ابراهيم عبدالعزيز صهد

المسرح الدولي يُعَـد

في فبراير 1943 تمكن الجيش الثامن من احتلال برقة وطرابلس، وتمكنت القوات الفرنسية من احتلال فزان، وتم بذلك طرد قوات المحور بصورة نهائية من كامل الأراضي الليبية.

كان ذلك يعني انتهاء حقبة استعمار إيطاليا الذي دام أكثر من ثلاثين عاما. وقد أقيمت في ليبيا ثلاث إدارات عسكرية هي إدارة برقة وإدارة طرابلس وتولتهما بريطانيا، وإدارة فزان وتولتها فرنسا.

ومنذ خروج قوات المحور من البلاد نشط الشعب الليبي فشكّل النوادي السياسية والجمعيات والأحزاب التي كانت في معظمها تطالب باستقلال البلاد ووحدتها، وكان مطلب إمارة السيد محمد إدريس أمرا متفقا عليه في كل من برقة وفزان، وكان يجد أنصارا ومعارضين في طرابلس.

وجدير بالذكر أن إمارة السيد إدريس كان يقاومها الأمين العام لجامعة الدول العربية –آنذاك– “عبد الرحمن عزام (باشا)، الذي كان يسعى –عن طريق علاقاته القديمة بمنطقة طرابلسإلى تشجيع رفض زعامة السيد إدريس.

غير أن الأحزاب والجمعيات السياسية في طرابلس ما لبثت في نهاية المطاف حتى وحدت كلمتها بالقبول بزعامة السيد إدريس، بعد أن اتضح جليا أن الوحدة الليبية لن يكون في الإمكان تحقيقها إلا تحت قيادته.

ولقد كان السيد بشير السعداوي من أكثر المتحمسين لذلك بعد أن كان من المعارضبن لها، ولعله قد ساهم مساهمة كبيرة في إقناع المعارضين في منطقة طرابلس.

وفي الواقع فإن ضغوط الليبيين من أجل تحقيق استقلالهم قد تم تنشيطها حتى قبل أن تنتهي المعارك في مسرح عمليات إفريقيا الشمالية، وبذلت مساع في ديار المهجر للتعبير عن وجهات نظر الشعب الليبي.

وكان من أوائل تلكم المساعي رسالة وجهها السيد إدريس إلى وزير الدولة البريطاني بتاريخ 10 سبتمبر 1941 ، مطالبا فيها بأن تعامل ليبيا بنفس الكيفية التي عوملت بها “أثيوبيا”، وأن يُعترف باستقلالها دونما أي إبطاء، ثم ألحقها بمذكرة إلى نفس الوزير مطالبا فيها بأن تعترف بريطانيا باستقلال ليبيا وتضمن سلامتها من أي هجوم.

وعبَّر عن استعداد ليبيا لعقد معاهدة مع بريطانيا، واقترح –لتنفيذهذه النقاط تشكيل لجنة ليبية بريطانية مشتركة. واستغل السيد إدريس اجتماع وزراء الخارجية العرب –المنعقد بتاريخ 14 فبراير 1945 (الاجتماع التحضيري لتأسيس جامعة الدول العربية)- وقدم إلى المجتمعين تقريرا إضافيا مطالبا أن يثمثَل الشعب الليبي في الجامعة العربية، وأن تقوم الجامعة بمؤازرة هذا الشعب في “أن يكون له حقه الطبيعي في تقرير مصيره وشخصيته الدولية مثل باقي شعوب الدول العربية.

مؤتمر (بوتسدام)

انعقد مؤتمر “بوتسدام” (ألمانيا) بتاريخ 17 يوليو 1945، وكانت مهمة المؤتمر وضع الإجراءات الكفيلة بتنفيذ اتفاقية “يالطا”، وقد حضر الاجتماع كل من الرئيس الأمريكي هاري ترومان، ورئيس الوزراء السوفيتي جوزيف ستالين، أما بريطانيا فقد حضر رئيس وزرائها ونستون تشيرشل أولى جلسات المؤتمر، ولكنه لم يلبث أن فقد منصبه نتيجة لخسارته في الانتخابات العامة التي جرت تلكم الأيام، فخلفه رئيس الوزراء الجديد كليمنت أتلي الذي أكمل بقية جلسات المؤتمر. وقد قرر المجتمعون إحالة قضية المستعمرات التي كانت تابعة لدول المحور مع بقية القضايا المتعلقة بمعاهدة الصلح مع إيطاليا إلى مؤتمر وزراء خارجية الدول الكبرى (الاتحاد السوفيتي، الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا).

مؤتمرات وزراء الخارجية

عقد مؤتمر وزراء الخارجية عدة اجتماعات، اتسمت ثلاث منها بأهمية خاصة:

اجتماع لندن 11 سبتمبر 1945:

وقد تناول معاهدة الصلح مع إيطاليا، بما في ذلك قضية المستعمرات الإيطالية السابقة، وكانت آراء الدول الأربع كالتالي:

اقترح وزير الخارجية البريطاني “بيفن” أن تقوم إيطاليا بالتنازل عن هذه المستعمرات.
وأعلن “جورج بيدو” وزير خارجية فرنسا أن بلاده تميل إلى إعادة تلك المستعمرات إلى إيطاليا, وذلك حتى يبعد الخطر عن المستعمرات الفرنسية في إفريقيا، خاصة تونس والجزائر والمغرب.

أما الاتحاد السوفيتي فقد أعلن وزير خارجيته “مولوتوف” أن بلاده ترى ضرورة وضع كل مستعمرة من المستعمرات الإيطالية السابقة تحت إدارة إحدى الدول الأربع، وأن الاتحاد السوفيتي على استعداد لتسلم إدارة القسم الغربي من ليبيا(طرابلس).

واقترح وزير الخارجية الأمريكي “جيمس بيرنز” وضع المستعمرات الإيطالية تحت وصاية الأمم المتحدة شريطة أن تمنح ليبيا استقلالها بعد عشر سنوات.

اجتماع باريس أبريل 1946:

كانت آراء الدول الأربع متباينة كذلك:

تقدمت بريطانيا باقتراح منح ليبيا استقلالها حالا.
والاتحاد السوفيتي ارتأى أن تعاد المستعمرات إلى إيطاليا، ويعزى ذلك إلى رغبة الاتحاد السوفيتي في تعزيز موقف الحزب الشيوعي الإيطالي في الانتخابات الإيطالية العامة التي كانت ستُجرى آنذاك.

والولايات المتحدة أعلنت وجوب تحديد فترة معينة تستقل في غضونها هذه المستعمرات إذا ما وُضعت تحت الإدارة الإيطالية.
وظل الموقف الفرنسي على ما هو عليه.

اجتماع مجلس وزراء الخارجية في باريس يونيو 1946:

لم يتم التوصل في هذا الاجتماع إلى أي اتفاق، واقترح وزير خارجية أمريكا تأجيل بحث القضية لمدة عام كامل.

وبدون شك فقد أظهرت هذه الاجتماعات لمؤتمر وزراء الخارجية أن الدول الأربع كانت مختلفة كل الاختلاف في عرضها للحلول، وأن هذه الدول قد تجاهلت سكان المستعمرات قيد البحث، كما أن الحلول المقترحة كانت محكومة بمصالح هذه الدول.

فبالنسبة لفرنسا: كان همها الأكبر تأمين مستعمراتها الإفريقية الواقعة غرب ليبيا وجنوبها وتعزيز سيطرتها على فزان كمكسب ثانوي.

والاتحاد السوفيتي كان يلعب الشطرنج بمهارة، فهو يريد موقعا على المتوسط، والشيوعية في حاجة على التمدد، وليبيا ورقة لتحقيق هذين الهدفين، ولكن هدفه الأكبر كان استخدام هذه الورقة –وغيرهالتحقيق مكاسبه في أوروبا وترسيخها.

وبريطانيا قد سببت لها نقلات الاتحاد السوفيتي الشطرنجية قلقا بالغا وأزعجتها من الانفراد بالفريسة، قامت هي الأخرى بنقلتين:

تنازل إيطاليا عن المستعمرات، ومنح ليبيا الاستقلال حالا إبعادا لإطلالة الدب الروسي على شواطئ المتوسط، وإخفاء لهدفها البعيد وهو الاستيلاء على برقة بما يعزز سيطرتها ونفوذها في مصر والسودان، وهي لهذا كانت على استعداد للتسليم بطرابلس.

والولايات المتحدة لا تريد إغضاب حليفتها الرئيسة (بريطانيا)، ولكن مرحلة طرد بريطانيا والحلول محلها قد بدأت بالفعل في مخططات الساسة الأمريكان.

مصر والقضية الليبية

اهتمت مصر بالقضية الليبية، وقامت بتقديم مذكرات إلى مؤتمر وزراء الخارجية، وإلى مؤتمر الصلح فيما بعد. ولقد انحصر موقف مصر في القول بأنه إذا لم تكن الدول الأربع على استعداد لمنح ليبيا استقلالها على الفور، فإن مصر تطلب أن يعهد إليها بإدارتها بوصاية من الأمم المتحدة، وطلبت مصر منح الليبيين خيار الانضمام إلى المملكة المصرية، وخصت بالذكر منطقة برقة.

وقد استمرت مطالبة مصر (والجامعة العربية أيضا) بوضع ليبيا تحت الوصاية العربية حتى عام 1947 حيث ابتدأ هذا المطلب يخفت تدريجيا أمام تقدم القضية الليبية. أما مطالبة مصر بتعديلات حدودية فقد استمرت حتى بعد أن قررت الأمم المتحدة منح ليبيا الاستقلال.

وقد بثت الأمم المتحدة في المطالب المصرية بإحالتها إلى لجان خاصة لدراستها الأمر الذي دفع بمصر إلى التوقف عن تلك المطالب بعد أن لمست حدة ردود الأفعال من طرف الشعب الليبي وخاصة احتجاج السيد إدريس لدى السيد أدريان بلت وإعلامه إياه أنه لن يقبل أية تعديلات في الحدود تتم قبل استقلال ليبيا.

وكانت مصر قد قدمت مذكرات إلى مؤتمرات وزراء خارجية الدول الكبرى وإلى، مؤتمر الصلح، وإلى دورات الجمعية العامة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة مطالبة بضم هضبة السلوم حتى تصبح مدينة البردية ضمن الحدود المصرية بحيث يبدأ خط الحدود إلى الغرب من البردية متجها إلى الجنوب الغربي ثم إلى الجنوب ضاما شريطا عريضا يحتوي على واحة الجغبوب، وبوصول خط الحدود إلى أعماق الجنوب يتوسع ليشكل مثلثا كبيرا رؤوس أضلاعه (معطن سارة – أركينو – العوينات) بحيث تقع هذه الواحات كلها في الأراضي المصرية.

وقد قدمت الوفود المصرية خرائط تحتوي المناطق المطلوب ضمها. وقد انتهت هذه المسالة نهائيا بعد استقلال ليبيا.

يتبع

***

إبراهيم عبدالعزيز صهد – عضو المجلس الأعلى للدولة ومفوض العلاقات الخارجية بحزب الجبهة الوطنية وعضو سابق في المؤتمر الوطني العام

____________

المصدر: مجلة الإنقاذ 1990

مقالات