ولفرام لاتشر (ترجمة يوسف لطفي)

النهب المنظم: شرايين شبكة التهريب

هيمنت قوات حفتر على سوق تهريب الوقود بعد أن وسعت سيطرتها على معظم حدود ليبيا البرية والبحرية. وتضخمت هيمنتها بعد أن تولى مرشح حفتر بن قدارة منصب رئيس المؤسسة الوطنية للنفط في منتصف عام 2022، وعيّن لاحقًا مواليًّا لصدام على رأس شركة البريقة التابعة للمؤسسة التي تتولى معاملات مبيعات الوقود. ومنذ ذلك الحين، استمرت كميات الوقود المستوردة في الزيادة، كما توسعت عمليات التهريب في المناطق التي تحت سيطرة حفتر. كما أدى نظام المبادلة الغامض الذي يسمح للمؤسسة الوطنية للنفط بعقد صفقات لتبادل الوقود مقابل صادرات النفط إلى تسهيل عمليات التهريب والسرقة، وهو “صندوق أسود”، كما وصفه أحد كبار المسؤولين الماليين.

في الأشهر التي سبقت تعيين بن قدارة، كانت السفن أحيانًا تقوم بتحميل الوقود في ميناء بنغازي لتهريبه إلى الخارج. ولكن بعد ذلك، أصبحت هذه الشحنات روتينية، وفقًا لمجموعة الخبراء المسؤولة عن مراقبة انتهاكات العقوبات الأممية على ليبيا، حيث تقوم الشاحنات بتعبئة الوقود في مستودعات تحت سيطرة قوات حفتر، وتمر عبر نقاط تفتيش تديرها تلك القوات في طريقها إلى السودان وتشاد، وصولًا إلى جمهورية إفريقيا الوسطى

رجال الأعمال الذين تحدثت معهم والذين يعملون ضمن هذه الشبكات، والمصادر القريبة من عمليات ميناء بنغازي، جميعهم يذكرون صدام حفتر كمشرف نهائي على عمليات تهريب الوقود. ويزعمون أنَّ الأرباح يعاد استثمارها في الوحدات العسكرية التي ترفع تقاريرها مباشرة إلى صدام، وشقيقه خالد وأقارب آخرين.

من الطبيعي أن يصف الكبير تكلفة واردات الوقود المتزايدة التي تدعم هذه الأنشطة بكونها غير مستدامة. فمن 2021 إلى 2023، زادت فاتورة واردات الوقود السنوية أكثر من الضعف، لتبلغ 8.5 مليارات دولار أي ما يعادل ثلث عائدات النفط المحولة إلى البنك المركزي الليبي في ذلك العام

اعتراض الصديق الكبير على آليات استيراد الوقود حمل معه اعتراضًا ضمنيًّا على الترتيبات المالية التي فقد السيطرة عليها كبنك مركزي، فمنذ أن انقسمت المؤسسات الحكومية في ليبيا إلى اثنين في عام 2014، كان الكبير هو المتحكم المركزي في كل من السياسة النقدية والمالية في ليبيا.

لكن الآن، منع التبادل التجاري الذي قام به ابن قدارة في المؤسسة الوطنية للنفط أي إشراف من البنك المركزي على واردات الوقود، والأهم من ذلك، أنَّ التوسع المتهور في تهريب الوقود كان يُنظر إليه كجزء من الترتيبات الضمنية التي تربط بين رئيس الوزراء الدبيبة وحفتر. سواء أحب الدبيبة ذلك أم لا، كان هذا جزءًا من الثمن الذي توجب عليه دفعه للحفاظ على تدفق النفط. كانت هذه الترتيبات في قلب السياسة الليبية، لكنها تجاوزت الكبير وبالتالي قوضت مركزه.

تحالفات تحت الطاولة: مواجهة التهديدات من الداخل

يشير الكبير ومرافقوه إلى فساد حكومة الدبيبة كسبب للخلاف، حيث قال أحد كبار المسؤولين الماليين المقربين من الكبير لي في ديسمبر الماضي: “التزامات إبراهيم دبيبة تجاه حفتر وصدام وغنيوة [زعيم ميليشيا قوي في طرابلس] تتجاوز ما وافق عليه الكبير”.

لكن هناك رواية أخرى حول كيفية حدوث الخلاف بين الكبير والدبيبة، تتعلق بالمؤامرات السياسية بين صانعي القرار الذين يعيّنون ويزيلون كبار المسؤولين لتحقيق أهدافهم الخاصة من خلال المؤسسات الحكومية الليبية.

وفقًا لهذه الرواية، بدأت السياسات الشرسة لإبراهيم الدبيبة تهدد الكبير مباشرة قبل أشهر من تحذيره من الإنفاق التوسعي، ففي يوليو 2023، فرض قادة الميليشيات المتحالفين مع إبراهيم مديرًا جديدًا للهيئة العامة للرقابة الإدارية، وهي وظيفة توفر لصاحبها سلطة الاعتراض على التعيينات والعقود في القطاع العام.

قال مسؤول مالي رفيع: “عندما حدث ذلك، بدأ صديق الكبير في القلق على منصبه الخاص”. يتفق القادة السابقون في طرابلس ومسؤولون كبار مع هذا الرأي، حيث كان المدير السابق للرقابة يعتمد على رجل الأعمال البارز محمد طاهر عيسى والمقرب من الصديق الكبير. فقديمًا دعم عيسى بقوة رئيس الوزراء الدبيبة في مساعيه للحفاظ على ولاءات الجماعات المسلحة في طرابلس. لكن بعد التغيير، شكّل عيسى تحالفًا يهدف إلى الإطاحة بالدبيبة.

في نفس الشهر، اعتُقل وزير المالية السابق “فرج بومطاري” لدى وصوله إلى طرابلس، حيث سعى للحصول على دعم البرلمانيين لترشيحه لمنصب الكبير كمحافظ البنك المركزي، وكان على ما يبدو مدعومًا من قبل كل من إبراهيم الدبيبة وصدام حفتر.

شكّل الصديق الكبير تحالفات مع فصائل شرق ليبيا لحماية نفسه من مؤامرات إبراهيم، وطلب دعم عقيلة صالح، رئيس البرلمان في الشرق الليبي، الذي سبق أن اعتبر الكبير محتالًا وأنَّ فترة ولايته كمحافظ قد انتهت منذ فترة طويلة. بعد أسابيع قليلة من حادثة وزير المالية السابق، حصل الكبير على مرسوم من رئاسة البرلمان يؤكد منصبه وكذلك منصب نائبه من الشرق مرعي البرعصي، وهو مسؤول رئيسي آخر مدين بتعيينه لأبناء حفتر. منح المرسوم الكبير والبرعصي الصلاحيات التي يحملها رسميًّا مجلس محافظي البنك المركزي، مما تطلب منهما العمل معًا عن كثب.

في الخريف، بدأ الكبير أولًا في حظر معاملات حلفاء إبراهيم دبيبة من السياسيين، ثُمَّ النفقات الرأسمالية والتشغيلية بشكل أوسع، قائلًا إنَّ الأموال المخصصة لعام 2023 قد نفدت. وبعد فترة قصيرة، في أوائل نوفمبر، غادر الكبير إلى تركيا، حيث تعرض لحادث سير قيل إنَّه كان محاولة لاغتياله، مهما كانت الحقيقة، بقي الكبير في تركيا لأكثر من شهر للحصول على علاج طبي، وفي الوقت نفسه حظر تفويضات الدفع لحكومة الدبيبة.

اعتقد السياسيون وقادة الميليشيات في طرابلس أنَّ الكبير يحاول الإطاحة بالدبيبة، وتصاعدت التوترات بين تحالفين ناشئين من الميليشيات في طرابلس، أحدهما يدعم الدبيبة، والآخر ينظر الآن إلى الكبير كأبرز خصوم الدبيبة. وعقد حليف الكبير محمد طاهر عيسى اجتماعات لجذب الدعم لتغيير الحكومة. وتراجع سعر الدينار مقابل العملات الأجنبية في السوق السوداء.

في الأشهر الأولى من عام 2024، استمر تدهور الأوضاع المالية للدبيبة، بينما أصبحت عائلة حفتر وحكومتها الشرقية فجأة غارقة في المال. قال لي أحد كبار المسؤولين الماليين في يونيو: “كان حفتر يتفاوض معنا على مليار هنا، ومئات الملايين هناك. الآن لم يعودوا يطلبون شيئًا، لديهم أكثر من حاجتهم”.

أهم سبب لانخفاض قيمة الدينار هو أنَّ عائلة حفتر كانت تطبع المال حرفيًّا ومجازيًّا، فضلًا عن تحويل هذا المال إلى عملة صعبة في السوق السوداء، مما عزز الطلب على الدولار.

في العلن، أشار كل من الكبير والدبيبة إلى هذا على أنَّه “الإنفاق الموازي غير المعروف المصدر”، وجادل الكبير بأنَّ التهديد الذي يمثله الإنفاق الموازي على الاقتصاد الليبي جعل من الضروري التفاوض على ميزانية موحدة بين الإدارتين. في الواقع، ساهم الكبير في تسهيل آليات التمويل للسلطات الشرقية.

في الأشهر الأخيرة من عام 2023، أعاق التنافس بين الحكومتين الاستجابة للكوارث الكبرى في مدينة درنة. في سبتمبر، دمر انهيار سدّين بعد الأمطار الغزيرة أجزاء كبيرة من مركز المدينة. لقي أكثر من 4,000 شخص حتفهم؛ ولا يزال حوالي 8,000 آخرين مفقودين.

استغلت الفصائل الليبية الكارثة كفرصة للتفوق على منافسيها. على الورق، أصدر الدبيبة مرسومًا بإنفاق 2 مليار دينار (ما يعادل 400 مليون دولار بسعر الصرف الرسمي) للاستجابة الطارئة وإعادة الإعمار؛ بينما خصص البرلمان في الشرق خمسة أضعاف هذا المبلغ للحكومة الموازية. ولكن لم يكن لدى حكومة الدبيبة أي وجود في درنة، بينما لم يكن لدى الإدارة الموازية وصول منتظم إلى تمويل من البنك المركزي. وفي الوقت نفسه، أصر الكبير على أنَّ عملية إعادة الإعمار يجب أن يُشرف عليها بشكل مشترك وبمشاركة البنك الدولي لضمان الشفافية. لشهور، أبقى المأزق عملية إعادة الإعمار في حالة تأخير، حتى مع بقاء أكثر من 40,000 شخص مشردين من منازلهم.

أشرف صدام حفتر على الاستجابة الأولية للأزمة، بينما أصبح شقيقه بلقاسم رئيس لجنة إعادة الإعمار في حكومة الشرق في ديسمبر 2023. في البداية، لم يكن لدى بلقاسم الكثير ليقدمه. ولكن بعد شهرين، حول برلمان الشرق اللجنة إلى صندوق إعادة الإعمار والتنمية لكامل ليبيا، وأزال عنها جميع أشكال الرقابة الإدارية والمالية. بعد ذلك بوقت قصير، بدأت الأعمال الإنشائية تتسارع في درنة، ولم تكن درنة وحدها، فقد بدأت الشركات المصرية والتركية في بناء الطرق والجسور والمباني في بنغازي ومدن أخرى.

***

ولفرام لاتشر – زميل أول في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية ومؤلف كتاب “تفتت ليبيا”

______________

مقالات