عمر الكدي

القذافي والقنفذ

عندما اخترت لهذه السلسلة من المقالات عنوان «تشريح القنفذ» لتحليل شخصية معمر القذافي، كنت أدرك صعوبة المهمة.

فقد تعودنا على عدم النظر بموضوعية للشخصيات التاريخية، إما أن نحبها بإفراط أو نكرهها بنفس الإفراط، وآليت على نفسي، منذ البداية، أن ألتزم، قدر الإمكان، بالموضوعية.

وهو أمر عسير حين تتناول شخصية سببت لك الأذى، وسببت لبلادك الكوارث، ولا يزال الليبيون والعرب منقسمين حول الطغاة المعاصرين من عبد الناصر، وعبد الكريم قاسم، وبومدين، والأسد، وصدام حسين، والقذافي، وبالتأكيد سنحتاج إلى مسافة زمنية مناسبة للتدقيق فيما خلفه هؤلاء من وثائق للحكم النهائي عليهم.

وما سلسلة المقالات هذه إلا محاولة مني لدراسة شخصية كان يجب أن تحاكم محاكمة عادلة حتى لا تتكرر مرة أخرى في تاريخنا الحافل بالطغاة، وقتله بهذه الطريقة الوحشية حرم الأجيال اللاحقة من معرفة ما جرى في حقبة القذافي الطويلة، لعل ذلك يكون مثل اللقاح المضاد لهذه الظاهرة الوبائية.

في البداية اخترت القنفذ بسبب صعوبة تشريحه وهو يحيط نفسه بكل هذه الأشواك، ولكن بعد أن درست سلوك القنفذ ودورة حياته، وشاهدت العشرات من الفيديوهات وجدت تشابهًا عجيبًا بين القذافي والقنفذ، فالقنفذ حيوان خجول منطوٍ على نفسه، ومعظم الطغاة هم كذلك، وكل من عرف القذافي أكد هذه الصفات، وخاصة قبل وصوله إلى السلطة، أما بعد وصوله إلى السلطة فتعود على مواجهة الجموع، فنزع ثوب أشواكه وأظهر قدرًا من الثقة بالنفس، إلا أنه سرعان ما يعود إلى خلوته وإلى ثوب الأشواك، وقصته «الفرار إلى جهنم» توضح خوفه المزمن من الجماهير.

أما في لحظات الخطر فيختفي القذافي مثل القنفذ ويدخل أول جحر، وهذا ما حدث بالضبط عندما أخرجه المتمردون من أنبوب صرف مياه الأمطار يوم 20 أكتوبر 2011.

القنفذ حيوان ينشط ليلًا، ويتحرك في الظلام معتمدًا على حاسة الشم، فنظره ضعيف، والقذافي تمرس في العمل السري قبل الانقلاب، وشكل خلاياه السرية في الظلام.
في الشتاء يدخل القنفذ في سبات يستمر من نوفمبر إلى مارس، لا يقطعه إلا كل أسبوعين ثم يعود إلى سباته، والقذافي ينزعج من البرد والشتاء، ويصاب بنزلات البرد بسهولة، لذلك إذا حل الشتاء يرحل إلى الصحراء، وأحيانًا إلى وادٍ جنوب سرت يُعرف بوادي جهنم لحرارته الفظيعة، كما لا يحب القذافي استخدام المكيفات في كل مكان يذهب إليه.

غرفة نوم القذافي تشبه جحر القنفذ، فلا توجد بها نوافذ، خوفًا من أن تصوره الأقمار الصناعية وهو في أوضاع مخلة، والقنفذ حيوان غير اجتماعي لا يعيش في عائلة، ويلتقي مع الأنثى في موسم التزاوج ثم يفترقان، والقذافي عاش طوال حياته بعيدًا عن عائلته، هو في باب العزيزية وبقية العائلة في رأس حسن أو في حي غرغور.

ليس للقنفذ أعداء يخشى مطاردتهم إلا الإنسان، وخاصة البدو في الصحراء الكبرى، الذين يعتقدون أن للحم القنفذ فوائد صحية، ويشفي بعض الأمراض، ومقوٍ جنسي، ومع ذلك فالقنفذ قادر على مواجهة أخطر الثعابين السامة وغير السامة، فجسمه لا يتأثر بسم الأفاعي والعقارب.

أي مواجهة مع هذه الزواحف يخرج منها منتصرًا، والأفاعي غير السامة التي تعتمد على عصر ضحاياها تهرب من القنفذ، فعصر القنفذ هو انتحار بالتأكيد، وتتحول إلى وجبة دسمة للقنفذ، الذي عادة ما يأكل الحشرات والفواكه المتساقطة.

لأن القنفذ يدخل في سبات شتوي فيحتاج إلى دهون يخزنها تحت جلده ليتغذى عليها في سباته الطويل، وهو ما يجده في الأفاعي والسحالي والضفادع.

في التراث الشعبي، وخاصة في المغرب، ثمة حكايات عن ذكاء ودهاء القنفذ، ولكنها حكايات تهدف إلى تعليم النشء عدم الاستخفاف بالكائنات الضعيفة، تشبه حكاية السباق بين الأرنب والسلحفاة، فثمة حكاية للسباق بين القنفذ والثعلب تنتهي بفوز القنفذ بالسباق.

كما توجد حكايات عن خداع القنفذ للذئب، ولكنها بالتأكيد حكايات غير واقعية وهي أشبه بإعلام القذافي الذي يصوره قائدًا منتصرًا بعد كل كارثة، ففي غارة استمرت ربع ساعة في أبريل عام 1986 أضاف لقب العظمى للاسم الرسمي للبلاد، وفي الحصار أنتجت أغانٍ تصوره يخرق الحصار بطائرته، واختار من بين كل الحيوانات الصقر، ولُقب بالصقر الوحيد، بينما كان في الحقيقة مجرد قنفذ حتى في السياسة الدولية، فصوت القنفذ يشبه صراخ طفل رضيع، ولا يشبه صوت الصقر أو أصوات الحيوانات المفترسة، ومن سوء حظ ليبيا أن قنفذها تحدى الأسد، والنمر، والذئب، والدب، والضبع، وهي حيوانات تسيطر على الغابة، وتأنف أن يتحداها قنفذ يهرب إلى أقرب جحر بمجرد أن يسمع زئيرها أو عواءها.

كان من الممكن أن يتغير مصير ليبيا لو أن قنفذها اقتنع بقنفذيته، ولم يتحول إلى صقر بأجنحة من وهم يقول لملك الغابة: «طز في الأسد».

لم يكن القذافي كما وصفه الصحفي المصري محمد حسنين هيكل «طرزان في نيويورك»، ولا حتى الرجل الوطواط في نيويورك، كان مجرد قنفذ في برارينا الشاسعة.

تحليل شخصية القذافي

تحليل شخصية القذافي يشبه تشريح القنفذ عندما يموت متكوماً على شكل كرة من الأشواك. لا بُد أولاً أن نثبته على ظهره لننفذ إلى بطنه حيث لا توجد أشواك.

أفلاطون يصف الطاغية بالذئب، ربما لأنه كان ضحية لأحد طغاة عصره، الذي سجنه ثم باعه في سوق العبيد، ومن حسن حظه تعرف عليه أحد تلاميذه فاشتراه ونقله إلى أثينا، وكانت هذه التجربة القاسية دافعه الأول ليكتب كتاب الجمهورية.

لا يظهر الذئب في شخصية القذافي إلا عندما ينفرد بفرائسه من البنات اللواتي يضع يده على رؤوسهن عندما يزور مدارسهن أو كلياتهن، فيجدن أنفسهن في دهليز تحت غرفة نومه، وثمة من يشبِّه القذافي بالجمل الحقود الذي لا ينسى الإساءة>

وحدثني الصديق المحامي جمعة عتيقة وقبله فوزي البشتي عن سبب سجنهما، فقالا إنهما عندما كانا في جامعة بنغازي تجتمع شلتهما في غرفة محمد خليل بالقسم الداخلي، وعندما يأتي القذافي لزيارة خليل رفيقه في مدرسة مصراتة الثانوية، يخفي خليل «الكارطة» ويفرش سجادة الصلاة، ويطلب من الجميع عدم القدوم طالما الملازم معمر موجود، إلا أن جمعة وفوزي عندما يجدان القذافي في الغرفة يقولان «أهو جاء العسيكري امتاع عبدالناصر» وينصرفان.

سُجِن فوزي البشتي بعد أن وقف في طابور المستقبلين بمطار عنتيبي بأوغندا، عندما كان يدرس اللغة العربية هناك، وعندما صافحه القذافي أمر بإعادته إلى ليبيا، ومن المطار إلى السجن حيث بقي ثمانية أشهر دون توجيه أي اتهام.

أما جمعة فقد عاد من المنفى بعد صدور العفو العام عام 1988، وبعد سنة وجد نفسه في سجن بوسليم لمدة سبع سنوات.

ومع ذلك فالقذافي أقرب إلى القنفذ فهو حيوان مؤذٍ ولا يمكن ملاطفته واستئناسه، ويخفي ضعفه بأشواكه الحادة التي تجعل الأفعى تفر منه، وهو حيوان غير شجاع، عندما يحس بالخطر ينطوي على نفسه ويبرز أشواكه، ولهذا عندما نحلل شخصيته علينا أن لا نستمع لما يقوله لأنه مخادع وكذاب، ولكن علينا اصطياد زلات لسانه فهي التي تكشف ما تحت الأشواك.

ذات مرة في أواخر الثمانينيات أتيح لي أن أحصل على السجل القومي، صندوق من الورق المقوى به مجلدات تحتوي على خطب القذافي منذ البيان الأول، بعد فترة اكتشفت أن نسخ السجل القومي تتغير كل سنة، وعندما تحريت الموضوع اكتشفت وجود لجنة مهمتها حذف ما قاله القذافي في إحدى السنوات المنصرمة، لأن الشخص الذي تحدث عنه القذافي لم يعد موجوداً، وهكذا اختفى كل ما قاله القذافي عن عمر المحيشي وبشير هوادي وآدم الحواز وموسى أحمد.

في النسخ القديمة قال القذافي إنه تعرف على عبدالسلام جلود في مركز شرطة سبها، بعد اعتقالهما خلال إحدى المظاهرات، وأنهما تغطيا ببطانية واحدة بسبب نقص البطاطين.

ولكن هذه القصة تغيرت على لسان محمد بالقاسم الزوي، عندما قال في التلفزيون إن جلود كان عضواً في الخلية المدنية التي شكلها الزوي في سبها، وبعد أن دخل الكلية العسكرية سلمه للقذافي.

بينما يقول جلود أنه لم يكن يرغب في الكلية العسكرية، ولكن القذافي أجبره على ذلك وتحايل على لجنة الفحص لقبول جلود بسبب مشاكل في أذنيه.

القنفذ مرة أخرى يخفي ما يريد ويظهر ما يريد.

القنفذ حيوان جبان لا يثق في نفسه وعندما ينظر إلى نفسه سينظر نحو تلك المساحة الصغيرة الخالية من الأشواك، وإلى وجهه الصغير الذي يخفيه على الفور عند أول مواجهة، وينطبق عليه ما قاله أفلاطون عن الطاغية، «فقيرة هي النفس التي تنظر إلى باطنها. تجد الخواء فتمتد إلى خارجها لتقتني ما يسد لها هذا الخواء».

على الطاغية، وفقاً لأفلاطون، أن يثير بعض الحروب أو يخلق عداوات جديدة، لكي يقنع شعبه أنه في خطر وأنه القائد.

أفلاطون كان يتحدث عن الطاغية اليوناني وبالتحديد ديوتسيوس طاغية سيراقوصة جنوب إيطاليا الذي عاصره في القرن الرابع قبل الميلاد، في حضارة تنتمي إلى البحر وتبجل العقل، ولم يختبر الطاغية البدوي الصحراوي الذي يزدري العقل والفن والحضارة، كما لم ينس أفلاطون طغيان العامة ويقصد بمفاهيم عصرنا الطاغية الديماغوغي، وكيف ينسى وديمقراطية أثينا حكمت على أستاذه سقراط بالإعدام عام 399 قبل الميلاد، وهذا النوع من الطغيان لا نزال نعيشه منذ 2011.

وبعد أن جرب أفلاطون طغيان العامة الذي انتهى بحكم الموت على أستاذه، قرر الخروج من أثينا وزار مصر قبل أن يدعوه ديوتسيوس لزيارته، فانتهى في أصفاد العبودية.

الغريب أن هذا الطاغية كان كاتباً تراجيدياً ووفقاً لديورانت كان واسع الثقافة وكان شاعراً.

حتى الآن لا أعرف لماذا ينجذب الطغاة إلى الكتابة، ويحرصون على إحاطة أنفسهم بكبار الكتاب والشعراء والمثقفين، وكنت أستغرب كيف يهرب شاعر كبير من جحيم صدام حسين إلى نعيم معمر القذافي وحافظ الأسد، وأدركت أن الطاغية لا يولد طاغية وإنما الشعوب هي من تصنع الطغاة، سواء كانوا ألماناً أو طلياناً أو إسباناً أو يابانيين أو عرباً.

____________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *