سالم الكبتي

(الرجال يموتون.. ولكن مبادئهم لا تموت)

كانت الحكومات المحلية محاولة وطنية كما تبين لنا في وجه قوة الإيطاليين وخديعتهم المستمرة بكل الأشكال.

كانوا يناورون ويُفشِلون كل تلك المحاولات بكل جهودهم ويظهرون خلاف ما يضمرون. لقد دأبوا على ذلك ولم يكن في نيتهم إنجاح أو ظهور أية استقلالية وطنية تتحدى وجودهم.

كانوا في اللحظة ذاتها يستفيدون من الوقت ويستغلونه بممارسة المزيد من الخدع وتقديم المساومات الكاذبة.

كانوا يعرقلون كل جهد سلمي باتجاه الاستقرار وتحقيق الذات الوطنية وتأصيلها زمن الاحتلال.

ولهذا صعب على الجهد الوطني بذل جهده المطلوب في هذه الظروف. وربما هذه الحكومات في طرابلس وإجدابيا وعبر مناطق نفوذهما ظلت تشعر بالخيبة جراء ما يقوم به الإيطاليون في السر والعلن وتأكد لديهما بكل الطرق أن الغدر قادم والخيانة ستقع.

توحدت الجهود الوطنية مرة أخرى بعقد مؤتمر غريان في نوفمبر 1920 الذي حاولت إيطاليا إحباط فكرته من الأساس.

وفوق قمة الجبل هناك أدرك الزعماء حاجتهم إلى أن الحل النهائي والوحيد لمواجهة الحيل الاستعمارية هو في (الوحدة) وإجماعهم على رجل واحد يتولى الأمور وتنتخبه الأمة ولا يعزل إلا بحجة شرعية وإقرار مجلس النواب وتكون له السلطة الدينية والمدنية والعسكرية بموجب دستور تقره الأمة بواسطة نوابها وأن يشمل حكمه جميع البلاد بحدودها المعروفة.

ذلك ما توثقه المعلومات التاريخية المؤكدة في مصادرها الثابتة الصحيحة.

كان ثمة إدراك وفهم للمخاطر التي يجتازها الوطن وما يمر به من تأزم الحالة وزيادة الصراع بين الأطراف الذي يسعد ويسر به الاحتلال منذ مطلع كل نهار.

وهنا قرر المؤتمر أيضا إيفاد وفدين يمثلانه:

الأول، إلى برقة لمفاوضة الأمير إدريس وحكومته الذي كان مهتماً بالحالة الصعبة في طرابلس وأسهم من جهته في الدعوة إلى التوفيق بين زعمائها وسد ثغرات الفتنة ونبذ الخلافات الشخصية

والثاني، إلى روما لنقل هذه الرغبة المعلنة في قراراته ومطالبتهم بتحقيق ما وعدت به إيطاليا عبر القانون الأساسي وصلح سواني بنيادم.

كما وصل المؤتمر إلى قرار آخر قد يكون بديلاً من جهة أخرى لحكومة الجمهورية (وإن كان يبدو شبيها بتشكيل حزب سياسي) يجري بموجبه انتخاب هيئة دائمة لإدارة الأمور في طرابلس ونواحيها بمسمى هيئة الإصلاح المركزية.

وقد اختير السيد أحمد المريض زعيم قبائل ترهونة رئيساً لها وبعضوية تسعة عشر شخصاً إضافة إلى اختيار عبد الرحمن عزام مستشاراً للهيئة المذكورة.

ظلت الهيئة وهي بمثابة حكومة محلية في الواقع دون أن تكون حزباً تتولى إدارة الشأن المحلي والتصدي للخلافات بالتوكيد على قراراتها في مؤتمر غريان الذي مرت الإشارة إليه.

كان الوفد الذي ذهب إلى إيطاليا يتكون من:

فرحات الزاوي رئيساً

ونوري السعداوي والصادق بالحاج وخالد القرقني .. أعضاء

وعبد السلام البوصيري سكرتيراً للوفد

وقد مكث هناك تسعة أشهر وعاد دون أن ينجح في مساعيه أو تحقيق أي تقدم لإنجاز مطالبه من الإيطاليين الذين كانوا يماطلون ويعرقلون كل المساعي الوطنية ورفضت في النهاية صراحة الاستجابة لتلك المطالب وكانت قد أرسلت وفداً من جهتها يضم بعض الأعيان والشخصيات لمناوءة وفد مؤتمر غريان وإفشال مساعيه.

هذه خطوات إيطاليا الاستباقية لضرب كل المشاريع والمحاولات الوطنية وإصابتها في مقتل موجع.

ومقابل الإخفاق المؤسف الذي ناله الوفد في روما حقق الوفد الثاني الذي اجتمع بوفد حكومة إجدابيا في سرت خلال شهري ديسمبر 1921 ويناير 1922 نجاحات طيبة تحسب للعمل الوطني وحراكه في تلك الظروف الذي قامت به الحكومات الوطنية في الفترة ذاتها.

ظلت سرت شاهدة على اجتماعات متواصلة أيام الشتاء في هذين الشهرين ونتج عنها قرارات مهمة لعل في مقدمتها:

ضرورة توحيد الزعامة في البلاد (البند الخامس)

واتخاذ الوسائل اللازمة لإنشاء الإمارة الليبية (البند السادس)

وانتخاب مجلس تأسيسي من الفريقين لوضع القانون الأساسي والنظم اللازمة لإدارة البلاد (البند السابع)،

إضافة إلى إرسال مندوب من برقة وآخر من طرابلس يمثل كل منهما جانبه لدى الجانب الآخر كعمل تمهيدي مشترك بين الطرفين.

كان مؤتمر سرت خطوة إيجابية قامت بها الحكومتان في طرابلس وبرقة على المستوى الوطني المرتقب وقد مثّل طرابلس في حكومة إجدابيا بشير السعداوي فيما مثّل برقة لدى هيئة الإصلاح المركزية عبدالعزيز العيساوي.
كانت الأطراف الوطنية من خلال هذه الجهود الدؤوبة تنظر إلى الواقع وتستشرف المستقبل وتستشعر الإحساس بالخطر وتدرك مواقف إيطاليا العدائية التي تستهدف (الوحدة الليبية)ز

ولذلك تسارعت خطوات تلك الأطراف مع الزمن وبايعت الأمير إدريس السنوسي أميراً على ليبيا في سبتمبر 1922 الذي قبل هذه البيعة بشروطها كاملة، وبهذا التطور السياسي تكون القضية الليبية، كما يشير المؤرخون، قد دخلت أيضاً في دور سياسي جديد سيؤثر حتماً على المسار الوطني واتجاهاته ومستقبله.

إن الأمور لم تمض كما يراد لها على أرض الواقع.

كشفت إيطاليا عن المزيد من وجهها في تدبير الفتن ومحاربة هذه الأفكار الوطنية التي ستجعلها في وضع حرج في الداخل والخارج، فاستمرت هجوماتها العسكرية وإعادة احتلال المزيد من المناطق ونقض شروط الصلح مع الحكومات الوطنية وافتعال الحوادث وتخريب المساعي السلمية، وتوج ذلك كله بقيام الانقلاب الفاشستي ووصول موسوليني وأعوانه إلى الحكم في روما أواخر 1922. وهنا اشتعلت المقاومة الوطنية وظلت أكثر ضراوة وسعيراً جراء الغدر الإيطالي المتوقع.

تكوّن دور الجبل الأخضر في إبريل 1923 ولم يتوقف في مواجهة قوات الاحتلال ونشأ عن ذلك سلطة مهابة في ذلك الدور وقيادته وأعضائه. وظل الجميع يتفقون على أن هذه السلطة حكومة سنوسية يديرها الأمير إدريس بطريقة أو بأخرى من مهجره.

وظل رجال المقاومة يخربون في جنح الظلام ما تقوم به إيطاليا من أعمال في النهار وعرف ذلك العمل بأنه يقع من (حكومة الليل) وهي سلطة الدور.

أغلب الزعامات الوطنية لجأت بعد أن نقضت إيطاليا عهودها ونكثت بها إلى الهجرة وواصل بعضها عمله الوطني هناك بالقدر المتاح.

لم تكن في المهجر ثمة حكومات أو سلطات محلية ولكن كان هناك عمل وطني قد بدأ ينمو ويتزايد في مقاومة العدو وفضح أساليبه أمام العالم.

ونشأت الجمعيات والمنظمات الوطنية في أماكن هجرتها وصولاً إلى طريق الاستقلال الطويل الذي لم يكن في مجمله سهلاً وميسوراً.

الطريق الذي تفرعت منه دروب ومخاضات وولادات عسيرة وكانت من علاماته انطلاق الحكومات الوطنية داخل البلاد اعتباراً من سبتمبر 1949.. واستمرت في ذلك الطريق.

______________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *