يوسف عبدالهادي الحبوش
ربما كان تعنت الأمير السنوسي على الدوام ضد أي فرصة قد تُمَكِّن الايطاليين من الهيمنة من جديد على أي جزء من ليبيا أو حتى المشاركة في المحادثات السياسيّة المؤدية لاستقلالها هو السبب الرئيس لتعنت “حزب الاستقلال” ذو المنشأ الإيطالي!, والذي كان ينادي بكل وضوح إلى وصاية إيطالية على طرابلس, وصار الآن بمثابة “إسفين” عزّام الجديد الذي دقّه في الجسم السياسي الطرابلسي.
ولا شك أن تبرير السعداوي لخطوته المقلقة التي تطرقنا إليها في الحلقة الماضية حين اجتمع مع عزّام ومعهم في الإسكندرية يوم 25 سبتمبر بأنها جاءت بسبب عدم وضوح السياسة البريطانية حول وحدة ليبيا هو تبرير غير مقنع للحد الذي يجعله يتنصل من وعوده مرة أخرى وأن ينحى هذا المنحى الخطير
لأن الاستقلال والوحدة تحت التاج السنوسي كانت شعار الأكثرية الساحقة في جميع أنحاء طرابلس الغرب, وأن تفويض رجال هيئة المؤتمر الطرابلسي لرئيسه السعداوي كانت على هذا الأساس, وهو ما أدلى به السعداوي نفسه!
ويمكن للدارسين هنا أن يبحثوا عن الأسباب التي أخضعت السعداوي لهذا الابتزاز العزاّمي الخطير! والذي تسبّب في اهتزاز موقفه من جديد وبطريقة كادت ان تذهب بالفائدة المرجوة.
إذًا, وفي سبتمبر بدأت المداولات الخطيرة والمتشعبة للجمعية العامة للأمم المتحدة حول مصير المستعمرات الإيطالية السابقة ومنها ليبيا, وفي أكتوبر كانت الهيئات الليبية قد استعدّت للمشاركة على النحو الاتي:
برقة: خليل القلال وعمر شنيب لينظم إليهم شقلوف وقد أوصاهم الأمير باصطحابه عند عبورهم لندن.
طرابلس كانت وفودها على النحو التالي:
السعداوي وميزران ومحمد فؤاد شكري عن المؤتمر الوطني الطرابلسي.
ومختار المنتصر وعبدالله بن شعبان وراسم كعبار وعبدالله الشريف عن حزب الاستقلال.
وممثل عن الطائفة اليهودية.
لقد احتفظ الوفد البرقاوي هناك بخط الرجعة لمواجهة ما تفاجئهم به الأيام وبما لا يخالف مبادئهم وأهدافهم الأساسية لمصلحة الوطن المتمثلة في العرش السنوسي المنقذ (كذا).
لقد أثار خطاب شنّيب أمام لجنة السياسة والأمن ثائرة الحكومة البريطانية, كما عبّر شنّيب عن أتاحة الفرصة أمام وفدي طرابلس للمطالبة بكل وضوح بالاستقلال والوحدة تحت تاج إدريس السنوسي مثلما عبّروا عنه في الدورة الماضية لهيئة الأمم؛
أما إذا كان للطرابلسيين رأي آخر فلا مناص للبرقاويين من مطالبتهم باعتراف هيئة الأمم باستقلال إمارتهم الناجز التام الذي انتزعته, وأن يتم تعويضها بسبب دخولها الحرب مع الدول المنتصرة, كما طالبوا باستقلال طرابلس وفزان.
هذا, وسنجد في التقرير السري المرفوع للأمير إدريس من أعضاء الوفد البرقاوي قولهم:
“أنه وبعد تحققهم من موقف وفدي طرابلس المتباين لم يؤيدوا أحدهما على الآخر, كما أفادوا بأنهم طلبوا في جلسة خاصة حضرها رؤساء وفود الدول العربية وممثل الباكستان أن يكون هؤلاء المندوبين العرب شهود عدول على الموقف بينهم وبين إخوانهم الطرابلسيين من حيث تحقيق الشرط الأساسي في ما يخص الإمارة على ليبيا..
كما أفادوا أيضًا أن بشير السعداوي حضر تلك الجلسة؛ وصرّح أمام الجميع بأنه لا يعمل لغير الاستقلال التام والوحدة تحت تاج الأمير إدريس, كما أبرز الوثائق الرسمية من المؤتمر الوطني الطرابلسي التي تخوله تمثيله على هذا الأساس.
ولكن الوفد البرقاوي –كما يفيد في تقريره– لم يطمئن كل الاطمئنان, بل طالبوا السعداوي بأن يقف الموقف المطلوب أمام اللجنة السياسية لهيئة الأمم, كما حملوا على عزّام لما قام به من الاعمال الضارة بقضية ليبيا وأغراضه الهدامة ومطامعه وعدواته الشخصية للامير؛
فأكّد السعداوي جميع أقوالهم, بل وحمل هو نفسه على عزّام حملة شعواء قائلا أن ظروف القضية اضطرته لمسايرة حزب الاستقلال الذي هو صنيعة الايطاليين وعزّام, وأنه (أي السعداوي) مسؤول أمام وفود الدول العربية هذه أن ينبذ هذا الحزب بمجرد التحقق من ميل دول المنظّمة للموافقة على الاستقلال..
وطلب السعداوي من الوفود العربية ومندوب الباكستان أن يشتركوا معه في إقناع وفد جماعة حزب الاستقلال الذين تمسكوا بقولهم أنهم غير مصرّح لهم بذكر الامارة قبل أن يُقرَّر الاستقلال والوحدة.
وأضاف السعداوي أمام الحضور: بأنه سيسير على خطة الوفد البرقاوي؛ لأنه يصادق الجميع لمصلحة بلاده ولسمو الأمير السيد محمد ادريس السنوسي الذي ليس في ليبيا جمعاء من تسوّل له نفسه أن يتقدم عليه, ولا يصح لنا استقلال او وحدة بدونه!. (هكذا).
كما افاد أعضاء الوفد البرقاوي في تقريرهم للأمير بأن بشير السعداوي لم يتوقف عن السعي تجاه ضغطهم عليه ونعتهم له بصفات لا يجوز ذكرها في هذ التقرير أن يتبيّن الخطة الصحيحة التي يجب أن تُتّبع“.
هذا ومن الجدير بالذكر أن بشير السعداوي –كما جاء في نفس التقرير– حظي باتصال تام ومشاورات دائمة من قبل الوفد البريطاني في الأمم المتحدة, وفي المقابل قوبِل الوفد البرقاوي من نفس الجهة بالإهمال التام, بل ورفض الممثل البريطاني حتى مجرد الجلوس معه لبحث القضية رغم الحاح الوفد عليه!,
وذلك لقناعة الممثل البريطاني بأن الوفد البرقاوي ملزم باتباع التعليمات التي تصدر له من الأمير في برقة, وأن الأمير إدريس قد أغاظ الانجليز بعدم التفاته لطلباتهم التي جاءت ضمن مذكرات رسمية قدمها له المعتمد البريطاني ديكاندول في 23 لاو 24 سبتمبر الماضي, زاد ذلك تصرفات وتصريحات الوفد البرقاوي المتحررة عن السياسة الإنجليزية سواء في الدورة الماضية لهيئة الأمم أو في هذه الدورة.
وعليه, وبدون التطرق لمئات التفاصيل الانشطارية المتشابكة اليومية التي لا غنىً عن معرفتها؛ والتي حدثت في شهري أكتوبر ونوفمبر 1949م داخل أروقة الهيئة ومن وفود دولها بخصوص المستعمرات الإيطالية السابقة ومنها ليبيا, ومع الاحتياطات التي أتخذها الوفد البرقاوي في مطالبه التي قدمها الى اللجنة السياسية لمواجهة احتمال تأجيل الاستقلال ومواجهة أسئلة اللجنة؛
وحيطته أيضًا قبل أن يدلي بتصريحه للجنة بخصوص تلك المطالب بأن يتقدّم بشير السعداوي قبلهم للإدلاء بمطالبه لمعرفة موقعه (كذا)؛
فإن الشيخ بشير السعداوي أودع أيضُا مذكرة قرار المؤتمر الوطني الطرابلسي الحاوية على المطالبة بالاستقلال والوحدة تحت تاج الأمير, فجاءت هذه المرّة وكما تبدو خطوة في اتجاهها الصحيح.
وفي النهاية صدر قرار الجمعية العامة في 21 من الشهر باستقلال ليبيا التي تشمل برقة وطرابلس الغرب وفزان دولة واحدة وبالشروط المعروفة وبحيث لا يتأخر إعلانه عن أول يناير 1952م..
ولكن وبعد ذلك وبعد أن بدأت الجهود في الداخل لإنجاز تلك الشروط التعجيزية الواردة في قرار الاستقلال, ومحاولة التغلّب على المعوقات التي يتطلب مواجهتها, سنسترسل في سياق هذه الحلقات تبيين المواقف التي اتخذها السعداوي وجعلت النفوس تتحفز ضده في طرابلس نفسها وبين أنصاره قبل أن يحدث ذلك في برقة.
وبعد صدور قرار الأمم المتحدة القاضي باستقلال ليبيا عاد السعداوي من نيويورك الى القاهرة, وفي فاتح فبراير 1950 وصل إلى بنغازي والتقى هناك بالأمير ادريس وبأعضاء جمعية عمر المختار وبالعديد من الشخصيات.
…
يتبع
_____________
المصدر: صفحة علاء فارس على الفيسبوك