عمر بوشعالة
برزت القضية الليبية في شهر مايو 1942م، إثر اندحار قوات المحور وانتقال العمليات الحربية من القارة الأفريقية إلى القارة الأوروبية، ومن ذلك التقت المجموعة المتحالفة والمنتصرة في الحرب، أمريكا وروسيا وبريطانيا وفرنسا في بوتسدام ثم في سان فرانسيسكو، بقصد بسط النفوذ والسيطرة على مستقبل المستعمرات الإيطالية السابقة في أفريقيا بما في ذلك ليبيا وأحالت هذه المسألة للتداول إلى المؤتمرات الدولية التالية:
أولاً، مؤتمر لندن عام 1945م:
عقده في سبتمبر1945م، وزراء خارجية الدول الكبرى المنتصرة، وهى الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا، لبحث وضع المستعمرات الإيطالية السابقة ومنها ليبيا، وقبل مواصلة متابعة هذه الاجتماعات، نشير إلى أنه تزامناً معها وحرصاً على القضية الليبية أرسلت جامعة الدول العربية وبعض الدول الأخرى مذكرات تثبت فيها أحقية ليبيا في الاستقلال وضرورة وحدتها التي تحتمها عوامل كثيرة منها الاقتصادية والاجتماعية واللغوية والجغرافية.
كما أثيرت قضية ليبيا في مؤتمر ملوك ورؤساء الدول العربية في 1946م، الذين أصدروا توصياتهم إلى الجامعة العربية لكي تعمل على مساعدة ليبيا في مساعيها التحررية.
كما أثيرت قضية ليبيا في سنة 1946م، ولكن الوزراء لم يتوصلوا إلى اتفاق، وافترضت الولايات المتحدة فرض وصاية دولية جماعية على ليبيا، ثم تغير موقفها إلى انتداب لجنة مراقبة دولية لإدارة هذه المستعمرات عن طريق حاكم يعينه مجلس وصاية الأمم المتحدة ويعاونه ممثلون عن الدول الأربع والسكان الأصليين.
أما الاتحاد السوفييتي فاقترح فرض وصاية سوفييتية على طرابلس، ولما أرادت فرنسا إعادتها إلى إيطاليا تبنى السوفييت في النهاية وجهة النظر الفرنسية مع الإصرار على أن تكون الوصاية سوفيتية – إيطالية، واتسم موقف بريطانيا والولايات المتحدة على الوصاية الإيطالية بشرط ألا تشمل برقة، وقد رأت الدول الكبرى أن المقترحات المتعلقة بالمستعمرات هي موضوع يبحثه مجلس وزراء الخارجية.
ويبدو أن مجلس وزراء الخارجية للدول الأربعة الكبرى في ذلك الوقت وافق من حيث المبدأ على أن المستعمرات الإيطالية السابقة يجب أن توضع تحت الوصاية وفقاً للنظام الذي وضعته الأمم المتحدة.
ولكن كان ثمة خلاف كبير حول شكل الوصاية وحول الدولة أو الدول التي قد يعهد إليها بتولي سلطة الإدارة، فتقدمت الولايات المتحدة الأمريكية بخطة “الوصاية المشتركة” تحت إشراف الأمم المتحدة والتي تستمر، في حالة ليبيا عشر سنوات، تمنح تلك البلاد الاستقلال في نهايتها.
وقد رأى الاتحاد السوفيتي أنه، بحكم “الخبرة الكبرى” التي اكتسبها في “إقامة علاقات الصداقة بين الشعوب متباينة القوميات“، يحسن أن يعهد إليه بإدارة منطقة طرابلس، واقترح على المجلس أن عشر سنوات تكفي لإعداد البلاد للاستقلال.
وقد أكد “مولوثرف” وزير خارجية الاتحاد السوفيتي، بأن “النظام السوفييتي لن يدخل هذه البلاد منفصلاً عن النظام الديمقراطي الذي يرغب فيه الشعب“. وقد أوضح أن الاتحاد السوفييتي يريد أن يكون له منفذ إلى البحر الأبيض المتوسط، وطالب بأن يكون هذا المنفذ في منطقة طرابلس.
ومها يكن، فلم تكن فرنسا ولا بريطانيا على استعداد لقبول الاقتراح السوفيتي، ومن الجهة الثانية، كانت بريطانيا على استعداد لتأييد الاقتراح الأمريكي “بوصاية مشتركة” بشروط، ولكن فرنسا لم تكن مستعدة لقبوله حتى ولو من حيث المبدأ، إذ كانت تخشى أن يُحدِث مثل هذا الاستقلال أثراً في لمستعمراتها الأفريقية.
ثانياً، مؤتمر الصلح في باريس 1946م:
أثر اتساع الهوة بين مطامع الدول الكبرى ورغبة كل منها في بسط سيطرتها بما يهدد مصالح دول أخرى بدأت سلسلة من الاقتراحات المتناقضة، انتهت إلى توقيع معاهدة الصلح مع إيطاليا من طرف الدول العظمى في باريس في العاشر من فبراير سنة 1947م، وأصبحت سارية المفعول بعد تصديقها وإيداعها الوثائق المصدقة في الخامس عشر من سبتمبر 1947م.
وكان المفروض أن يكون هذا المؤتمر استشارياً لمؤتمر وزراء الخارجية إلا أن وزراء الخارجية قد أعربوا عن رغبتهم في الأخذ بعين الاعتبار المقترحات وأن أي اقتراح يتم الاتفاق عليه بأغلبية الثلثين حول مصير المستعمرات الإيطالية، غير أنهم في الواقع لم يتوصلوا إلى اتفاق حول أي حل، فأيدت جميع الدول ما اتفق عليه وزراء خارجية الدول الأربع، ثم عُقدت معاهدة الصلح الإيطالية.
وما يهمنا في خصوص القضية الليبية هو البند “23” من تلك المعاهدة وعلى ما جاء به الاقتراح الأمريكي المعدل بالاقتراح البريطاني، ومما هو جدير بالذكر أن المادة “23” نصت على ما يأتي:
1- تتخلى إيطاليا عن جميع حقوقها وملكيتها للأراضي التي تملكها في أفريقيا.
2- تظل البلاد المذكورة “ليبيا” تحت الإدارة القائمة حالياً فيها، إلى أن يتم الاتفاق بشأن حل المشكلة نهائياً.
3- يتم التصرف بالبلاد المذكورة تصرفاً نهائياً بناءً على قرار مشترك تصدره حكومات الاتحاد السوفييتي وبريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا على مدى سنة تبدأ من وضع المعاهدة الحالية موضع التنفيذ وذلك على أساس التصريح المشترك الصادر في 10 فبراير عام 1947م، والذي أصدرته الحكومات المذكورة.
4- وكان تصريح الدول الأربع – الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفييتي – لمعاهدة الصلح مع إيطاليا تنص على ما يلي:
– أن حكومات الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا اتفقت على أن تقدم تقارير مشتركة في غضون سنة من وضع معاهدة الصلح مع ايطاليا المعقودة في 10 فبراير 1947م، حلاً نهائياً لمشكلة البلاد التي كانت تمتلكها إيطاليا في أفريقيا والتي تنازلت إيطاليا عن جميع حقوقها في مستعمراتها السابقة بموجب المادة “23” من المعاهدة المذكورة.
– أن حل مشكلة البلاد المشار إليها والتعديل المشروع لحدودها تقوم به الدول الأربع في ضوء رغبة السكان والمحافظة على السلم والأمن، مراعية في ذلك وجهة نظر الدول المعنية بالأمر.
– إذا استعصى على الدول الأربع الوصول إلى حل مشكلة أي بلد من تلك البلاد في حدود سنة بعد وضع معاهدة الصلح موضع التنفيذ تحال المشكلة إلى الجمعية العامة وتتعهد الدول بقبول التوصية وتنفيذها.
– يستمر وكلاء وزراء الخارجية تقديم توصياتهم إلى مجلس وزراء الخارجية حول المشكلة ويبعث الوكلاء لجان تحقيق إلى أي بلد من المستعمرات الإيطالية السابقة تكون الغاية منها تزويد وكلاء وزراء الخارجية بالمعونات اللازمة لهذه القضية وللتوثيق من وجهات نظر السكان المحليين.
وكان حل القضية المتعلقة بمصير المستعمرات الإيطالية السابقة وفقاً لمعاهدة السلام مع إيطاليا بالإضافة لاحتساب رغبة الأهالي ومصالح السلام والأمن الدوليين بما يعني فقدان الدول الغربية لسيطرتها في هذه البلدان وحرمانها من القواعد العسكرية فوق أراضيها وسحب جيوشها من هناك.
وقد بنى الشعب الليبي مطالبه المتعلقة باستقلال بلاده ووحدتها ليس فقط على الحق المعترف به بالحكم الذاتي وحق تقرير المصير بل وعلى حقيقة كون ايطاليا قد تخلت وفق تلك المعاهدة عن كل حقوقها في المطالبة بليبيا، وقد أعاد هذا التخلي لليبيا وضعها السياسي الأسبق، حيث كانت تركيا قد تخلت بدورها عن معاهداتها الموقعة في لوزان في 18-10-1912م، 24-6-1923 أي عن جميع الحقوق والمطالب المتعلقة بليبيا وعلى هذا تحررت ليبيا من أية سيطرة أجنبية وأقامت حقها في الاستقلال.
وفي اجتماع جامعة الدول العربية وبعد مناقشة طويلة حول تطورات القضية، قرر مجلس الجامعة إرسال مذكرة إلى الدول المشتركة في مؤتمر الصلح مع إيطاليا للمطالبة بحق أهالي ليبيا في الوحدة والاستقلال وحقهم في اختيار نظام الحكم الذي يرتضونه لأنفسهم على أن تكلف الأمانة بإعداد هذه المذكرة وتبليغها إلى هذه الدول مع مداومة مساعيها لتحقيق هذا الغرض.
…
يتبع
___________