عمر الكدي
القذافي والفن
في الفصل الثالث من الكتاب الأخضر كتب القذافي، «إن الشعوب لا تنسجم إلا مع فنونها وتراثها». لم تخضع هذه المقولة للنقاش حتى على مستوى المؤتمرات الشعبية التي «تحتكر السلطة» نظريا، وإنما باشرت لجانه الثورية في حرق آلات الموسيقى الغربية في ميدان الشهداء.
ومع مطلع التسعينيات مُنعت من البث في الراديو والتلفزيون جميع أغاني الستينيات. مُنعت أغاني سلام قدري ومحمد صدقي وشادي الجبل وخالد سعيد وغيرهم، وسمح لمطرب صاعد في بداية السبعينيات بشق طريقه إلى القمة.
كان ممرضا في الجيش وبعد أن غنى أغنية «من طبرق طير يا حمام وهدي فوق برج الملاحة»، تفرغ محمد حسن للغناء والتلحين وفهم ما يريده القذافي، فأنتج عددا من الأغاني الوطنية قبل أن يتوجه إلى التراث الليبي، وينتج مع عدد كبير من فناني تلك المرحلة «رحلة نغم»، وهي رحلة غنائية تطوف بجميع أنحاء ليبيا، وتختار كلماتها من تراث كل منطقة.
وكان عملا ناجحا بكل المقاييس، ثم تحول محمد حسن ليركز على الغناء البدوي متجاهلا الغناء الذي اشتهرت به المدن، لينتهي في خيمة تشبه خيمة القذافي، وحتى ملابسه أصبحت مثل ملابس القذافي، إلى درجة أن نكتة راجت في تلك الفترة تقول، «إن ابن القذافي وابن محمد حسن كانا يسهران معا، فقال ابن محمد حسن لابن القذافي افتح التلفزيون، فقال ابن القذافي أكيد سنجد فيه أبي أو أباك».
كان علي الكيلاني وعبدالله منصور يتبادلان إدارة الإذاعة، والوجود قرب القذافي في حله وترحاله، ويتنافسان على كتابة الأغاني في تمجيد القذافي، واستغنيا عن المطربين والمطربات الليبيين والليبيات وتعاقدا مع عدد من المطربات العربيات، اللواتي تعودن الغناء باللهجة الليبية.
اختفت أغاني الستينيات الجميلة وحلت محلها أغانٍ بدوية، كما مُنعت أغاني المرسكاوي من البث في الإذاعة لكنها شقت طريقها في الأحياء الشعبية وخاصة في بنغازي، وعلى الرغم من الرقابة الصارمة إلا أن بعض الأغاني تسربت وأحرجت النظام، من بينها أغنية وين سايرة يا مركبي قولي لي بحرك غريق خايف عليك تميلي.
وكان لا بد من الرد عليها بعد منعها بأغنية مثل أغنية محمد حسن «عندك بحارة يا ريس عندك بحارة»، وذات مرة غضب القذافي من عبدالله منصور فطرده وأهمله عدة أشهر، وكتب منصور أغنية «ليش بطى مرسالك عني لو ترحمني ما تظلمني من عطفك لا تحرمني بأفضالك ليش مخاصمني وعندي عين مشتاقة واليوم بعامين»، والتي لحنها وغناها محمد حسن الذي أثبت أنه ملحن عبقري حول هذه الكلمات التافهة إلى أغانٍ ترددها الجماهير دون أن تعرف قصتها، وكانت كافية ليرضى القذافي على عبدالله منصور.
كما راجت أغاني العْلَم البدوية القادمة من شرق البلاد، بالإضافة إلى أغاني الطبيلة، حيث تجلس مجموعة على الأرض وبينهم طاولة، وفي أيديهم أعواد يدقون بها على الطاولة، مما جعل أحد الباكستانيين يطلق عليها ثلاثة نفر كسر طاولة، وراج هذا الاسم بين الناس.
وذات مرة قطع التلفزيون برنامجه لينقل كلمة للقذافي، وبعد انتهاء الكلمة عادوا للبرنامج وبالصدفة كانت الأغنية المبرمجة أغنية الفنان عبدالله الأسود «ع الحبلين تلعب ع الحبلين أه منك يا بو وجهين»، واعتبرت الأغنية مؤامرة على القذافي وحقق فيها طويلا، ومنعت من البث كما منعت أغاني عبدالله الأسود من البث أيضا.
في عهد القذافي لم يبن مسرح واحد في طرابلس، بينما بنيت مسارح كثيرة في مناطق ريفية لم يشاهد أهلها مسرحية واحدة في حياتهم، الأمر الذي جعلهم يحولون تلك المسارح إلى مخازن للأعلاف، وظلت فرقة المسرح الوطني تعتمد على مسرح الكشاف لعرض المسرحيات القليلة التي أنتجت في ظروف صعبة.
وكانت لجان الرقابة على النصوص ترفض أكثر مما توافق، وكل خمس أو ست سنوات توافق الوزارة على تنظيم مهرجان وطني للمسرح، تستغل فيه أعياد الفاتح من سبتمبر وتبرز مسرحية كتبت وأخرجت لتمجيد القذافي، لتعرض بعدها مسرحيات طليعية تفوز بجوائز في مهرجانات عربية، ولكنها لا تفوز بأي جائزة في ليبيا.
كان القذافي كلما اجتمع مع القيادات الإعلامية يعبر عن غضبه من الإذاعة، وذات مرة قال إن «هناك يدا سوداء في الإذاعة»، فقال مختار ديرة «أكيد يد يوسف الدبري»، وهو رجل أسود اللون وعضو في تنظيم الضباط الأحرار وكُلف عدة مسؤوليات في الإعلام، وكان لا بد أن ينتهي هذا التلفزيون بشخصية مثل يوسف شاكير، حيث كان له برنامج كل ليلة في التلفزيون في آخر أيام القذافي، وهو يخرج بيضة خضراء ويقول إن دجاجة باضت هذه البيضة اليوم، وهذا دليل على أن القائد سينتصر.
في منتصف الثمانينيات وصلت انتينات ويزي الألمانية، وتمكن الليبيون في المنطقة الغربية من التقاط التلفزيون التونسي، كما تمكنوا من التقاط القنوات المصرية في شرق البلاد، وعندما انتشرت القنوات الفضائية لم يعد الليبيون يشاهدون قناتهم الوطنية التي أطلقوا عليها اسم «قناة القنفود» أي القنفذ، كما انتشرت أغاني الراب ووصلت أغاني ناصر المزداوي وأحمد فكرون وراجت أغاني الفونشة وعبدالجليل عبدالقادر ملك المرسكاوي.
توقفت المسلسلات المصرية بعد قطع العلاقات بين البلدين، وحلت محلها المسلسلات البدوية الأردنية، والمسلسلات السورية وخاصة التي كتبها الشاعر محمد الماغوط، مثل وادي المسك وضيعة تشرين، واكتشف الليبيون التشابه العجيب بين بطل مسلسل وادي المسك غوار الطوشي والقذافي، واستدعى القذافي كل فريق العمل ومنحهم الجوائز ومنح دريد لحام وساما رفيعا، وعندها قرر الليبيون مقاطعة المسلسل.
ذكاء القذافي
شهد تقريبا كل من عمل مع القذافي عن قرب بأنه كان شديد الذكاء، فالطفل الذي فكر منذ أن كان في المرحلة الإعدادية بالتخطيط للانقلاب على النظام الملكي لا شك طفل غير عادي.
طريقة استقطاب أقرانه لتشكيل خلية مدنية في سبها وربطهم بشخصه، ثم دفعهم لدخول الكلية العسكرية تؤكد أن المخطط لم يكن صدفة، وإنما وراءه عقل يفكر ويدبر. طريقته في التفاوض مع رتب كبيرة لمساعدته في تنفيذ الانقلاب، وإخفاء أعضاء تنظيمه كافة تؤكد دهاءه وقدرته على السيطرة.
اللجوء إلى نظام عبدالناصر لطلب المساعدة وتأمين الانقلاب كان تفكيرا منطقيا وعمليا. طريقة انفراده بالسلطة واستبعاد كافة رفاقه في الانقلاب تؤكد امتلاكه لعقل ذكي وتآمري، ولكن في المحصلة النهائية هو ذكاء سلبي لم تستفد منه البلاد شيئا، بل تحول إلى خراب استمر أكثر من أربعة عقود.
في سنة 1970 أجرى الشيخ زايد بن سلطان عملية جراحية في مستشفى اندير بطرابلس، وهو مستشفى خاص شيده الدكتور سالم اندير. بعد خروجه من المستشفى قال الشيخ زايد أتمنى أن يكون لنا ذات يوم مستشفى في أبوظبي مثل هذا المستشفى.
في سنة 1978 زحف المنتجون على المستشفى وأمموه وخرج منه الدكتور اندير وهو يحمل سترته التي كانت معلقة عندما اقتحم الزاحفون مكتبه.
وفي أول التسعينيات نشرت تحقيقا في جريدة الجماهيرية عما آل إليه المستشفى، بعد أن تحول إلى مستشفى لإجراء عمليات الإجهاض لضحايا كبار المسؤولين، وأقفل المستشفى دون التحقيق مع مديره وهو صيدلي سيطر على المستشفى ورفض توظيف أطباء ليبيين، فجميع أطقم المستشفى كانوا من أوروبا الشرقية.
أُقفل المستشفى بحجة الصيانة وعندما غادرت ليبيا العام 1999 كان قد تحول إلى خرابة، بينما شيد الشيخ زايد ومحمد آل مكتوم عشرات المستشفيات والأبراج في الإمارات.
كان الشيخ زايد رجلا بدويا وأميا، وكان يستشير أهل الخبرة في كل خطوة يخطوها، بينما ذكاء القذافي جعله يفقه في كل شيء ولا يحتاج إلى من يستشيره، وهذا ما أقصده بالذكاء السلبي.
كان يمكن للقذافي أن يبني نهضة شاملة في كل الحقول ويغير ليبيا بالكامل، لو نظر إلى بلاده بشكل واقعي واستعان بأهل الاختصاص، وترك أوهام العظمة جانبا وتغيير العالم، وذلك بالتركيز على التعليم وإيفاد آلاف الطلبة للدراسة في أفضل الجامعات في العالم، وبناء جامعات متطورة في ليبيا، والتركيز على تخصصات تنقذ الحياة في ليبيا التي تعاني من التصحر ونقص المياه، بدلا من التفكير في إنتاج أسلحة الدمار الشامل. ت
حلية مياه البحر من بين هذه التخصصات، وإنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وإنتاج الهيدروجين الأخضر بدلا من الإنفاق على الكتاب الأخضر، وإدخال البحر إلى الصحراء الشاسعة كان من الممكن خلال سنوات معدودة أن تتغير ليبيا بالكامل، خاصة إذا أنشئت مراكز بحوث تهتم بتطوير التكنولوجيا في هذه التخصصات، وتوسيع الرقعة الزراعية في بلد معظم مساحته الشاسعة صحراء قاحلة.
كل هذا كان ممكنا، ولكن كان عليه أن يتخلى عن عقدة عبادة الفرد، ومحاولة تخليد نفسه وبناء المعجزة الثامنة كما وصف مشروع النهر الصناعي، الذي أنفق عليه أكثر من 32 مليار دولار بسعر الثمانينيات، وذات يوم ستنفد هذه المياه وعندها لن نجد مصدرا آخر، بينما الحلول الأخرى تكلف أقل وهي مستدامة. عندما افتتح مشروع النهر الصناعي ألقى القذافي خطابا قال فيه «مش تجوني بعد خمسين سنة وتقولوا لي المية تمت»، وماذا تفعل هناك بعد خمسين سنة؟.
هذه مشكلة القذافي، لقد عطل كل شيء ليبقى وحيدا في قمة السلطة، وكان يخشى من أن التعليم الجيد سينتج عقولا تفكر ويخشى منها على نفسه، لذلك فرض التدريب العسكري في المدارس وفرض تعليم كتابه الأخضر، وأسس مراكز أشبال وسواعد الفاتح، ووجد ما يكفي من مال لينفق على مشاريعه التي لم تنتج دينارا واحدا ولم تصنع عقلا يفكر، كما لجأ، مثل كل طاغية، إلى تجويع الناس، مطبقا المثل القائل «جوع كلبك يتبعك».
وها هي ليبيا الآن مفككة وفي ذيل جميع الدول على الصعد كافة، ولا تستطيع نخبها التوافق حتى على الحد الأدنى، وضاع نصف قرن من الهراء والعبث في بلد كان واعدا ذات يوم، فبماذا انتفعت ليبيا وجيرانها من ذكاء القذافي، الذي نجح في الحفاظ على نظامه ودمر الحياة فيها. إنه أسوأ مثال على الذكاء السلبي.
_____________