية ، وكان الجانب الليبي قد اقترح أن تكون مدة الاتفاقية المالية مماثلة لمدة الاتفاقية العسكرية ، بيد أن البريطانيين أصرّوا على الفصل بينها بحيث تتم إعادة النظر فى الاتفاقية المالية كل خمس سنوات ، كما أصرّ الجانب الليبي على إعادة النظر فى مجمل الاتفاقيات بعد عشر سنوات وهو الشرط الذي اشترطه الجانب الليبي وتمسّك به لأن مدة المعاهدة الأساسية عشرون عاماً .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن بريطانيا إقترحت فى بداية المفاوضات أن تكون مدة المعاهدة ستين سنة ! وفى المقابل قدّم الجانب الليبي اقتراحاً بأن لا تتجاوز مدة المعاهدة عشر سنوات ، وبعد مداولات وجدل اُتفق على أن تكون مدة المعاهدة عشرون سنة ، على أن يُعاد النظر فى مجمل بنود المعاهدة بعد عشر سنوات ، فى مُقابل قبول الإتفاقية المالية , وتمّ بعد تلك المداولات الإتفاق على هذه النقاط ، كما اُتفق على أن تسلم بريطانيا جميع المباني الحكومية إلى الحكومة الليبية بحيث لا يبقى لها إلا بعض القواعد بشرط أن تكون خارج المدن ، وذلك بعد انتهاء العشر سنوات. ومما نصّت عليه المعاهدة الليبية البريطانية فى المادة الرابعة ما يلي:
« ليس فى هذه المعاهدة ما يرمي الإخلال أو يخلّ بأي حال بالحقوق والإلتزامات التي تترتّب أو قد تترتب علي الفريقين الساميين المتعاقدين بموجب ميثاق الأمم المتحدة ، أو بموجب أي إتفاقياتٍ أو عهودٍ أو معاهداتٍ دولية قائمةٍ بما فى ذلك ما يخصّ ليبيا وميثاق جامعة الدول العربية.
وقد استفادت ليبيا مما جاء فى هذه المادة فى مجريات حرب السويس سنة 1956 ، إذ تمسّكت بتطبيق هذه المادة حرفياً حيث أصرّت على عدم إستعمال القوات البريطانية الموجودة في ليبيا ضد الشقيقة مصر ” .
وفى نهاية المفاوضات توصّل السيد المنتصر الي صيغة الإتفاقية المالية التي بموجبها تُقدم بريطانيا دعماً مالياً الى ليبيا فى حدود ثلاثة مليون وسبعمائة وخمسة وسبعين ألف جنيهاً إسترلينياً ، تخصّص منها 2 مليون وسبعمائة وخمس وسبعون الفاً لدعم الميزانية ومليون جنيه للتنمية .
عقب ذلك ، بعث السيد محمود المنتصر برقية بالشفرة يقول فيها: إن أقصى ما استطاع التوصل إليه هو هذا الاتفاق بالنسبة للجانب المالي ، واقترح أن تجتمع الحكومة مع الملك وتُعرض عليه ما تمّ التوصّل اليه ، فإذا تمّ إقرار الإتفاق نمضي قدماً ، واذا لم تتمّ الموافقة يجب أن تستقيل الحكومة .
فى هذه الأثناء اُرسلت “برقيات“ من طرف بعض الليبيين ، خاصة من برقة إلى وزارة الخارجية البريطانية وإلى الصحف البريطانية تُشير إلى أن السيد محمود المنتصر لا يمثّل ليبيا ، كانت هذه البرقيات تُرسل بإيعاز من ولاية برقة وغرضها إضعاف موقف السيد محمود المنتصر التفاوضي حتى يضطرّ للاستقالة !؟
بعد أن وصلت برقية السيد محمود المنتصر ، طلب السيد فتحي الكيخيا نائب رئيس الحكومة اجتماعاً مع الملك ، كان ذلك فى الصيف والملك مقيم فى البيضاء فانتقلت الحكومة الى هناك واجتمعنا مع الملك فى أواخر شهر يونيو 1953 وأبلغه الكيخيا بالذي توصّل إليه محمود المنتصر وكذا باقتراحه أن تستقيل حكومته وتُشكل حكومة جديدة اذا رُفضت تفاصيل الاتفاقية .
وأثناء الإجتماع ، يُضيف الصيد ، سألتُ الملك : هل من الضّروري توقيع معاهدة مع بريطانيا ؟ وقلت إنني أطرح هذا التساؤل لأن هناك أشخاصاً من الحاشية ومن ولاية برقة على وجه التحديد يقولون : إن الملك لا يرغب فى توقيع معاهدة مع بريطانيا ! فأجاب الملك قائلاً: الآتفاق مع بريطانيا ضروري جدًا لمصلحة ليبيا ولضمان أمنها واستقلالها، وأضاف الملك : إذا كانت الضرورة تُحتّم توقيع معاهدة مع بريطانيا وسيُعاد فيها النظر بعد عشر سنوات فلربما يمنّ الله علينا خلال هذه الفترة بموارد وثروات أخرى تغنينا عن هذه المعاهدة .
تدخلتُ مجدداً وقلتُ : إذا كان الملك يرى أن الاتفاقية ضرورية فإننا نلتمس منه أن يأمرحاشيته بالصمت ، لأن ” البرقيات ” التي اُرسلت إلى لندن تُشكك وتطعن فى مصداقية محمود المنتصر! تمت جميعها بإيعاز من الحاشية ؟ وخاصة من السيد ابراهيم الشلحي ناظر الخاصة الملكية !
إبتسم الملك وأجاب قائلا : سأبحث الأمر لإيقاف هذه الأشياء .
بعد إنتهاء الإجتماع أرسلت الحكومة إلى محمود المنتصر تبلغه موافقة الملك والحكومة على تفاصيل المعاهدة .
****
حين قُدمت المعاهدة إلى مجلس الأمة ، فى أوائل أغسطس 1953 للمصادقة عليها ، بدأت اذاعة صوت العرب تشنّ حملاتٍ إعلامية شديدة اللهجة ضد الحكومة الليبية والمعاهدة ، واتهمت محمود المنتصر بأنه أحد أذناب الاستعمار، وزعمت أن المعاهدة وُقّعت ضد رغبة الشعب الليبي . وتحت تأثير هذه الحملة الاعلآمية وُزّعت مناشير من طرف بعض الليبيين ضد المعاهدة ، وقام الطلاب الليبيون فى القاهرة بمظاهراتٍ ، ونتج عن ذلك بلبلة وزوابع ضدّ المعاهدة ” حسب شهادة السيد محمد عثمان الصيد – محطات من تاريخ ليبيا “.
واجتمع مجلس النواب وقرر إحالة المعاهدة الى لجنة الشئون الخارجية ، وحدثت نقاشات حادة حول نصوصها ، ووجه أعضاء حزب المؤتمر فى مجلس النواب ، وكان عددهم ثمانية ، وهم مصطفى ميزران والشيخ عبد الرحمن القلهود ومصطفى السراج ومحمد الزقعار وعبد العزيز الزقلعي والعربي أبو سنّ والحاج المنير العروسي البشتي وكمال فرحات الزاوي انتقادات عنيفة ضد الاتفاقية ، وانصبّ هجومهم على شخصية السيد محمود المنتصر بالرغم من أنه ينتمي الى ولاية طرابلس ، كما عارض المعاهدة بعض نواب برقة نذكر منهم خليل القلال وعبد السلام بسيكري ومحمود بو شريدة وعبد القادر البدرية والدكتور على نورالدين العنيزي وخليفة عبد القادر ، بحجة أن المبلغ الذي ستقدمه بريطانيا الى ليبيا قليل وغير كافٍ!
وبعد أخذ ورد ونقاشات حادة وافق مجلس النواب الذي كان يتكون من خمس وخمسين نائباً على المعاهدة بالأغلبية ، وعارضها خمسة عشر نائباً ، ووافق مجلس الشيوخ بالأغلبية الساحقة على المعاهدة ، وبالرغم من ذلك تواصلت الحملات الاعلامية من إذاعة صوت العرب على المعاهدة ، وعلى شخصية محمود المنتصر!
هذا بالنص ما كتبه محمد عثمان الصيد في مذكراته ( محطات من تاريخ ليبيا )
صفحات 85 /89 وقد كان عضواً في الحكومة التي أبرمت المعاهدة
ثم أصبح رئيساً للوزراء سنتي1962 / 1963
***
وأعود للرجل الذي وعدته بالزيارة ، فاتجهت الى منطقة ( رأس حسن ) حيث منزله العريق القديم الذي يبدو أنه منزل الأسرة وقد ورثه السيد محمود عن والده وهو الذي نشأ فيه .
وفتح لي الباب أحد أنجاله ، وأدخلني ” للمربوعة ” ، وأخترت من بين المقاعد التي يفوح منها جميعاً عبق القدم ! فاخترت المقعد المناسب ريثما يأتي الرجل الذي وجدني عندما قدم مستغرقاً فى تأمل قطع السلاح القديم الذي زين به الجدران ، فبادرني السيد محمود المنتصر: هذا ما ورثته عن الوالد الى جانب الصالون الذي حرصت أن أُبقي عليه كما هو ، من عهد حياة الوالد رحمه الله !
فأجبته – ولكن المنشأ – كما يبدو – كان فى هذا المنزل ، أما المولد فأين كان ؟
قال الرجل : كان فى العجيلات ، حيث كان الوالد يعمل ” قائم مقام ” فى العهد العثماني ، ثم انتقلنا الى هذه ” السانية ” ولم نُبرحها الى أي مكان آخر!
ودخلنا فى الحديث عن المعاهدة ، والبدايات الصعبة التي ولِدت فيها الدولة الليبية ، وعن الأيام المجيدة والمريرة التي عاشها حتى أعلن الملك ادريس ، فى الرابع والعشرين من ديسمبر 1952 ، قيام ” الدولة ” التي توحّدت واستقلت ، ووضعت أقدامها على بداية طريق التاريخ بعد أن لم يكن هناك إنسان واحد على امتداد مساحاتها ، يخطر عليه حتى فى الأحلام ، أن تتحرر وتقوم فيها دولة مستقلة ! ويرتفع في سماء هذه الدولة “علم ” !
***
فاضل المسعودي ـ الصّحفي الكبير وعميد الصحفيين وصاحب البصمة المشهودة في تاريخ الصحافة الِلّيبيّة منذ بداية مشواره الصحفي
_______________