فاضل المسعودى
في أول يناير ، سنة 1960، وبعد الصّلاة على جثمان جدّي ، الشيخ سعيد أحمد المسعودى، وفى حين كانت مراسم التشييع تأخذ سبيلها بالجثمان ، في إتجاه الصّعُود إلى مثواه الأخير، بمقبرة سيّدي مُنيدر، وجدتُ نفسي ، أمشي إلى جانب واحدٍ من كبار المشيّعين ، وهو السيد محمود المنتصر ، رئيس أول حكومة ليبية في دولة الاستقلال، وسفير ليبيا أذناك بسفارتها في روما.
صافحتُ الرجل في صمت ، ولكنّه قطعه بقوله: عظمّ الله أجركم ، ثم أضاف:
ـ هل أنت أحدُ أبناء المرحوم الشيخ ؟
ـ أجبته: بل أحدُ أحفاده
ـ أنت إبنُ من ، من أولاده ؟
ـ ابنه الأكبر، القاضي .. الشيخ أحمد ، ثم أضفت: أنا فاضل المسعودى ، الذي كنت أدعوك في صيف 1953 من راديو( صوت العرب ) في القاهرة ، بعد توقيعكم على المعاهدة البريطانية ، بـ « ( محمود المنكسر) !
رمقني الرجل بنظرة فاحصة وباسمة ، وقال في هدوء: حَبّذا لو تشرّفت بمعرفتك أكثر، في مناسبة أخرى .. ثم أضاف: تفضل بزيارتي في المنزل إذا كان ذلك في إمكانك .
قلت له : بل سيكون لي، أنا الشرف، يا سيدي ، إذا أتيح لي ذلك .. وسأتصل بسيادتكم بعد انتهاء مراسم التعازي في جدّي ..
****
جدّي هذا ، الذي رَحل عن الدنيا ، كان قد تجاوز المائة ، وكان شيخًا للطريقة العيساويّة وصاحب زاويةٍ في منطقة طرابلس ، وهو أحدُ رجال القضاء في العهد العثماني ولكنه عند اندلاع الحرب الليبية – الإيطالية ، أصبح إمامًا ” للطبجية ” أي شيخًا وواعظًا في الجيش التركي ومجاهدًا في الحرب وزميلاً وصديقاً للزّعيم سليمان باشا الباروني ، ثم مهاجراً معه إلى تركيا وبلاد الشام ,
وكان أحدُ الذين حَكم عليهم الإيطاليون بالإعدام غيابياً ، وصادروا ممتلكاته ، ومنها مَنزله الذي بَنت عليه بلدية طرابلس فيما بعد ، فندق وكازينو ( الودّان ) .. وله أتباع ومُريدون وتلاميذ كُثر في ليبيا .. وهو عميد أسرة المسعودي في شط الهنشير وحفيدُ الوليّ الشهير ( سيدي الصيد) وجدّهُ مدفون هو الآخر، إلى جانب ضريح الصيد
****
بعد انتهاء مراسم التعازي في رحيل الشيخ ، وجدتُ المناسبة متاحة ، للتوجّه للرجل الكبير الذي أسأتُ إليه يومًا من الأيام أيّما إساءة ، قبل أن أكتشف بأنني ظلمته ، يوم التقيت بأحد عارفيه من رجال ليبيا ، في القاهرة ، وقد تفضل الرجل عليّ بتوضيح الأمر وتفنيد كل ما أَلصقناه به من تهم عن ” المعاهدة ” التي وقّع عليها مع بريطانيا من أجل ليبيا ، ودولة الاستقلال التي كانت يومها في “الإنعاش ” ولم يكن أمامه إلا التوقي !
كان هذا الرّجل هو النائب المحترم ، المعارض ، في أول برلمان ليبي ، المرحوم صالح مسعود بويصير، أحد أبرز المعارضين في مجلس النواب لتلك المعاهدة ، قبل أن يُتّهم في حادث مقتل ناظر الخاصة الملكية المرحوم إبراهيم الشلحي ويضطرّ إلى الفرار من ليبيا سنة 1954 ويحلّ بالقاهرة ، وقد كنتُ ، أنا وصديق العمر والطفولة ، المرحوم الصّحفي محمد عمر الطشاني ، صاحب جريدة، (الحرية) فيما بعدُ ,
كنا الوحيدين من شباب ليبيا في القاهرة ، اللذين أسرعنا إلى استقباله والترحيب به والتعرّف عليه والتعاطف معه في خلافه مع رئيس الحكومة يومذاك السيد مصطفى بن حليم ، الذي عُيّن بواسطة وتدخّلات المرحوم إبراهيم الشلحي ، رئيسًا للحكومة الليبية ، خلفًا للسيد محمود المنتصر الذي كان قد استقال بسبب تدخّلات الشلحي في السلطة وما تسبب فيه من إزعاج ومُضايقات له!
وكنا، المرحوم محمد عمرالطشاني وايضًا المرحومين: البهلول الدهماني وعلى أحمد بوزقية ، نُشكل (حلقة مُترابطة) منذ أن تواجدنا كطلبة في القاهرة ، تُشبه ( تنظيمًا) تابعًا لحزب الكتلة الوطنية الحرة ، تحت إشراف ورعاية الأستاذ المناضل ، المرحوم محمد توفيق المبروك سكرتير عام حزب الكتلة الوطنية الحرة ، الذي أُعتقل ثم أبعدته الإدارة البريطانية من ليبيا إلى تونس في نهاية ” حملة القمع ” التي شنّتها على (حزب الكتلة الوطنية الحرة) ، في أعقاب الانتفاضة الشعبية الغاضبة التي اندلعت بين يوميّ 15 و 17 فبراير سنة 1948، قبيل وُصول ” لجنة التحقيق الدولية الرباعية ” إلى طرابلس ، ولكن المناضل محمد توفيق المبروك ، نجح في الانتقال من تونس سنة 1950 إلى القاهرة ، واختار أن يكون منفاه فيها .
وقد رحّب به أنذاك ، أمين عام جامعة الدول العربية ، السيد عبد الرحمن عزام باشا ، وخصّصت له الأمانة العامة للجامعة العربية ، مساعدةً مالية شهرّية قدرها عشرون جنيهًا مصريًا لمساعدته فى الإنفاق على حياته المعيشية .
وكان معنا في المجموعة أيضا، الشاب الوطني المُتحمّس ، بشير السفاقسي الذى كان يعمل بشركة الطيران البريطانية (BOAC) التى لها مكاتب عدة ، أحدها بطرابلس والثاني فى القاهرة ، وشاب طرابلسي آخر من بسطاء شارع ميزران يُدعى ” على السّيد ” يعمل سائقًا خاصًا لدى واحدٍ من بشوات مصر يُقيم فى الصّعيد ، وعدد آخر من زملائنا الطلبة الليّبيّين فى الأزهر، من المتعاطفين مع ” الكتلة ” والمهتمّين بالقضية الليبية والمُتابعين لأخبارها وما يجري في بلادهم من أحداث وتطورات بعد ” قرار” الأمم المتحدة القاضي باستقلال ليبيا والصادر فى 21 نوفمبر 1949 والمُكلف بتنفيذه المندوب الأممي الهولندي، المستر “ادريان بلت” ، الذي ينتاب الأوساط الوطنية المتشدّدة ، الكثير من المخاوف والهواجس تجاه مواقف هذا المندوب وعلاقاته بالادارات البريطانية والفرنسية التي كانت ما تزال تُسيّر الأوضاع فى ولاية طرابلس وولاية برقة والإدارة العسكرية الفرنسية التى تحتلّ ولاية فزان ونَواياها فى التآمُر على القرار الأممي ؟
وكانت مجموعتنا وهي المجمُوعة ” المنظمة الطلابية الوحيدة ” التي تُمثل فى القاهرة ، واحداً من الأحزاب الليبية المتشدّدة فى الداخل ، والتى كانت الادارة البريطانية بولاية طرابلس تتعامل معها بصرامة وانتباه ، فى سبيل تحجيمها أي ” الكتلة ” ، والحدّ من تأثيرها ونُفوذها وانتشارها والتّعتيم على نشاطاتها داخل ليبيا وخارجها ، منذ أحداث العنف التى انفجرت بين أنصارالكتلة والسلطة الانجليزية بولاية طرابلس ، ما بين 15 و17 فبراير 1948.
والتي وَصفها مُراسل جريدة ” المصري ” الوفدية بمانشيت أحمر، على الصفحة الأولى يقول: مظاهرات دموية فى طرابلس!! والتي قرّرت بعدها ، الادارة البريطانية حلّ الحزب والقضاء على ميليشياته ومُلاحقة قادته ومحاكمتهم أمام محاكم عسكرية والزّج بالكثير من أنصاره فى السجن ، ووضع أبرز عناصره تحت الاقامة الجبرية والعمل على حرمان الكتلة من إرسال وفد يمثلها للمشاركة فى حضور مناقشات الأمم المتحدة عند عرض القضية سنة 1949!
ومن أبطال شباب الكتلة الذين ما يزال بعضهم على قيد الحياة محمد الشاوش وميلود الزقلعي ومحمد فرنكه ومحمد شراطه والمناضل البارز ، عضو الهيئة التنفيذية للكتلة ، الأستاذ نور الدين بو شويرب والمرحومين: الأساتذة محمد العموري الككلي ومحامي الكتلة وخطيبها المُفوه الشيخ علي العقاب ورجل التربية والتعليم الأستاذ مصطفى المبروك.
…
يتبع
***
فاضل المسعودي ـ الصّحفي الكبير وعميد الصحفيين وصاحب البصمة المشهودة في تاريخ الصحافة الِلّيبيّة منذ بداية مشواره الصحفي
_______________