سالم الكبتي

العام 1950 شهد في خطوة نحو اتجاه الاستقلال وموازية لما حدث من تشكيل حكومتين في برقة لتلحقهما من بعد الثالثة.

شهد ذلك العام في بدايته تكوين حكومة في فزان البعيدة عن الساحل والقابعة وسط الصحراء. حراك سياسي محلي وسط تصريف الأمور من قبل الإدارة الفرنسية.

فرنسا كانت عينها على فزان.

دخلت قواتها إليها بقيادة ديغول ورفقة قوات حمد سيف النصر المكونة من جموع المهاجرين الليبيين في مناطق تشاد. كان ذلك قد تم عام 1953.

فرنسا أيضا كانت تتاخم فزان فترة الاحتلال الإيطالي. تتواجد في تشاد والنيجر وباقي حواف الصحراء.

درست وحللت واقع فزان. النسيج الاجتماعي والقبلي والظروف وشمرت عن سواعدها في متابعة كل الأحداث ومراقبة جميع التصرفات التي رأت خلالها تفكيرا يلح على أهل فزان بالالتحاق بإخوانهم في جناحي الوطن.. برقة وطرابلس.

وعموما كانت الإدارة الفرنسية في فزان أثقل وطأة من رصيفتها في برقة وطرابلس. كانت دولة احتلال في الصحراء وكذا في تونس والجزائر القريبتين. وربما اعتبرت نفسها كذلك خلال تلال فزان ودروبها الواسعة. جلبت واستعانت بالموظفين والمدرسين من الجزائر وتونس. وأحكمت قبضتها عبر الملاحقة والتقارير والوشاة.

هذا الواقع المرير في جملته كان يحتاج إلى إسناد محلي في محاولة من فرنسا لإنجاح حيلها وأساليبها من وراء ستار.

لكن أغلب الرجال هناك لم يكونوا عملاء أو خونة أو تابعين لها بالضرورة. استخدموا الحيلة والوسيلة ذاتها.

حمد سيف النصر نظروا إليه نظرة فيها تقدير. وعلى هذا الأساس تشكل مجلس فزان الاستشاري واختير رئيسا له. كان المجلس بمثابة حكومة محلية، كما سلف القول، واعتبر سيف النصر هنا من قبل المقيم الفرنسي الخاضع لباريس وممثل حكومتها في فزان المسيو سير زاك رئيسا لتراب فزان.

هكذا سمي في القرار رقم 2 الصادر في فور لكلير في الثاني عشر من فبراير 1950.

وهذا القرار أيضا تم بموجب إجماع الجمعية التي تشكلت من المناطق والقرى في فزان وضمت ثمانية وخمسين عضوا على انتخاب حمد سيف النصر لإدارة الحكومة.

هذه الإجراءات اتخذت في ذلك الإقليم البعيد طبقا للمبادئ والقواعد التي أقرتها هيئة الأمم المتحدة فيما يتصل بالنظام القادم في المستقبل (للقطر الليبي). وأشارت تلك الخطوات وترتيبات الانتخاب إلى أن ثمة رغبة قوية فرنسية في إدخال أهالي فزان لممارسة الشؤون العمومية ووضع أسس في ذات الوقت لحكومة يمكن بفضلها تسيير وإدارة إقليم فزان.

خُصص ستة مستشارين لمساعدة البي حمد، كما يعرف في الأوساط الفرنسية والمحلية، في المسائل المتعلقة بالعدل والمالية والاقتصاد والفلاحة والصحة والداخلية والمعارف، إضافة إلى وجود جمعية استشارية تتألف هي الأخرى من أعضاء منتخبين بجمعيات البلدات والقبائل الرحل في فزان وصدر نظام مؤقت لذلك من خمسة فصول أضحى نافذ المفعول اعتبارا من اليوم الثاني عشر من فبراير 1950 أيضا.

تشكل المجلس الحكومة في فزان ومارس اختصاصاته في اليوم ذاته وإلى إعلان الاستقلال في الرابع والعشرين من ديسمبر 1951.

وهذه الخطوات، كما يلاحظ، تأتي في سياق جدولة أقرها العالم للمضي قدما نحو ذلك للبلاد بأقاليمها الثلاثة. تمهيدا بالتدريج لتحقيق الأمم المتحدة وانتقال السلطات من فرنسا وبريطانيا باعتبارهما محتلتين وتديران الشؤون إلى تحقيق الوضع الجديد الذي يرنو إليه الليبيون جميعا مع الأمم المتحدة ذاتها التي رسمت معالم الطريق.

إن هذه الخطوات لم تختلف كثيرا في تشكيل هذه المجالس أو الحكومات المحلية في الأقاليم الثلاثة ولعلها كانت مرانا أو تدريبا أو تجربة يخوضها رجال وصناع المستقبل الليبي بكل السلبيات والإيجابيات وأطياف التفاصيل المتفرعة بين الضفاف القريبة والبعيدة.

كان ذلك كله ملزما لليبيين ومن يتقدم صفوفهم ولم تكن ثمة دروب أخرى للوصول إلى الاستقلال.

البلاد تفتقر إلى الخبرات وإلى الإمكانيات ويضربها الفقر والجوع والأمية والجهل وينتشر فيها المرض وتتصارع حولها أطراف وقوى تريد الفوز بالغنيمة وتثبيت أقدامها في الأرض الليبية.

وكان هناك ليس ثمة مفر من خوض هذه التجربة بالرضا أو بغيره. عالم خلق هذا الواقع ولابد من التعامل معه بشتى الأساليب.

البي حمد كوّن مجلسه برئاسته وضم حمودة بن طاهر لإدارة العدل والداخلية ونصر بن سالم المقرحي لإدارة المالية والزراعة ومهدي بن حمد لإدارة الصحة والمعارف.

وسيلاحظ الباحث أو المتابع لمسيرة الحكومات الليبية أن أغلب هذه الشخصيات خلالها في برقة أو طرابلس أو فزان ستواصل وجودها بعد تأسيس دولة الاستقلال ومجالسها البرلمانية وحكوماتها.
مجلس فزان عكف على التنسيق مع الإدارة الفرنسية رغم حساسية الوضع في الإقليم وصعوبة تقبل الناس هناك، إلى حد ما، التعامل بهذا الشكل وحقق بعض الأمور وأنجزها..

فمثلا تابع الاتصالات بشأن مجلس الأمم المتحدة في ليبيا واختيار ممثلي فزان في لجنة الواحد والعشرين ثم في جمعية الستين (الوطنية) والتواصل مع مندوب الأمم المتحدة في زياراته لفزان وتحقيق برنامج تسليم السلطات إلى الليبيين والتشاور في وضع إعلان لقانون النقد ثم إعلان انتقال السلطات إلى الحكومة الاتحادية المؤقتة في ليبيا وإصدار قانون الانتخاب الخاص بفزان وغيرها من اختصاصات.

ولوحظ هنا إصدار طوابع بريد تحمل صورة البي حمد سيف النصر. كما لوحظ أن المناهج التعليمية في إقليم فزان ظلت تسير وفقا للمنهجين التعليميين في تونس والجزائر بعكس المنهج المصري الذي كان ينفذ في برامج التعليم في إقليمي برقة وطرابلس.

إن المجالس أو الحكومات المحلية كانت في واقع الأمر بشكلها الذي تمت به ونفذت في فترة وجيزة من ميلاد الدولة الليبية الحديثة وإعلان استقلالها.. كانت رغم قصر مدتها حافلة بالعديد من الوقائع والأحداث.

صحيح أن الأقاليم كانت متباعدة وتفاصيل الإدارة المحلية اختلفت عن بعضها لكنها في المجمل ظلت تجربة ماثلة في خطوات نشوء دولة الاستقلال.

رجال هذه التجربة وشخصياتها عرف أغلبهم الحاجة إلى اكتساب المعرفة السياسية والإلمام بها والاستفادة من وجود سلطات الإدارتين الفرنسية والبريطانية مع مراعاة وجود نقاط الاختلاف أو التصادم في بعض الأحيان.

الحكومات المحلية كانت من خطوات تحقيق استقلال ليبيا.

في طرابلس تشكل مجلسها الإداري. مشوار آخر في التجربة ظل ينسق مع الإقليمين في مسيرة تحقيق الاستقلال. وأفضت إلى تشكيل الحكومة الوطنية الأولى المؤقتة عبر جلسات الجمعية الوطنية التأسيسية.

خطوات في مسيرة الحكومات الليبية.. بلا توقف. تجربة سياسية معاصرة ومهمة في تكوين الدولة ونشوئها خلال ظروف ومصاعب لا تتوقف بدورها أيضا !!

____________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *